أن يكون أحد الإرهابيين أو اكثر، من بين الذين شاركوا في جريمة صحيفة “شارلي إبدو” في باريس زار اليمن، وتدرّب فيه على يد “القاعدة”، مؤشّر في غاية الخطورة. مثل هذا التطور يعطي فكرة عن النتائج الكارثية التي يمكن أن تترتّب على فشل المرحلة الإنتقالية التي بدأت بخروج الرئيس علي عبدالله صالح من السلطة في شباط ـ فبراير من العام ٢٠١٢.
مثل هذا الفشل، الذي من سماته الأخيرة زيادة حدّة النزاع المذهبي في بلد معروف تاريخيا بأنّه كان بعيدا كلّ البعد عن مثل هذا النوع من الصراعات والتجاذبات، يهدّد بعواقب وخيمة.
لا تنسحب هذه العواقب على اليمن وحده، بل تشمل كلّ المنطقة المحيطة به أيضا. فضلا عن ذلك، يخشى من تحوّل اليمن إلى افغانستان أخرى، أي ان تصبح حاله كما كانت عليه الحال في افغانستان قبل الحرب الأميركية ـ الأوروبية التي استهدفت اخراج “طالبان” من السلطة.
كان مبرّر تلك الحرب أن “طالبان” وفّرت مأوى آمنا لـ”القاعدة” ولأسامة بن لادن الذي تحوّل إلى الحاكم الفعلي لأفغانستان. تبيّن، وقتذاك، أنّ زعيم “طالبان” الملّا عمر يعمل لدى اسامة بن لادن وليس العكس وأنّ المحاولات التي استهدفت حمل الملّا عمر على تسليم زعيم “طالبان” إلى إحدى الدول المعنية تمهيدا لمحاكمته في قضايا مرتبطة بالإرهاب كانت مبنية على رهانات لا علاقة لها بالواقع.
الخوف في المرحلة الراهنة أن تؤدي التطورات في اليمن إلى ايجاد “القاعدة” ارضا تتحكّم بها في اليمن، على غرار ما كانت افغانستان قبل ٢٠٠١. صحيح أن “القاعدة” موجودة بقوّة في مناطق عدة من البلد، لكنّ الصحيح أيضا أنّها لم تستطع في أي وقت اقامة كيان آمن خاص بها، تتحرك فيه بكل حرّية، يجعلها تعوّض ما خسرته في افغانستان. ساهم في الحدّ من طموحات “القاعدة” وجود بقية مؤسسات للدولة فضلا عن الضربات التي كانت ولا تزال توجّهها لعناصر “القاعدة” طائرات اميركية من دون طيّار.
ما الذي يمكن أن يجعل الوضع اليمني يتدهور أكثر؟ قبل كلّ شيء، لم يعد من وجود لسلطة مركزية قويّة يمكن الإستناد إليها في عملية البحث عن صيغة جديدة لإعادة تركيب البلد بطريقة معقولة. مثل هذا الوضع يحول دون اعادة بناء المؤسسات الرسمية المنهارة، بما في ذلك مؤسسة القوّات المسلّحة والمؤسسات الأمنية الأخرى.
لم يعد ذلك ممكنا، خصوصا منذ سيطر الحوثيون، أي “انصار الله” المدعومين ايرانيا، على صنعاء في الواحد والعشرين من ايلول ـ سبتمبر الماضي وفرضهم بقوة السلاح ما يسمّى “اتفاق السلم والشراكة”. هناك مشروع واضح لـ”انصار الله” يقوم على بناء نظام جديد في اليمن. مثل هذا المشروع يؤسس لحروب مذهبية معروف كيف تبدأ وليس معروفا كيف يمكن أن تنتهي باستثناء أنّها توفّر حاضنة شعبية لـ”القاعدة” التي سيصبح قسم كبير من السكان في مناطق معيّنة في حاجة إليها لحماية انفسهم من تمدّد “انصار الله” من منطلق مذهبي بحت.
ما لا يمكن تجاهله أنّه لم يكن ممكنا تمدّد “داعش” في سوريا والعراق لولا النظام السوري الذي يذبح شعبه بكل ما تقع يده عليه، حتّى بالبراميل المتفجّرة والميليشيات المذهبية الآتية من لبنان والعراق. كذلك، لم يكن ذلك ممكنا لولا الممارسات المفضوحة ذات الطابع المذهبي لحكومة نوري المالكي. تكفّلت تلك الممارسات، للأسف الشديد، بجعل قسم كبير من السنّة العرب في العراق على استعداد للتحالف مع الشيطان وليس فقط القبول بـ”داعش”…
على الرغم من هذا الواقع الأليم، لا يمكن تجاهل أنّ هناك رغبة دولية في منع “داعش” من اقامة كيان لها في سوريا والعراق. يساعد في ذلك وجود قوى عراقية وسورية، من بينها الأكراد، على استعداد للوقوف في وجه “داعش” وتمدّدها. ولكن هل هذه الرغبة الدولية كافية لتحقيق الهدف المطلوب دوليا؟
في اليمن، يبدو الوضع مختلفا إلى حدّ ما في ضوء طموحات “انصار الله” ومن خلفهم ايران. هؤلاء لم يترددوا في السعي إلى السيطرة على الوسط الشافعي، بما في ذلك تعز في ظلّ غياب السلطة المركزية التي وقفت مكتوفة تتفرّج على ما يدور في البلد. وحده صمود أهل تعز جعل “انصار الله” يقفون عند حدود معيّنة، أقلّه حتّى الآن.
ليس سرّا أن “القاعدة” موجودة في اليمن منذ فترة طويلة. كان تفجير المدمّرة الأميركية “كول” في ميناء عدن في العام ٢٠٠٠ اكبر دليل على ذلك. وليس سرّا أنّه كانت هناك قوى يمنية شريكة في السلطة مرتبطة بطريقة أو بأخرى بـ”القاعدة”. لكنّ الجديد الآن يتمثّل في طريقة تعاطي “انصار الله” مع بقية مكوّنات المجتمع اليمني، خصوصا المكوّن الشافعي الذي يُخشى من تحوّله، في معظمه، إلى متغاضٍ عن “القاعدة” حتّى لا نقول متعاطفا معها.
ما يزيد الوضع سوءا الفراغ القائم في صنعاء، خصوصا بعد خسارة الرئيس الإنتقالي عبد ربّه منصور هادي رهانه على استنزاف الحوثيين للإخوان المسلمين واستنزاف الإخوان للحوثيين في معارك عمران التي حسمها “انصار الله” سريعا. حصلت معارك عمران في تمّوز ـ يوليو الماضي. شكّلت نقطة تحّول في البلد نظرا إلى أنّها مهدت الطريق امام فتح ابواب صنعاء أمام الحوثيين.
هل يكون اليمن القاعدة الجديدة لـ”القاعدة”؟ إنّه السؤال الذي سيفرض نفسه في ظلّ قدرة مواطنين اوروبيين، من اصول عربية وغير عربية، على دخول البلد والتدرب فيه على السلاح لدى “القاعدة” ثم العودة إلى بلدانهم لتنفيذ عمليات ارهابية. يفرض هذا الواقع عدم الإستخفاف بما يعنيه كون احد الإرهابيين، وربّما كان هناك ارهابي آخر أيضا، من بين الذين اعتدوا على “شارلي إبدو” في باريس من خريجي مدرسة “القاعدة” في اليمن!
ثمّة مؤشرات تبدو صغيرة في البداية، لكنّها تعطي فكرة عن وضع جديد يمكن أن يسود في بلد في غاية الأهمية من الناحية الإستراتيجية خصوصا بالنسبة إلى دول شبه الجزيرة العربية.