خاص بـ”الشفّاف”
بعد كل هذا التوحش والغلو والتطرف غير المسبوق في العصر الحديث الذي تمارسه حركات وتنظيمات وجماعات اسلامية لم يعد بالإمكان أن نكتفي بالقول أن التطرف موجود عند كل أمة وملة ولا يقتصر علينا، أو أن ديننا بريء مما يرتكبه من ينسبون أنفسهم إلينا، أو أن المتطرفين والمتوحشين لا يمثلون سوى أنفسهم، أو أن الإسلام دين التسامح ولا علاقة له بقطع الرقاب وسبي النساء وغير ذلك من التبريرات.
وبالمثل فإننا لسنا بحاجة إلى من يعرّف لنا الأرهاب، أو من يرشدنا إلى أسماء وعناوين الجحور التي يختبيء فيها رموز الجماعات الارهابية المتطرفة، أو من يسرد لنا تاريخ هذا النَبت الشيطاني ومراحل نموه لأن هذه الأمور باتت معروفة للقاصي والداني. لكن إذا اقتضى الأمر الاشارة السريعة إليها فيمكن الإكتفاء بالقول أنها بذرة زرعها غلاة السلفيين، وتولت جماعة الإخوان المسلمين ريّها بأفكارها وقدراتها التنظيمية وكوادرها المؤدلجة، فكانت النتيجة ظهور براعم تكفيرية متطرفة تمثلت في السلفية الجهادية والسروريين وتنظيم التكفير والهجرة، ثم ما لبث أن نمت تلك البراعم وأثمرت لتلد لنا القاعدة وطالبان وجيش محمد ولاشكار طيبة وأبو سياف وحركة المجاهدين وخلافها من الجماعات المأزومة نفسيا، وصولا إلى أقصى درجات التوحش والتطرف المتجسدة في تنظيم داعش. ولا بد في هذا السياق من التذكير بما قاله المدعو يوسف القرضاوي قبل أيام من أن المدعو أبوبكر البغدادي كان في الأصل إخوانيا””.
وجملة القول أن كل تطرف ولــّد تطرفا أقبح منه وأكثر توحشا، حتى بتنا اليوم، ولأول مرة، أمام تنظيم يهيمن على مساحات واسعة من أراضي دولتين عربيتين كبيرتين، ويمتلك أسلحة نوعية متقدمة غنمها من معاركه، ويقود جيشا كبيرا نسبيا من المقاتلين من بلاد وجنسيات عديدة، فضلا عن تحكّمه في مصادر للنفط توفر ملايين الدولارات لخزينته.
وعليه فإن المطلوب اليوم هو أن نتوصل إلى ما يدور في عقول الارهابيين ونخضعه للتشريح كي نتعرف على مصادره ومن كان سببا في تكوينه، وبالتالي نشير بأصابع تفقأ العين إلى الجهات التي ساهمت في ظهور وإنتشار هذا الوباء. وبحسب قناعتي الشخصية، فإن الجهات التي تتحمل مسئولية ووزر ما نعانيه اليوم هي:
أولا: النظام الفقهي الحالي في ايران. فالسياسات الطائفية الرعناء التي تبناها هذا النظام منذ وصوله إلى السلطة في عام 1979، وخطابه الطائفي المؤدلج، وخططه لتصدير ثورته البائسة إلى الحواضر السنّية، ورفعه للواء “المظلومية”، وغير ذلك من المشاريع الهادفة إلى تأجيج الفتن المذهبية وإحياء موجة التشيع ساهم كثيرا في ردود أفعال لدى الجماعات الاسلامية السنية وتحول عملها وخطابها الى الغلو والتطرف وتبني منهج العنف على نحو ما فعله “جهيمان وأصحابه في حادثة احتلال الحرم المكي. وهكذا، فإذا كان للإسلام السني وجهه الارهابي المتطرف ممثلا في الإخوان والقاعدة وطالبان وأبو سياف وبوكو حرام ولاشكار طيبة وداعش، فإن للإسلام الشيعي أيضا وجهه الارهابي المتطرف ممثلا في حزب الله والحوثيين وعصائب الحق وفيلق بدر وكتائب الأشتر البحرينية وكتائب أبو الفضل العباس العراقية وغيرها. أما دليلي على ما تسبب به النظام الايراني من فتنة طائفية وتأسيس لموجة من التشدد فأستقيه، ليس مما فعله النظام الايراني في العراق ولبنان وأخيرا في اليمن، وإنما مما جرى ويجري في بلدي الصغير، البحرين، الذي كان منذ الازل واحة للسلام والتعايش بين جميع المذاهب والاديان والاعراق، فإذا به بعد عام 1979 المشؤوم يبدأ مسيرة معاكسة بفعل التدخلات الايرانية ووجود أعداد كبيرة من معتنقي المذهب الشيعي ممن تم التغرير بهم، وهذا بطبيعة الحال ولد إحتقانات وردود أفعال من أبناء الطائفة الأخرى، لتصل ذروتها في أحداث فبراير 2011 وما بعدها إلى اليوم.
ثانيا: بعض الانظمة العربية التي احتضت ورعت جماعات الاسلام السياسي المتطرفة ثم استخدمتها ضد خصومها في الداخل أو الخارج. ومن أمثلة ذلك ما فعله السادات في مصر حينما تحالف مع الاسلاميين لضرب خصومه اليساريين. وما فعله علي عبدالله صالح في اليمن حينما تحالف مع الزنداني وجماعته لضرب الحوثيين قبل ان يصبح اليوم حليفا لهم. وما فعله عبدالناصر بتحالفه مع الإخوان في سنواته الأولى بهدف التخلص من الاحزاب المصرية التقليدية كحزب الوفد. وما فعلته بعض الانظمة الخليجية حينما تحالفت مع الإخوان المسلمين واحتضنت رموزهم المطاردة ونشرت ووزعت بالمجان كتب كبيرهم سيد قطب وذلك من أجل توظيفها ضد المدّين القومي واليساري في الستينات.
ثالثا: القوى الدولية الغربية الكبرى، التي لجأت من أجل مصالحها الخاصة زمن الحرب الباردة، إلى استثمار تحالفها مع بعض الانظمة العربية من جهة وتحالف الأخيرة مع تيارات الاسلام السياسي من جهة أخرى في شحن الشباب الغرّ دينيا ودفع الآلاف منهم نحو جبهات القتال في باكستان وأفغانستان تحت شعار مقاومة الكفر والالحاد. فكان وجودهم في تلك البلاد المأزومة وسط شعوبها الامية الجاهلة مقدمة لتحولهم إلى كائنات متوحشة لا تعرف سوى القتل والابادة والاعمال الانتحارية..
رابعا: المناهج التعليمية الدينية، ولاسيما في دول الخليج العربية، التي أفسح لها مجال واسع على حساب العلوم العصرية، بل التي عــُهد إلى رموز تنظيم الإخوان المسلمين من مصر وسوريا وفلسطين بكتابتها، الأمر الذي سهل تخريج عقول لا ينقصها سوى عود ثقاب صغير كي تحرق الأخضر واليابس فداء للدين وليس الوطن طبقا لما تم تلقينهم. وللعلم فإن كل ما قيل عن تنقيح هذه المناهج أو تخفيف جرعتها بعد حادثة 11 سبتمبر الإرهابية تنقصه الدقة لأن ما من جهة تجرأت على المساس بهذه المناهج دون أنْ تـَُّتهم بالكفر والخروج من الملة.
***
إن الأزمة التي نعيشها أكبر من أي حل يمكن اقتراحه، ناهيك عن أن الكلام سهل وتطبيقه صعب.
لكن سؤال “ماذا نفعل؟” يفرض نفسه فرضا. وهكذا، فإنْ كانت هناك ثمة مقترحات فإنها لن تخرج عما يلي:
1ــ مواجهة أصحاب الفكر الديني الظلامي ليس ببرامج المناصحة التي ثبت فشلها، بدليل عودتهم إلى حمل السلاح بمجرد الإفراج عنهم، وإنما بايقاع أقصى أنواج العقوبات ضدهم. فهؤلاء ليسوا أفضل من آلاف الأبرياء الذين أعدموا أو قضوا في سجون الأنظمة العربية بسبب أفكارهم اليسارية والشيوعية.
2 ــ مراقبة الانشطة اللاصفية في المدارس، وما يجري في المراكز والجمعيات الاسلامية وجلسات الوعظ في المساجد ومدارس تحفيظ القرآن مراقبة لصيقة. والتدخل بايقاف وحبس كل من يغرر بالصغار والناشئة بتقديمه لتفسيرات دينية متشددة، أو حثهم على الجهاد والتمرد. ذلك أن جزءا كبيرا من البلاء الذي داهمنا هو أن المؤسسات الرسمية تركت المدارس والجوامع والجمعيات الأهلية والخيرية في يد الاسلامويين المتشددين، فزرع هؤلاء فيها مواقفهم الفكرية المتطرفة. وأؤكد هنا أن الأنظمة الخليجية تدفع اليوم ثمن تسامحها الطويل مع الفكر المتشدد،. إذ استغل المتشددون أجواء التسامح والانفتاح والتسهيل في دول الخليج لتوظيفها في تحقيق مصالحهم الشخصية أو أهدافهم الحزبية والتحريض ضد الانظمة القائمة بدعوى انها لا تطبق شرع الله كما يجب.
3 ــ تجفيف المنابع المالية للتنظيمات الدينية المتطرفة بفرض مراقبة صارمة على التحويلات المالية للمتعاطفين معها ممن يطلقون على أنفسهم شيوخ الدين وطلبة العلم ورجال البر والإحسان. فعلى الرغم من إستحداث بعض الآليات في هذا المجال في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، إلا أن الإرهابيين نجحوا في إحداث الكثير من الاختراقات بواسطة مناصريهم ممن يعملون في الانشطة المصرية. وإحدى المشاكل أن دول الغرب تطالب دولنا بتجفيف المنابع المالية للجماعات الارهابية، فيما هي قادرة ــ لو أرادت ــ أن تصيب هؤلاء في مقتل بمصادرة كل أموالهم وثرواتهم الموجودة في بنوكها، وفي المقدمة طبعا ثروات التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المستثمرة في أوروبا.
4 ــ تشديد الرقابة على وسائل ووسائط الإعلام الحديث التي صارت مطية حداثية للإرهابيين والمتطرفين لتبادل الأفكار والتعاون والتضامن والتجنيد وغسل الأدمغة ونشر ثقافتي الكراهية والموت وقطع الطريق امام ثقافة التعايش. والحقيقة أن المطالبة بهذا الأمر شيء مؤسف ويتناقض مع دعواتنا إلى حقوق الإنسان وحرية التعبير، غير أن أمن البلاد والعباد وصيانة الحياة الانسانية يجب أن يكون فوق كل إعتبار مثلما قال رئيس حكومة ديمقراطية ويستمنستر. ويجب أن تشمل الرقابة أيضا القنوات الفضائية التي يستغلها محرضو الفتنة من المشايخ للظهور على شاشاتها ونشر قاذوراتهم عبرها على الملأ.
5 ــ إحداث ثورة في مناهج التعليم وأساليبه وكيفية تدريب وتأهيل المعلمين في مستويات التعليم المختلفة بما في ذلك المستوى الجامعي. إذ ثبت أن أعدادا معتبرة من ذوي الفكر الظلامي التكفيري والتوجهات الجهادية قضوا سنوات من أعمارهم في أحضان معاهد او كليات معينة أو مروا بها أو إحتكوا بطلبتها، خصوصا وأن الموجود منها في دول الخليج كانت مرتعا لجماعات الإخوان المسلمين فاستطاعت بخبثها ودهائها أن تنفــّذ فيها استراتيجيتها المؤدلجة.
6 ــ فرض الوصاية الدولية أو الإقليمية على الدول المنفلتة أمنيا، بهدف فرض الأمن والإستقرار فيها بالقوة. حيث أن الحركات الارهابية المتطرفة هي كما الطفيليات بمعنى أنها لا تعيش إلا في المياه الآسنة. والمياه الآسنة هنا هي الدول التي تعيش في فوضى. فلولا الفلتان الأمني في باكستان وأفغانستان واليمن والعراق والصومال لما تحولت هذه الدول إلى بؤر لصناعة وتصدير السلع الارهابية.
7 ــ إعادة الإعتبار إلى الفكر الوطني القومي ونشره في أوساط الشباب والناشئة، وتدريسه في صورته الايجابية التي تعترف بالتعددية ولا تلغي خصوصيات الجماعات المكونة للوطن. فالافكار القومية والوطنية هي التي حمت أوطاننا وشعوبنا على مدى عقود قبل أن تتغول الحركات الإسلامية التي لا تعترف بالدولة والوطن والمواطنة في سعيها من أجل الدولة الاسلامية الممتدة من بالي إلى السنغال، بل التي لا تعترف باصحاب المعتقدات الأخرى من شركاء الوطن كما فصل الاستاذ محمد السماك في ورقته.
8 ــ وأخيرا فقد آن الأوان لبعض الدول أن تفكر مليا في مراجعة الأفكار والمباديء الدينية التي استمدت منها شرعيتها التاريخية. فهي لم تعد بحاجة إلى تلك الشرعية بعدما توطدت أركانها، ويمكنها أن تخطو خطوة شجاعة فتستبدلها بشرعية جديدة مستمدة من قوة وولاء شعبها. وهذا لن يتأتى إلا بتوفير مستويات معيشية لائقة للجميع، ومناخ من الحريات والتعددية والعدالة والمساواة، والانفتاح على العالم دون حساسية. فالكبت والتمييز والقهر والحرمان من الحقوق والفقر يجعل الكثيرين صيدا سهلا للحركات الارهابية المتطرفة.
في اعتقادي أنه لا أمل في إصلاح هذه الأمة من كبوتها، وتحريرها من جماعات الغلو والتطرف والتكفير والقتل، عدوة الحياة والانسانية، إلا بظهور قادة ومفكرين لديهم الشجاعة والجرأة والمقدرة على تنظيف العقول على المدى البعيد من صدأ وصديد الربط بين الديني والسياسي، وتبني أجندات تنويرية علمانية، لا مكان فيها للخرافات والاساطير الدينية المعيقة للنهوض، بدلا من الدعوات الجوفاء إلى الوسطية.
وختاما هل سأل أحد نفسه لماذا لم يسمع قط بإرهابي سنغافوري؟
الجواب هو أن سنغافورة ألغت تدريس المواد الدينية ـ سواء الاسلامية أو البوذية أو الهندوسية او المسيحية ــ من مقرراتها الدراسية كي لا تعطي لأحد حق إحتكار الحقيقة، وأوكلت تدريسها إلى الأسرة وبالقدر الذي يلبي حاجة الفرد لمعرفة علاقته بربه فقط، واستبدلت المواد الدينية الملغاة بزيادة جرعة الرياضيات باعتبارها أس كل العلوم، واللغة الانجليزية باعتبارها مفتاح دخول سوق العمل العالمي، والفنون باعتبارها تهذب النفس وترتقي بالحس الانساني.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
aaaelmadani@gmail.com