في خطابه أمام الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، هذا الأسبوع، أكد باراك أوباما أن “الحل الوحيد لسوريا هو تحقيق انتقال سياسي شامل يستجيب لتطلعات الشعب السوري من خلال المفاوضات”. وهذا الرهان يأتي في سياق استراتيجية الرئيس الأميركي في “مكافحة “داعش” ومن ضمنها تسليح المعارضة السورية المعتدلة لمواجهة الإرهابيين ومواجهة وحشية نظام الأسد”
إنها الخلاصة التي يود سيد البيت الأبيض الوصول إليها بعد طول تردد، والتي يرتبط نجاحها بعوامل معقدة ومسار يمكن أن يتجاوز نهاية ولاية أوباما أواخر 2016 . منذ ثلاث سنوات ونصف، بقيت المسألة السورية أسيرة الحسابات الأميركية حيث أن إسقاط النظام الأسدي لم يكن فعلا على جدول الأعمال “الأوبامي”، رغم كل الكلام المسال منذ أغسطس 2011 ووهم “الوقت المعدود”.
من أجل فهم السياسة السورية لواشنطن لابد من الإحاطة بالكثير من العوامل بدءا من المصلحة العليا للولايات المتحدة التي لم تتأثر بتطورات الصراع حتى هذا الصيف، ولذلك لم تشأ إدارة أوباما الانغماس في حرب جديدة بعد حربي العراق وأفغانستان. وأتى العامل الإسرائيلي في المقام الثاني، بسبب الواقع الجديد الغامض في مجمل المنظومة الإقليمية وتغير الوضع على الحدود الشرقية نتيجة تواجد قوى متشددة.
تبعا لذلك، نفهم سبب عدم تسريع الجهد الأميركي حتى لا تتغير المعادلات قبل اتضاح صورة البديل في دمشق. ولذا منذ اعتماد وثيقة جنيف 1 عن هيئة الحكم الانتقالي، ارتبط الدفع الأميركي نحو التفاوض بين المعارضة والنظام في استخلاص للدرس العراقي، فيما يخص الحفاظ على ما أمكن من مؤسسات الدولة، مما يتيح التحكم بالبدائل الممكنة في تقاسم للنفوذ مع موسكو. بيد أن تمركز السلطة، وانغلاق المشهد السوري الرسمي، وتعاظم التأثير الإيراني فيه من جهة، وتراجع المعارضة السورية من خلال تجاذب الوصايات وشح الدعم والصعود الجهادي من جهة أخرى، زاد في بلبلة المعطيات وعدم بلورة رؤية أميركية واضحة.
هكذا حيال الصراع داخل سوريا وحولها، تعطل جهد المجموعة الدولية بالفيتو المتكرر للثنائي الروسي- الصيني، والمصالح الإسرائيلية والإيرانية، وتشتت ما سمي مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”. أمام الحرب الباردة المتجددة والأولوية الأميركية المعطاة لهدف “الشراكة مع إيران”، فضّل أوباما حرب استنزاف روسيا ومعسكري “الجهاد القاعدي” و“المحور الإيراني” على الساحة السورية. لكن تطورات الصيف المنصرم في العراق دفعت بالرئيس المتردد للقيام بمراجعة لسياساته. عشية النصف الثاني من ولايته الثانية، ها هو يجد نفسه مضطرا للعودة عسكريا إلى العراق وسوريا تفاديا للأسوأ. والأرجح أنه تحت يافطة الحرب الطويلة ضد “داعش”، تريد واشنطن استعادة زمام المبادرة في نسخة منقحة لإعادة ترتيب جيو سياسي للإقليم، كما كان طموح مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي صاغه المحافظون الجدد في بداية هذا القرن.
وفق منطق القوة الفظة والحرب الكبرى ضد الإرهاب، أراد جورج بوش الابن تكريس أحادية الزعامة الأميركية للعالم من بوابة حروب الشرق الأوسط وعوالم الإسلام ولم يفلح، واليوم يتخلى أوباما عن نهج “القوة الناعمة” ويعود لنفس المفردات في سعي لترميم الهيبة المفقودة أمام طموحات بوتين وتحديات الرمال المتحركة في بلاد الشام.
انطلاقا من المخاطر المحدقة بالسلام الإقليمي تبعا لتوسع “داعش” ومن أجل حصر الإرهاب ومنعه من تجاوز الأطلسي ثانية، وجد أوباما الفرصة سانحة ليحقق اختراقا يربطه باسمه، خاصة أنه حاز سلفاً على جائزة نوبل للسلام ولم يحرز إنجازات لافتة في حل المعضلات الكبرى من “الإرهاب” إلى الصعود الروسي، وكذلك مخاطر الانتشار النووي من كوريا الشمالية إلى إيران، ناهيك عن الفشل في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، أو في الملفين العراقي والسوري.
تتعدى المشكلة المفاهيم الإستراتيجية إلى ماهية ممارسة القيادة. أوباما يشبه ترومان المحارب في كوريا، ولا يشبه أيزنهاور، أو بوش الأب في الحزم مع إسرائيل، ولا يشبه كارتر أو كلينتون في السعي لصناعة السلام، ولا يشبه نيكسون في صناعة التاريخ واللحظات المصيرية.
في النصف الثاني من ولايته، ستتركز المتابعة على حصاد إستراتيجية أوباما فيما يتعلق باستدارته الآسيوية وصلاته مع روسيا، وكذلك نتائج الحرب ضد داعش، وخلاصة المفاوضات مع ايران، أما علاقة واشنطن مع الأطراف الإقليمية وخاصة المملكة العربية السعودية فستتأثر، حكما، بمعالجة الملف السوري وتتماته.
مع بدء العمليات في 23 أيلول فوق الأراضي السورية بمشاركة عربية ملموسة، يضع أوباما حداً لنهج “الصبر الاستراتيجي” ( حسب تسمية ديفيد آغناثيوس) ويضع هدف الحل السياسي كمخرج للمأساة السورية، وفي عودة لروحية جنيف 1 الذي التفّتْ موسكو عليه سابقا تحت عنوان أولوية الحرب ضد الإرهاب.
ينتزع أوباما من الروس ورقة الحرب ضد الإرهاب، ويستخدمها رافعة في مقاربته للملف السوري (القراران الدوليان 2170 و2178) عبر ترتيبات كرسها اجتماع جدة الأميركي الإقليمي في 11 سبتمبر، ويقضي بأولوية ضرب داعش ودعم المعارضة (موافقة الكونغرس أول إشارة جدية ضد الأسد)، وبعد ذلك جلب الكل إلى طاولة التفاوض والوصول لحل متوازن، دون الأسد ودون المتطرفين، ضمن الحفاظ على الدولة السورية.
تتوافق عدة مصادر مطلعة على القول بوجود تعهد أميركي يقضي بأن تمتد الحرب على “داعش” إلى تغيير المعادلة العسكرية في سوريا، إما لإرغام النظام على القبول ببيان جنيف الأول، أي قيام مرحلة انتقالية تتولاها حكومة مشتركة بصلاحيات تنفيذية كاملة، أو الذهاب إلى خيار إسقاط النظام. ومقابل ذلك حصلت واشنطن على تعهدات عربية خليجية بالتمويل ومنح الغطاء السياسي والمشاركة العسكرية. بيْدَ أن الأوساط الفرنسية الرسمية تنظر بحذر للمقاربة الأميركية، وتخشى استفادة النظام السوري من الحرب ضد “داعش” مما سيزيد في تعنته. سترتبط التتمة بالموقفين الروسي والإيراني بعد استعراض العضلات الأميركي الذي قد لا يكون كافيا إزاء المكاسب الإيرانية من صنعاء إلى دمشق. وعند ذلك تتلقى استراتيجية أوباما ضربة كبيرة ويتمدد عمر المأساة.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس