تفرض الأحداث نفسها علينا جميعاً، ما يدعونا كلبنانيين للتفكير في خيارٍ يجعل من لبنان بلداً قابلاً للحياة، لا بل أكثر من ذلك، بلداً نموذجاً لبلدان المنطقة.
تتلخّص المتغيرات الكبرى اليوم بالنقاط التالية:
• بلورة نظام عالمي جديد بزعامة الولايات المتحدة يرتكز على نظام اقتصادي ومالي وسياسي وعسكري وقضائي في إطار عولمةٍ متسارعة. كما يعيش العالم اليوم ثورة اتصالات وتواصل غير مسبوقة تجعل منه قرية صغيرة على شبكات التواصل الإجتماعي.
• إنهيار النظام العربي القديم الذي أعقب مرحلة الإنتدابات الغربية، ثم نشوء دولة اسرائيل، والذي تميّز بقيام أنظمة إستبدادية عسكرية حاربت شعوبها بجدارة وحاربت اسرائيل بأشكال ملتبسة، مع احترامي لتضحيات الجيوش العربية.
• بروز تيارات إسلامية متطرفة، تتراوح ما بين دعوتَيْ دولة ولاية الفقيه ودولة الخلافة، مما شوّه صورة المنطقة وساهم في بروز تيار معادٍ للإسلام في الغرب أو ما يسمى بـ”الإسلاموفوبيا”، وبروز تيار آخر تكلّم عنه البابا فرنسيس خلال زيارته إلى تركيا مؤخراً، “الكريستيانوفوبيا” – وهو تيار معادٍ للمسيحية بزعمه أنها حاضنة للنظام العالمي المعادي لقضايا العرب والمسلمين العادلة، مثل قضية فلسطين وقضية الشعب السوري.
• دخول الإسلام كمكوّن إجتماعي وسياسي وانتخابي إلى أوروبا، وهو عاملٌ مؤثّر على ديموقراطيات الغرب. وقد بدأت معالمه تبرز مع الإعتراف المتواتر بدولة فلسطين من قبل البرلمانات الأوروبية بهدف تبريد العلاقات مع مسلمي أوروبا.
• بروز تيار مدني تجلّى في تونس ومصر وسيبرز في سوريا والعراق وبلدانٍ أخرى.
• محاولة قوى إقليمية غير عربية التحكّم بقرار المنطقة: اسرائيل- التي تدّعي احتكار الديموقراطية في المنطقة وترفع شعار “الأقليات في مواجهة الأكثرية العربية الإسلامية”، تركيا- التي تقدّم نفسها قوة إقليمية إسلامية قادرة على التفاعل مع العرب وفي الوقت نفسه قادرة على التفاعل مع النظام العالمي الجديد، وايران- التي تمددت بنفوذها حتى وصلت إلى البحر في غزة وبيروت مروراً بعواصم اليمن والعراق وسوريا.
• محاولة روسيا الدخول إلى المنطقة من باب الكنيسة الأورثودكسية التي تحاول التمايز عن كنيسة الغرب بوصفها مشرقية وقادرة على التفاعل مع الإسلام ومدافعة عن الأقليات في المنطقة.
• محاولة المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي الحفاظ على نظام المصلحة العربية بحيث لا يتحول العالم العربي الى ضواحي قوى اقليمية غير عربية.
• عودة الكلام على مسألة الأقليات في المنطقة. من مسيحيين ويهود وأيزيديين وعلويين ودروز وشيعة وغيرهم، والذين بغالبيتهم ينظرون إلى أحداث المنطقة بعين القلق، ويبحثون عن أشكالٍ مختلفة من الحماية. فهناك من يطرح “تحالف الأقليات” وهناك من حاول استجداء حماياتٍ أجنبية.
• “داعش” وتوابعها، التي أسقطت الحدود المرسومة بين الدول وفرضت معادلة العنف مقابل العنف و”الخلافة” في مواجهة “الولاية والدولة” معاً.
ومن الصعب جداً تحديد هوية هذا التنظيم أو معرفة مصادر نفوذه، لكنه فرض واقعاً وجنّد الشباب من كل أنحاء العالم وفرض “فوضى عالمية” تحتاج محاربتها إلى كثير من الدقة والمعرفة والرصانة.
والسؤال الذي يطرح نفسه لدى اللبنانيين: ما هو الخيار الذي ينبغي اعتماده والدفاع عنه؟ لأن المتغيرات الكبرى لا تهادن المجتمعات المترددة والكيانات المفككة.
لقد صمدت “التجربة اللبنانية”، المرتكزة إلى العيش المشترك، أمام عوامل داخلية وخارجية عمِلت ضدّها وحاولت إبراز لبنان “بلداً ممسوكاً وليس متماسكاً” – كما كان يسمّيه النظام السوري.
في العوامل الداخلية وبعد انتفاضة الاستقلال التي جمعت غالبية اللبنانيين حول حدثٍ اعتبروه من طبيعة وطنية تمثّل باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حاول “حزب الله”، من الداخل، فرز اللبنانيين طوائفَ ومذاهب من خلال الخطوات التالية:
1- التفرُّد بدعم الجيش السوري في لبنان في لحظة اعتراض الغالبية الساحقة من اللبنانيين عليه واتهامه باغتيال زعيمٍ وطني، وإطلاقهم ثورة ديموقراطية سلمية طالبت بانسحابه الفوري من لبنان وإحالة رجال جهاز الأمن اللبناني- السوري إلى المحاكمة.
2- الوقوف ضدّ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي شكّلت لدى غالبية اللبنانيين المناسبة الصالحة لوضع حدّ نهائي لمنطق التفلّت من العقاب وبهدف إنهاء عمليات الإغتيال السياسي التي طالت شخصيات وزعامات وطنية قبل وبعد الرئيس الحريري.
3- العمل على تغليب المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية من خلال التمسّك بجيشٍ حزبي وغير شرعي، يأتمر بإيران، ومحاولة التحكّم بقرار الجيش الوطني الشرعي.
4- محاولة إبراز قدرة الحزب على أنها أكبر من قدرة الدولة الشرعية على الإمساك بالأمور؛ فهو من يقرر السلم والحرب، وهو من يحقّ له التفاوض عبر وسيطٍ أجنبي للإفراج عن معتقليه في سجون اسرائيل، وهو الذي يجتاح المدن ويستخدم سلاحه في الداخل دون حسيبٍ أو رقيب.
5- محاولة إقناع طائفته أنها من دونه ستكون عرضة لمحاسبة شرسة وغير عادلة من قبل الطوائف الأخرى، لذا المطلوب التمسّك به، من قبلها، حمايةً لمصالحها الحالية والمستقبلية.
6- محاولة إقناع اللبنانيين والطوائف بأنه يمثّل النموذج الناجح في لبنان، وتشجيع الطوائف الأخرى لتحذو حذوه بالمباشر (توزيع السلاح تحت مسمّى “سرايا المقاومة”) وغير المباشر، عوضاً عن التمسّك بالدولة والقانون والدستور.
أما في العوامل الخارجية فنذكر:
1- الثورة السورية التي تحوّلت بحكم سلوك بشار الأسد إلى ثورة مسلحة، ما أدّى إلى بروز تيارات متطرّفة أخافت اللبنانيين، فبدؤا ينظرون إليها من مربعاتهم الطائفية بدلاً من مواجهة الأحداث من مساحة وطنية مشتركة.
2- نفوذ ايران الذي تمدّد بواسطة المجموعات العسكرية من اليمن حتى المتوسط.
3- تخاذل الغرب في وضع حدّ لمأساة الشعب السوري مما سيعرّض المنطقة بأكملها لكوارث حتمية.
لا شكّ أن هذه العوامل الداخلية المتمثّلة بسلوكيات “حزب الله” والخارجية الممتمثّلة بالأحداث الإقليمية قد هزّت أركان الإجتماع اللبناني، إنما من دون أن تنسف الأسس الحقيقية التي أجتمع حولها اللبنانيون.
وإذا كان في داخل الجسم اللبناني من يراهن على تفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية صافية أو على استمرار الحرب إلى ما لا نهاية أو على بروز تيارات إسلامية عنفية، فهناك أيضاً من يعتبر أن لبنان الموحّد والمرتكز على استخلاص الدروس من تجربة الحرب الأهلية وما بعدها يشكّل الجواب الشافي لهذه القراءات الخيالية أو الرهانات.
إن مواجهة الأحداث لا يمكن أن تكون من مربعات طائفية كما أنه لا توجد حلول لأزمات الطوائف بمعزلٍ عن حلّ وطني للجميع. وليس هناك من خلاصٍ للسنة وآخر للشيعة أو للمسيحيين والدروز، فإمّا أن ننجو جميعاً وإما نغرق منفردين.
لذا علينا ان نجعل من سنة 2015 سنة التفكير في إنشاء إطارٍ وطني يشارك فيه الجميع حول فكرة لبنان. إن هذه التجربة أصبحت رائدة اليوم في كل أنحاء العالم الذي يبحث عن سبل العيش بسلام في مجتمعاتٍ متنوّعة.