3-
وبهذا المعنى فإن غاية داعش هي تدمير فكرة الحضارة نفسها، وتنظيف أمة مُتوّهمة من كل ما علق بها من آثام الأزمنة الحديثة. وفي هذا السياق يبدو قتل البشر مجرد وسيلة إيضاح، وخارطة طريق لذاكرة وهمية مضادة تُغلق قوس الذاكرة بطريقة وصفها “مرسيا إلياد”، قبل عقود، في أسطورة العود الأبدي. وهذا، بالذات، ما يضع داعش في الإطار الكوني العام للنازية الألمانية، والمحرقة، وما يبرر صعوبة وضعها على قدم المساواة مع تجارب وحشية في الهندسة الاجتماعية مثل الخمير الحمر في كمبوديا، أو حتى مذابح الإبادة العرقية في رواندا.
داعش هي النازية الألمانية بخصائص عربية، وإسلامية، وشرق أوسطية، وحداثية مُستمدة من حقيقة أنها تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، وتستفيد من تقنياته، وموارده، وخصوصياته. وما ستفعله بالعالم العربي، وبالعالم، إذا نجح مشروعها، سواء تعلّق الأمر بالأقليات الدينية، والقومية، والطوائف الإسلامية غير السنيّة، أو كل مَنْ يعترض عليها بين المسلمين السنّة، هو ما فعلته النازية الألمانية باليهود، والغجر، والمثليين الجنسيين، والمُعاقين، والروس والبولنديين، وما كان يمكن أن تفعله بالأجناس الأدنى، في سلم النشوء والارتقاء، من العرق الآري.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن أوجه الاختلاف لا تلغي أوجه الشبه، بقدر ما تُسهم في تعزيزها، باعتبارها الوجه الآخر للعملة نفسها، حتى وإن وضعت النازية على وجهها قناع العرق، ووضعت الداعشية على وجهها قناع الدين. فالنازية يمكن تعريفها في النسق الثقافي والسياسي الأوروبي، وفي زمانها ومكانها بمرض الحداثة، والداعشية يمكن تعريفها في النسق الثقافي والسياسي العربي (والإسلامي) بحداثة وتحديث المرض.
مرضت الحداثة الأوروبية في حروب الإقطاع والكنيسة والسلالات الملكية في مجابهة الثورة الفرنسية، وربيع الشعوب في العام 1848. واللافت أن مراقباً ثاقب النظر في مطلع القرن العشرين، شخّص ثلاث أيديولوجيات خطيرة وُلدت من رحم القرن التاسع عشر، وأصبحت مصدر تهديد لأمن وسلام واستقرار أوروبا: الشيوعية، والقومية، والصهيونية. وكلها، كانت في نظره، مضادة للتنوير، ومحاولة للانقلاب عليه [[Jose Ortega Y Gasset, Revolt of the Masses, W. W. Norton and Company, 1994]].
وسواء بدأ المرض الذي تمثل داعش حداثته، وتحاول تحديثه، مع انهيار الخلافة العباسية في أواسط القرن الثالث عشر، أو سقوط الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر، أو سقوط مصر وبلاد الشام في مطلع القرن التالي في قبضة الأتراك العثمانيين، فبالإمكان التدليل على حقيقة أن ما سيصبح لاحقاً العالم العربي، وبصرف النظر عن بداية التحقيب، قد عاش قروناً طويلة على هامش التاريخ، ولم يقدّم إسهاماً يُذكر لفائدة البشرية، في مجال الطب، وعلوم الأرض والفضاء والهندسة والصناعة والزراعة والاتصال، ناهيك عن الفلسفة، واللاهوت، والعلوم الإنسانية.
وهذه الإنجازات، وإن تكن أوروبية المنشأ، فهي وليدة الإصلاح الديني، والثورة الفرنسية، والثورات الصناعية والعلمية، والفتوحات الاستعمارية، التي جعلت لبني البشر، وللمرّة الأولى في التاريخ، تاريخاً مشتركاً، وجرى تعميمها في أربعة أركان الأرض، فاستفادت البشرية من منجزاتها، بقدر ما دفعت ضريبتها. وهذا ما حاول إدوارد سعيد في أكثر من مناسبة ومكان التدليل عليه في القول بتعددية الهوية في الأزمنة الحديثة، وتشابك التواريخ.
وإذا أعدنا تحوير مقولة لينين الشهيرة عن الإمبريالية باعتبارها أعلى مراحل الرأسمالية، فقد كانت النازية أعلى مراحل القوميات الأوروبية، بقدر ما تمثل الداعشية، اليوم، أعلى مراحل الإسلام السياسي. كانت النازية محاولة للثأر من مهانة الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ولكنها استدعت ما تيسّر من علموية القرن التاسع عشر، بشأن النقاء العرقي، وأصول ومصائر الأمم، واستثمرت بقدر ما كانت تجسيداً متأخراً لما أسماه الفرنسيون في مطلع القرن التاسع عشر (Mal du siècle) المرض الذي وسم القرن بميسمه، بقدر ما تمثل الداعشية تصعيداً، كان من الصعب تخيّله حتى سنوات قليلة فقط، لما أسماه عبد الوهاب المؤدب بإسلام يحاول استعادة مكانته الإمبراطورية، ومجده الغابر، إن لم يكن بلغة العصر، فبأدواته، وتقنياته، وكاميراته، وما خلقته الطفرة النفطية من أوهام التمكين [[عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي، دار توبقال 2002]] .
4-
دخلت النازية في المخيال الثقافي والسياسي الغربي، وفي ضمير العالم، حتى قبل تدميرها، وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية، التي أودت بحياة ما يزيد على 62 مليوناً من البشر، باعتبارها تجسيداً للشر المطلق. وما يميّز التأويلات الدينية للشر عن التأويلات الفلسفية العامة أن الأولى تعيده إلى قوى ما فوق طبيعية، وتُجسّده في فكرة الشيطان، بينما يتجلى في فلسفات غربية وشرقية كثيرة باعتباره الجانب المُظلم في الإنسان نفسه.
وإلى جانب انهماك الفلاسفة والمؤرخين في البحث في معنى الشر، نعثر في الأدب على محاولات دائمة لقراءة الصندوق الأسود للشر باعتباره أيديولوجيا قومية وخلاصية في حالات الهستيريا والجنون الجمعي. وربما تندرج رواية “القلعة في الغابة” للأميركي نورمان ميللر[[Norman Mailer “The Castle in the Forest” Random House 2007]]، المنشورة قبل سنوات، باعتبارها بحثاً في معنى الشر النازي، في هذا الباب، وقد امتزج فيها التفسير البيولوجي، العضوي (الذي يمثل مجازاً لكل ما يتناسل من نفسه، ويقتات على نفسه) بفنتازيا التفسير الديني، الذي يجعل من الشيطان نفسه فاعلاً رئيساً في تكوين المصائر والأقدار. وهذه، بدورها، إعادة تحوير لكيفية إنتاج “عقلية العبيد”، كما أسماها نيتشه، لفكرة الشر في قوالب ومفاهيم دينية تعبيراً عن كراهيتهم للأقوياء.
وما يعنينا، في هذا الشأن، أن الصراع العربي والفلسطيني ـ الإسرائيلي غالباً ما كان العائق الرئيس في فهم العرب (والمسلمين عموماً) لمعنى الشر المطلق كما جسّدته النازية في الثقافة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وتفرع عنه أمران اثنان: نفور يكاد يكون غريزياً من التمركزات القومية، وما ينجم عنها من دعوات التفوّق أو النقاء القومي، وتحويل المحرقة النازية إلى وسيلة إيضاح لمعنى الشر، الذي يمكن فهمه في التاريخ، وبالتاريخ، ولكن لا يمكن عقلنته، أو حتى العثور على ما يبرره، طالما أن في كل محاولة للفهم ما يستحضر مسوّغات من نوع ما[[جلبير الأشقر “العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية ـ الإسرائيلية” ترجمة بشير السباعي، دار الساقي للطباعة والنشر 2010]].
لذلك، غالباً ما يخطئ العرب (والمسلمون عموما) في تفسير مركزية المحرقة في الثقافة الغربية المعاصرة، كتعبير (فقط) عن انحياز الغرب وتحيّزاته في الصراع العربي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، وعن عدائه المُفترض للعرب والمسلمين. وهي أفكار شائعة في العالم العربي إلى حد البداهة، يختلط فيها الواقعي بالفنتازي، والسياسي بالميتافيزيقي، والتاريخي بالإسطوري. وهذا مصدر خطورتها.
وقد فشل مثقفون كثيرون في العالم العربي في إدراك لماذا كان إدوارد سعيد بين منتقدي ما كتبه المفكر الفرنسي، روجيه غارودي، الذي اعتنق الإسلام، عن المحرقة. وقد نال الكتاب شهرة واسعة في العالم العربي، وجوبه بانتقادات حادة، وحتى ملاحقات قانونية في الغرب. ومن المؤسف أن كتاب جلبير الأشقر عن العرب والمحرقة لم ينل ما يستحق من الاهتمام في العالم العربي.
وعلى الرغم من حقيقة أن استثمار الصهيونية لمركزية المحرقة، وانحياز وتحيّز الغرب إلى جانب إسرائيل، يُسهمان في إضفاء قدر من الصدقية على خطأ كهذا، إلا أن الداعشية باعتبارها تجسيداً للشر المطلق، ستُرغمهم في وقت قد يطول أو يقصر، على اكتشاف العلاقة بين مركزية المحرقة في الثقافة الغربية، ومقاومة الطهرانية القومية والدينية والحصرية والخصوصية. وهذا كله في صلب المعاني المحتملة للديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان. بمعنى آخر، إعادة النظر في المحرقة، في ظل الشر الداعشي المُطلق، سيمكّن العرب (والمسلمين عموماً) من رؤية أنفسهم بطريقة أفضل.
5-
أقل ما يُنشر ويُقال، في الشرق والغرب على حد سواء، من تعليقات وتأويلات وتحليلات للظاهرة الداعشية، جانبها الفنتازي، ومضمونها الأيديولوجي الذي يتسم بقدر من البساطة، والتبسيط، بطريقة تكاد تكون صبيانية.
فهناك، مثلاً، أعداد تقدّر بالآلاف من المراهقين الذين غادروا بلدان المهجر في أوروبا وأميركا للالتحاق بداعش في سورية والعرق. وعدد من هؤلاء ليسوا من أصول عربية وإسلامية، وبينهم يهود ومسيحيون اعتنقوا الإسلام.
يمكن، بالتأكيد، تفسير “هجرة” هؤلاء إلى ميادين “الجهاد” في سورية والعراق، باعتبارها محاولة للبحث عن المعنى والجدوى في مجتمعات غربية يشعر مواطنوها، غير الأصليين، وبعض الأصليين، بالهامشية، والاغتراب، أو حتى باستحالة الحراك الاجتماعي. ويمكن تفسيرها، أيضاً، باعتبارها نوعاً من التمرّد على السلطة الأبوية بالمعنى الفردي والجمعي، والتعبير عن معارضة “المؤسسة”. وفي الغرب ما لا يحصى من “الطوائف” والجماعات الدينية المُنشقة، التي قرر أفرادها اعتزال المجتمع، والعيش في مشتركات ريفية بعيداً عن الحضارة، والمجتمع، وسلطة رأس المال، انتظاراً للخلاص، ونهاية للعالم تبدو وشيكة.
ومع ذلك، ما لا ينبغي أن يغيب يتمثل في عالم ديزني لاند، الذي تمثله داعش بالنسبة لجيل نشأ على ألعاب الفيديو، والواقع الافتراضي، ومسلسلات الخيال العلمي في السينما والتلفزيون. ومن حسن الحظ أن هذا ما تمكّن من تشخيصه حازم الأمين، في تحليل للعلاقة بين ديزني لاند ورحلة البحث عن داعش في حياة مراهقة فرنسية [[حازم الأمين “رحلة الجهاد السهلة إلى سورية” الحياة 12 أكتوبر 2014]].
هذا هو الجانب الفنتازي، الذي يجب ألا يغيب عن الذهن، في كل محاولة لقول “ما هو داعش”. فهؤلاء الذين نراهم بلحاهم الكثة، وراياتهم وملابسهم (الباكستانية) السوداء، كظلال بعيدة على رؤوس التلال، أو الذين يطلون علينا على شاشة التلفزيون، بسكين في اليد، وقناع على الوجه، وعنق ضحية تنتظر الذبح، هم إلى حد ما شخصيات فنتازية، تبدو غير واقعية تماماً، وكأنها تمثل أدوراً في مسرحية سوريالية.
ويزداد الإيقاع الدرامي للفنتازيا في الأسماء الذين يختارونها لأنفسهم، وهي تراثية، مُستخرجة من بطون كتب تراثية عتيقة، وكذلك في مفردات الغزوات، والسبي، وتوزيع الغنائم، وكلها أقرب إلى تلك المسلسلات التاريخية، التي تنتجها شركات خليجية، ويشاهدها ما لا يحصى من الناس في رمضان، بعد وجبة الإفطار. ثمة ما هو فنتازي، وسوريالي، وعبثي، هنا. ومع ذلك، فهذا كله واقعي، يحدث الآن، وهنا، ويهدد مصائر دول، ومجتمعات، وشعوب. النازية، أيضاً، كانت فنتازية، وسوريالية، وعبثية عندما قدّمت ملايين البشر قرابين على مذبح الرايخ، الذي ينبغي أن يعمّر ألف عام.
لن تتضح كل هذه المعاني في وقت قريب، ولن يسقط غبار ما يحدث الآن، وهنا، على الأرض، قبل مرور عقود، فقد يتمكن العالم من قتل داعش باعتبارها ميليشيا عابرة للحدود، والقوميات، والتواريخ، والأزمنة خلال سنوات، ولكن قتل داعش الأيديولوجيا سيستغرق وقتاً أطول، ولن يكون النجاح مضموناً ما لم تُكتشف العلاقة بين الداعشية والنازية، وبين الاثنتين وفكرة الشر المُطلق.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
[داعش وفكرة الشر المُطلق..!! (١)
->http://www.shaffaf.net/spip.php?page=article&id_article=29604&lang=ar
]