يُعتبر ما آل اليه اليمن، وصولا إلى سيطرة الحوثيين (انصار الله) على صنعاء، نتيجة طبيعة لتطوّر الأحداث في بلد انهارت الصيغة التي تحكّمت به وحكمته منذ العام ١٩٧٨. هل ينهار اليمن مع انهيار الصيغة، خصوصا مع وصول “انصار الله” الموالين لإيران إلى صنعاء وفرض نظام خاص بهم عليها وتحولّهم إلى الرقم الصعب في المعادلة اليمنية؟ يبدو أن مسألة انهيار البلد بالشكل الذي عرفناه واردة اكثر من أيّ وقت… مع ما يعنيه ذلك من تغيير على صعيد المعادلة الإقليمية، خصوصا في منطقة الجزيرة العربية التي صار فيها لإيران ما يمكن وصفه بأنه اكثر من موطئ قدم.
كانت ١٩٧٨ سنة انتخاب علي عبدالله صالح رئيسا للجمهورية. تنازل علي عبدالله صالح عن موقعه في السنة ٢٠١١ تحت الضغوط التي مورست عليه. كانت تلك الضغوط متنوّعة وجاءت في وقت اشتدّ فيه الخلاف بين الرئيس اليمني السابق من جهة والركيزة الأخرى لنظامه من جهة أخرى.
انهارت صيغة “الشيخ والرئيس” التي كان طرفاها علي عبدالله صالح والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر شيخ مشائخ حاشد، وذلك منذ ما قبل وفاة الأخير اواخر السنة ٢٠٠٧.
لكن موت الصيغة رسميا كان في الثالث من حزيران ـ يونيو ٢٠١١ حين تعرّض علي عبدالله صالح لمحاولة اغتيال في مسجد دار الرئاسة، كادت أن تودي بحياته. تبيّن أن بعض ابناء الشيخ عبدالله واللواء علي محسن صالح الأحمر على علاقة مباشرة بالمحاولة التي كانت عملية تفجير داخل المسجد في اثناء تأدية الرئيس السابق الصلاة مع القريبين منه.
قبل ذلك، ابتداء من السنة ٢٠١٠، حصل الإنفجار المؤجّل نتيجة نزول قوى كثيرة إلى الشارع. كان نزول بعضهم، خصوصا من الشباب، عن حسن نيّة وبعضهم الآخر بنيّة انقلابية بعدما اعتقد الإخوان المسلمون أنّ خلافة علي عبدالله صالح ستكون مجرّد نزهة، على غرار اسقاط زين العابدين بن علي أو حسني مبارك.
لم يدرك هؤلاء أنّ الصيغة التي حكمت اليمن طويلا، ستصبح بعد انهيارها اسيرة اسوار صنعاء وصراعات لا يمكن أن يستفيد منها أيّ من المشاركين فيها.
قبل انفجار “الثورة الشعبية”،التي جاءت في سياق “الربيع العربي”، كان اليمن كلّه محكوما من الصيغة وعبرها. بعد الإنفجار الذي انتقل إلى الشارع، صارت صنعاء وازقتها الساحة التي تواجه فيها علي عبدالله صالح وخصومه، أي حلفاء الأمس القريب الذين شاركوه في السلطة والثروة وفي كلّ شيء تقريبا، بما في ذلك اقامة جيش لهم داخل الجيش هو ما كان يسمّى الفرقة الأولى/ مدرع. كانت هذه الفرقة جزءا من الدويلة التي اقامها علي محسن الأحمر داخل الدولة اليمنية حيث كان جهاز الأمن السياسي تحت سيطرة اخواني هو اللواء غالب القمش.
في السنوات الأخيرة من عهد علي عبدالله صالح، ظهر الترهّل على النظام القائم في اليمن، فيما زاد الكلام عن التوريث. الرجل نفسه صار مختلفا. الواقع أن التغيّر في شخصية الرئيس اليمني السابق الذي بات يعرف حاليا بـ”الزعيم” بدأ في العام ١٩٩٤ عندما هزم الحزب الإشتراكي في حرب الإنفصال التي استمرّت ثلاثة اشهر وانتهت بدخول القوات الموالية له عدن في تموز ـ يوليو من تلك السنة. كانت تلك القوات مزيجا من الجيش النظامي ومن اسلاميين ينتمون إلى مدارس مختلفة، ابرزها تنظيم الإخوان المسلمين والمجموعات السلفية.
كان انتصار صيف ١٩٩٤ نقطة تحوّل. اعتقد علي عبدالله صالح أنّه سيكون في استطاعته نقل تجربة ما كان يعرف بـ”الجمهورية العربية اليمنية” التي كانت قائمة في الشمال قبل الوحدة في العام ١٩٩٠، إلى اليمن كلّه. كانت النتيجة أن الغى المجلس الرئاسي المكون من خمسة اعضاء والذي شُكّل بعد الوحدة واكتفى بنائب للرئيس هو عبد ربّه منصور هادي الآتي من محافظة “أبين” الجنوبية.
كان عبدربه في الماضي محسوبا على الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمّد، وهو ضابط كفوء لعب دورا في مواجهة حرب الإنفصال إلى جانب القوات الحكومية. وكوفىء على ذلك بوزارة الدفاع أوّلا ثم بموقع نائب رئيس الجمهورية. احتفظ بالموقع إلى حين جاء وقت توليه المسؤولية الأولى كرئيس “انتقالي” بعد قبول علي عبدالله صالح بالمبادرة الخليجية التي تعني أوّل ما تعني تخليه عن السلطة في مقابل ضمانات معيّنة.
لم تكن صيغة “الشيخ والرئيس” مجرّد تفاهم بين رجلين يحافظ كلّ منهما على مصالح الآخر وتسهّل على علي عبدالله صالح حكم اليمن كلّه مع شركاء له ابرزهم اللواء علي محسن صالح الأحمر. كانت الصيغة أكثر من ذلك بكثير. كان الرئيس اليمني السابق، وهو أكثر يمني يعرف اليمن، يمتلك شبكة علاقات واسعة داخل البلد وخارجه. كانت هذه الشبكة تسمح له، اضافة إلى اللعب على التناقضات الخليجية ـ الخليجية، بمدّ نفوذه في كلّ الإتجاهات، من أقصى الشمال اليمني إلى أقصى الجنوب، مرورا بالوسط الشافعي ذي الكثافة السكّانية والذي عاصمته مدينة “تعز” التي منها كبار رجال الأعمال في اليمن الذين ينتمون إلى عائلات معروفة. وبين هؤلاء كثيرون صنعوا ثرواتهم في عدن في ايّام البريطانيين. هؤلاء ما لبثوا أن انكفأوا شمالا عندما استقلّ الجنوب وبات تحت حكم الحزب الواحد الذي يؤمن بالمبادئ الماركسية التي لا علاقة لها باليمن واليمنيين.
لم تكن الماركسية سوى وسيلة لتصبح “جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية” جرما يدور في فلك الإتحاد السوفياتي. وقد انهارت الدولة المستقلّة التي قامت عام ١٩٦٧ جنوب اليمن مع انهياره.
كان علي عبدالله صالح مجموعة رجال في رجل واحد، على الرغم من ثقافته المتواضعة. ساعده في ذلك، هو الزيدي الآتي من قرية بين الأحمر في مديرية سنحان القريبة من صنعاء، خدمته في الجيش اليمني. خدم كجندي وضابط وتنقل في انحاء مختلفة من البلد، في مرحلة ما قبل وصوله إلى الرئاسة ثمّ تحقيق الوحدة في ١٩٩٠. لا شكّ أن بقاء علي عبدالله صالح في “تعز” طويلا ساعده في فهم طبيعة منطقة الوسط المنفتح أصلا على الجنوب، والذي هو ايضا شافعي في اكثريته الساحقة.
لكنّ انتصاره في حرب ١٩٩٤ جعله يشعر بالغرور إلى حدّ كبير، علما أنّه كان قادرا في احيان كثيرة على العودة إلى الأرض وإلى تواضعه وطرح الأسئلة التي لا بدّ من طرحها، خصوصا في ما يتعلّق بكيفية الإنفتاح على الآخرين والمحافظة على حدّ أدنى من التوازنات في البلد. في مرحلة ما بعد صيف ١٩٩٤، بدأ علي عبدالله صالح يستغني شيئا فشيئا عن المستشارين الذين يتمتعون بالخبرة. استبدلهم بالصغار الذين لا يعرفون سوى قول كلمة “نعم” وعبارة “سمعا وطاعة”.
في المقابل، بدأ خصوم علي عبدالله صالح، وهم في الوقت ذاته حلفاؤه الطبيعيون، يأخذون عليه مزاجيته وتفرّده أكثر فأكثر بالسلطة ووضع افراد عائلته من اقاربه المباشرين في مواقع حساسة، فضلا عن غضّ النظر عن مجموعة من الضباط كانوا يعتبرون نفسهم “امراء” المناطق العسكرية التي تحت سيطرتهم، خصوصا في المناطق الجنوبية.
ساهم هؤلاء مساهمة كبيرة في تقليب الجنوبيين على كلّ ما يصدر عن صنعاء، خصوصا بعد انتشار الفساد في الأماكن التي حلّوا فيها، اكان ذلك في عدن أو حضرموت أو المناطق المنتجة للنفط والغاز مثل شبوة، وحتى في مناطق شمالية حسّاسة مثل مأرب.
جاء تقدّم الشيخ عبدالله الأحمر في العمر ليساعد في الإخلال بالمعادلة الدقيقة التي تتحكّم بصيغة “الشيخ والرئيس”.
لم يبق من المعادلة في مرحلة معيّنة سوى القليل. فالشيخ عبدالله، الذي كان رئيسا لمجلس النوّاب بصفته “شخصية وطنية”، والذي اسس الحزب الإسلامي الكبير المسمّى “التجمع اليمني للإصلاح” لم يعد قادرا على التحكم بالتوازنات الدقيقة داخل هذا الحزب، خصوصا بين الجناح القبلي من جهة والإخوان المسلمين والسلفيين من جهة أخرى. أدى ذلك إلى تقدّم جناح الإخوان على القبليين وصعود نجم ابناء الشيخ عبدالله الذين كان لكلّ منهم حسابات خاصة به لا تتفق بالضرورة مع حسابات العائلة ومصلحتها العليا.
كان على رأس هؤلاء الشيخ حميد، القريب جدا من الإخوان، بل هو جزء منهم، والذي اعتقد علي عبدالله صالح أنّه سيكون في استطاعته استيعابه عن طريق تسهيل استثماراته ونشاطاته التجارية.
كان الدليل على ذلك أن حميد استطاع أن يكون المساهم الأساسي في احدى شركتي الهاتف النقآل في البلد (سبأفون) والتي كانت تدرّ الملايين من الدولارات شهريا. (كانت هناك شركتان للهاتف النقّال في البداية، ثم اعطيت لاحقا رخصة لشبكة ثالثة).
لم يكن ابناء الشيخ عبدالله على قلب واحد. كان هناك من بقي على علاقة بعلي عبدالله صالح مثل كبيرهم الشيخ صادق، والشيخ حمير، احد افراد الحراسة الشخصية الملاصقة للرئيس السابق. لكنّ حميد الأحمر كان شديد الإنتقاد لعلي عبدالله صالح. هاجم شخص الرئيس بعنف غير مرّة، وخاض في العام ٢٠٠٦ معركة الرئاسة ضدّه بدعمه شخصية محترمة من حضرموت هي فيصل بن شملان الذي توفّي قبل بضع سنوات.
جاء صعود الحوثيين على خلفية ترهّل النظام وانتشار الفساد داخل المؤسسة العسكرية والوزارات والدوائر الحكومية وتدهور الوضع في المحافظات الجنوبية وغياب عبدالله بن حسين الأحمر. ترافق ذلك مع الكلام الكثير عن سعي علي عبدالله صالح إلى توريث نجله احمد، قائد الحرس الجمهوري وقوّات مكافحة الإرهاب. كان الحوثيون يُعرفون في البداية بـ”الشباب المؤمن” قبل أن يصبحوا “انصار الله”.
كانت المرّة الأولى التي يتحدّث فيها على عبدالله صالح عن الحوثيين في مقابلة نشرتها “المستقبل” في ٢٠٠٤. لمّح إلى علاقتهم بايران والى الكتب التي يطبعونها في بيروت. لم يتطرق في تلك المقابلة عن دوره في تشجيعهم على دخول الحياة السياسية في سياق جهوده الهادفة إلى اضعاف المؤسسة الزيدية التقليدية التي كان يخشى من نفوذ العائلات الكبيرة فيها والتي معظمها من محافظة حجة وليس صعدة.
يقول الخبثاء أنّ علي عبدالله صالح كان بين الذين دفعوا في اتجاه العلاقة بين الحوثيين وايران قبل أن ينقلبوا عليه ويخوضوا معه ومع ابن قريته وقريبه اللواء علي محسن الأحمر ست حروب بين ٢٠٠٤ و٢٠١٠.
في الحروب الست، كان علي محسن، الشريك في السلطة والنفوذ، في الواجهة وذلك في ضوء علاقته الشخصية بالرئيس السابق وانتمائه الفعلي إلى حركة الإخوان التي سعت إلى اختراق المناطق الزيدية واقامة مراكز دينية فيها.
كان علي عبدالله صالح يفاوض الحوثيين ويقاتلهم ويناور في الوقت ذاته، في حين كانت المواجهة المباشرة مع علي محسن وآل الأحمر، زعماء حاشد، ذات طابع مذهبي ووجودي. هذا عائد إلى أنّ الإسلاميين من إخوان وسلفيين حاولوا نشر مدارس خاصة بهم في المناطق التي كانت تعتبر معقل الزيود. استطاع الحوثيون، الذين تبيّن أن لديهم مشروعهم السياسي، الإستفادة من كلّ الثغرات، بما في ذلك ” ما سُمّي “الثورة الشعبية” التي واجهت علي عبدالله صالح والتي كان الإخوان المسلمون محرّكها. لم يكن ارتباطهم بطهران سرّا ولا علاقتهم الوثيقة بـ”حزب الله” في لبنان.
بين ٢٠٠٤ و٢٠١٠، كانت الحروب في صعدة التي سيطر عليها الحوثيون شيئا فشيئا وصولا إلى مرحلة عينوا فيها محافظا قريبا منهم. كان تعيين فارس منّاع محافظا لصعدة أول اشارة إلى أي مدى هم على استعداد للذهاب في مشروعهم الذي قطعوا خطوة كبيرة على طريق تحقيقه عندما سيطروا على مدينة عمران الإستراتيجية في تمّوز ـ يوليو الماضي، ثمّ على صنعاء حيث اجبروا الرئيس الإنتقالي على توقيع “اتفاق السلم والشراكة” الذي بات يسمح لهم بتشكيل الحكومة اليمنية على هواهم.
نتيجة انهيار صيغة “الشيخ والرئيس” صار الحوثيون في صنعاء بدعم جميع الذين همّشتهم المرحلة التي امتدت بين ١٩٧٨ و٢٠١٤. هناك عناصر من حاشد تقاتل معهم، كذلك عناصر من القبيلة الأكبر وهي بكيل التي عمل علي عبدالله صالح مع عبدالله الأحمر على شرذمتها طوال ما يزيد على ثلاثة عقود. وهناك عائلات كبيرة لا تعترض على ما يقومون به. هناك رابطة هاشمية بين هذه العائلات لا يمكن الإستخفاف بها في أي شكل. ولدى الإخوان وآل الأحمر حساسية زائدة تجاه هذه العائلات التي كانت مرتبطة تاريخيا بالإمامة وآل حميد الدين.
يبقى السؤال الأهم: إلى أي حدّ هناك ارتباط بين “انصار الله” وايران؟ الجواب أنّ الإرتباط عضوي، خصوصا مع تحوّل الحوثيين من المذهب الزيدي إلى المذهب الشيعي الإثني عشري ورفعهم شعار “الموت لاميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود”. ولكن ما لا يمكن تجاهله أنّ للحوثيين شرعية في مناطقهم التي يحاولون توسيعها كي يكون لها ميناء بحري وحدود طويلة مع المملكة العربية السعودية.
اليمن إلى أين؟
يصعب الكلام بعد الآن عن يمن موحّد على الرغم من أن “انصار الله” اقاموا تحالفات في الجنوب مع الإتجاه الإنفصالي ومع بعض الجهات في الوسط الشافعي. الأمر الوحيد الثابت أنّ ايران صارت موجودة في اليمن بقوّة. اليمن الذي عرفناه صار من الماضي ولكن مع ضرورة ايراد تحفّظين. الأوّل التركيبة القبلية التي استطاع الحوثيون استيعابها، أقلّه إلى الآن. هل سيتمكّنون في المدى الطويل من تطويع هذه التركيبة المعقّدة بشكل نهائي؟ أمّا التحفظّ الثاني والأخير فمرتبط بمشاكل اليمن. هل في استطاعة الحوثيين تلبية المطالب الشعبية في بلد يشكو من كلّ شيء، معظم سكانه يحملون السلاح وهم تحت خط الفقر؟ من سيأتي بالمساعدات لليمنيين…أم أن الشعارات يمكن أن تتحوّل إلى خبز وماء وكهرباء ووقود ومدارس…؟
هل يمكن للحوثيين عزل اليمن عن محيطه الخليجي العربي؟