يريد أن “يملأ الدنيا ويشغل الناس”. “في كل عرس له قرص”. “يهوى الخطابة ويطوع الكلمات وتجيش عنده العواطف”. صاحب الاستعارة: “المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا”.هو من قال: “نحمل مشاعر جيش صلاح الدين الأيوبي وهو يتقدم نحو القدس”. ومن قال أيضا: “قريبا سأصلي في الجامع الأموي في دمشق”. “سياسي داهية في وجه الخصوم والأصدقاء ومتحكم بلعبة مسرح وادي الذئاب”. “مجد تركيا المستعاد هدفه أيا كانت الوسيلة”. “إسلامي على طريقته يحلم بتخطي بني عثمان ويسعى لطمس إسهام أتاتورك”.
إنه رجب طيب أردوغان دون قفازات القوة الناعمة، صاحب مشروع سلطوي إمبراطوري أصبحت فيه الديمقراطية مطية، والعلمانية بين هلالين، والاستعانة بالإسلام درباً لاسترجاع المجد. في الحياة كما في السياسة الطموح أمر طبيعي فكيف إذا أصبح هذا الطموح نابعا من شخص مثابر مسكون بالتاريخ، يتقن سحر الكلمة ويتناغم عنده التوجه الديني كأيديولوجية معركة، والليبرالية الاقتصادية كمنهج للنجاح.
قيل الكثير عن القصر الجمهوري الجديد في أنقرة، “القصر الأبيض” الذي أقيم على مئتي ألف متر مربع على حساب محمية خضراء ويتألف من 1050 غرفة. رغم اتهامه بجنون العظمة من قبل معارضيه، وجد الرئيس التركي الكلمات لتبرير الإنفاق: “لا يجب التوفير عندما يتعلق الأمر بهيبة أمة”، مشيرا إلى أن “القصر هو ملك للشعب وليس له” وكان لافتاً مشهد أردوغان يختال في قصره إلى جانب سيد قصر الكرملين بوتين، وكان معبرا منظر حرس شرف يحاكي التاريخ التركي عند استقبال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وكأن هدف أردوغان الوصول بتركيا إلى مصاف إمبراطوري يتأقلم مع القرن الحادي والعشرين يبدأ تجسيده بمظاهر الأبهة الأسطورية.
في عام 2014 تراجعت تركيا في الإقليم وتلقّى نفوذها ضربات قاسية في المحيط المباشر، لكن نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية، ونجاح أردوغان في الانتخابات الرئاسية شكلا إنجازا للسلطان الرئيس إذ تجاوز تداعيات أحداث تقسيم، وأجهز على حليفه السابق فتح الله غولن وما يسميه “الكيان الموازي”، ولم يهتز بدء التطبيع مع الأكراد بالرغم من معركة كوباني – عين العرب. وهذا الإمساك بالداخل التركي سيكون على المحك في 2015 مع الانتخابات العامة في يونيو القادم وصياغة دستور جديد يرسم معالم نظام شبه رئاسي أو رئاسي يتم تفصيل ثوبه على قياس أردوغان الذي يأمل في انتزاع ولاية ثانية عام 2019، وهكذا يكون عنده من الوقت حوالي عقد من الزمن ليستكمل مشروعه حول تركيا الجديدة.
تركز نجاح أردوغان في تحقيق طفرة في الاقتصاد التركي بفضل ديناميكية أمة شابة وإدارة فعالة واستفادة من صعوبات الجوار الإقليمي، ولكن الإنجاز كان يشوبه فساد متجذر وعدم توزيع عادل للثروة. ومن هنا ستكون رئاسة تركيا هذا العام لمجموعة العشرين فرصة لإبراز وجه آخر لنجاح اقتصادي نسبي على صعيد عالمي، وذلك بعد نكسة أنقرة العام الماضي وفشلها أمام أسبانيا في الحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي. يتوافق الكثير من المراقبين على أن استمرار شعبية أردوغان في الداخل ناتج عن غياب وجوه معارضة لامعة، وعن استقطاب حاد عبر شد العصب التركي السني الأكثري على حساب الأقليات الأخرى والعلمانيين، ويرتبط بالاستقطاب على صعيد الإقليم مع ما ينطوي عليه من تناقضات في النهج الأردوغاني.
ففي موازاة استمرار الحرب الكلامية مع إسرائيل، والمهادنة مع إيران (علاقات اقتصادية قوية وتعاون على احتواء الحلم الكردي وحرب بالوكالة خجولة في سوريا مع مراعاة للخطوط الحمر)، لم يتقبل الرئيس التركي خسارة الإخوان المسلمين أو إبعادها في عدة دول عربية، لأنه ربط صعوده الإقليمي بتركيبة جديدة كانت واشنطن وافقت عليها مبدئيا. واليوم بعد المصالحة داخل البيت الخليجي والمنهج القطري الحذر، يجد أردوغان نفسه في شبه عزلة في مواجهة مصر. ومما لا ريب فيه ان الغيرة على الديمقراطية ليست السبب الرئيسي، بل هناك العامل الجيوسياسي في التنافس على الزعامة الإقليمية وعلى الريادة السنية تحديدا، وهذا ما يفسر، أيضا، اضطراب الصلة مع المملكة العربية السعودية. في فترة حكم محمد مرسي، اقترب الاخوان المصريون من طهران ولم يلتصقوا بأنقرة وذلك لم يغظ أردوغان الذي ربما يستسيغ تقاسم النفوذ مع طهران على حساب القوى العربية.
رغم العثرات تبدو دروب أردوغان سالكة نحو ممارسة ديمقراطية محدودة وسلطوية أكبر، تترك له هامش مناورة في الداخل والخارج. يكمن امتحان الاندفاعة الأردوغانية على الصعيد الإقليمي في الملفين السوري والكردي وما بينهما من داعش وأخواتها.
استفاد حزب العدالة والتنمية من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لتحقيق إصلاحات أسهمت في الاقتراب من بناء دولة حديثة، بيد أن إغلاق أبواب بروكسيل أمام أنقرة أتاح لتركيا التحول نحو الشرق، وساعد ذلك أردوغان في مداعبة شهوة الحكم المطلق. بقدر ما يبتعد أردوغان عن مصطفى كمال ويقترب من مثال عبدالحميد الثاني، لا شبه له في اندفاعته الإمبراطورية، كما يقول أحد العارفين بالشأن التركي، إلا عمر البشير على المصغّر، وشاه إيران على المكبّر.
أستاذ العلوم السياسية، المعهد الدولي الجغرافيا السياسية باريس
khattarwahid@yahoo.fr