بماذا نفكر عندما نسمع خبر فوز الباجي قايد السبسي في انتخابات الرئاسة التونسية، وما هي التداعيات التي يثيرها خبر كهذا؟
أولاً، بحقيقة أن الإسلام السياسي في تونس خسر مرتين: في الانتخابات البرلمانية، وفي انتخابات الرئاسة. ولأمر كهذا دلالات في القلب منها أن محاولة الاستيلاء على الثورة التونسية فشلت. هذا لا يعني، بالضرورة، أن الثوريين هم الذين صعدوا إلى سدة الحكم، بل يعني أن الذعر الذي أثاره صعود الإسلاميين في أوساط شرائح اجتماعية واسعة (تمثل الأغلبية بدليل الانتخابات البرلمانية والرئاسية معاً) أرغم الناس على الاحتماء بخيار يبدو أقل خطورة، حتى وإن كان بعض ممثليه من رموز النظام القديم، مع التذكير بحقيقة أن الباقي من ميراث البورقيبية، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالحداثة والتحديث، لا يتنافى مع الثورة، بل ويمكن القول إن ذلك الميراث هو الذي حال دون استيلاء الغنوشي وجماعته عليها.
ثانياً، لم يكن لخيار الاحتماء بما يبدو أقل خطورة أن يتأتى لو كانت لدى المتظاهرين، الذين أطاحوا بنظام بن علي جبهة سياسية واحدة، ومُوّحدة، وراء مشروع للتغيير، ولو توفرت لديهم موارد وأدوات للقوّة تمكنهم من فرض إرادتهم على بقية الفاعلين السياسيين، وبعض هؤلاء كان، علاوة على موارده وأدواته، مدعوماً مباشرة، أو مداورة، من قوى في الإقليم والعالم.
ومع ذلك، في غياب الجبهة، والمشروع، والأدوات، ما لا يبرر نزع صفة الثورة عن ذلك الفعل التاريخي، الذي افتتح به التونسيون موجة الربيع العربي. فما وقع في تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسورية، تصدق عليه تسمية الثورة (بل لا تصح تسمية غيرها) على الرغم من اختلاف وتباين النتائج. وهذه وتلك تجد تفسيرها وتبريرها في الخصوصيات الاجتماعية والسياسية، التي وسمت تطوّر البلدان المعنية، وطبيعة نُظمها السياسية.
ثالثاً، لن نتمكن من فهم معنى الخسارة المزدوجة للإسلام السياسي التونسي، ما لم نضعها في سياق إقليمي وعربي أعرض وأشمل. ففي كل مكان في العالم العربي تبدو حظوظ الإسلام السياسي، اليوم، أقل بكثير مما كانت عليه حتى قبل عام مضى. وقد وقع التحوّل الأهم في مصر، التي تمثل قاطرة للعالم العربي بالمعنى السياسي والثقافي. وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى سقوط حكم الإخوان في القاهرة باعتباره تحوّلاً تاريخياً من عيار ثقيل. ولعل في تداعيات إقليمية ودولية، يصعب حصرها، ما يبرر الكلام عن صلته المباشرة وغير المباشرة بانحسار ظاهرة الإسلام السياسي في بلدان عربية مختلفة.
رابعاً، على الرغم من حقيقة أن خيار الاحتماء بخيار أقل خطورة من مشروع الإسلام السياسي، حتى وإن استدعى شخصيات من نظام سابق، يثير أسئلة وتساؤلات كثيرة حول معنى وجدوى ما حدث، وهي مشروعة في كل الأحوال، إلا أن إعادة إنتاج النُظم الأوتوقراطية السابقة في كل بلدان الربيع العربي تبدو مسألة بعيدة الاحتمال. فلن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، طالما أن الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي حرّضت على الثورة ما تزال قائمة.
ومنشأ هذه الفرضية أن ثورات الربيع العربي تُمثل تحوّلاً تاريخياً بعيد المدى، حرّضت عليه عوامل اجتماعية
وسياسية واقتصادية وثقافية، وحتى ديمغرافية، عميقة الجذور، ولن تتجلى ملامحه النهائية في وقت قريب.
لذا، ينبغي النظر إلى كل ما حدث ويحدث منذ تلك الأيام المجيدة قبل ثلاث سنوات، من زاوية أنه ينتمي إلى، ويصدر عن، التحوّل المذكور. وبهذا المعنى، يجدر التذكير بربيع الشعوب الأوروبية في العام 1848، ومصائره التي لم تتضح إلا بعد عقود طويلة، وانتكاسات كثيرة. وليس صحيحاً أن كل ما لا يشبه اقتحام الباستيل، أو قصر الشتاء في سان بطرسبرغ، لا ينتمي إلى جنس الثورة، فلكل تحوّل من هذا الطراز خصوصية لا تقبل التكرار.
خامساً، من هنا إلى أين؟ يُقال لك إن الإسلام السياسي جزء من المشهد السياسي في العالم العربي، وأن التحوّل الديمقراطي في تونس لم يكن ليتأتى لولا حكمة جماعة “النهضة”، التي جنّبت البلاد مخاطر الحرب الأهلية. وهذا الكلام يجب ألا يؤخذ على علاّته، وألا يُعامل دون تحفظات ضرورية. فحقيقة كونه جزءاً من المشهد السياسي لا تلغي حقيقة أنه لا يمثل (استناداً إلى تجارب انتخابية عربية مختلفة) أكثر من ربع أصوات الناخبين، بمعنى أنه لا يمثل الأغلبية، بالضرورة.
ومن ناحية ثانية، يستدعي التسليم باعتباره جزءاً عضوياً في المشهد السياسي (إذا كانت جماعة “النهضة” هي وسيلة الإيضاح، وكانت تجربتها قابلة للتعميم في بلدان أخرى) ما يلي:
أولاً، القبول بمكان ومكانة الأقلية، وثانياً، التأقلم مع المجتمعات القائمة، لا محاولة أقلمتها على مسطرة مشروعه السياسي والأيديولوجي الخاص. وثالثاً، بمعنى أوضح: عليه أن يتغيّر، وأن يقبل بمقاومة شرائح اجتماعية مختلفة لما يستدعيه، وينادي به، من تغيير، باعتبار مقاومة كهذه جزءاً من روح الأزمنة الحديثة، واللعبة الديمقراطية، ومن شروط انخراطه الطبيعي في المشهد السياسي، وليست، بالضرورة، مقاومة للدين وحرباً عليه، فلا يحق لجماعة سياسية احتكار الدين، وادعاء تمثيله الحصري، وحق النطق باسمه، أو نيابة عنه. ولا يحق لها، مع هذا كله، وقبله، وبعده، وفوقه، أن تعلن حرب الإرهاب على المجتمع، بصرف النظر عن النوايا والأهداف والدوافع، لأنه لا يوافق أو يتفق معها.
وحتى، وعندما، يحدث ذلك، فهذا كل ما ينبغي أن يُقال.
khaderhas1@hotmail.com