اللبناني، من جميع الطوائف، يشعر بالتميز كونه لبنانياً. حتى لابسات التشادور لديهن هذا الشعور، وعرفته منهن.
يعرف اللبناني أنه ينتمي إلى وطن مختلف عن محيطه. كيف يتوصل إلى هذا الشعور؟ ربما ليس عليه سوى الالتفات حوله ومقارنة بلده بالبلدان المجاورة، ليكتشف مغايرة هذا البلد بأسلوب عيشه وصحافته ودور نشره وإعلامه ومطاعمه ومقاهيه وملاهيه الليلية… ينظر إلى الصبايا والشباب، فيلمس شعورا بالانطلاق والانفتاح والتكيف والحرية في اختيار الاسلوب الذي يعيشونه. هذه النظرة يدعّمها المواطن العربي نفسه وعلى مختلف مشاربه ومقاصده، سواء كان زائراً أم سائحاً أم لاجئاً سياسياً أو شاعراً وكاتباً أم طالباً للعلم أو للعلاج أو للترفيه. لبنان الغني والمتنوع هذا كان ويظل قبلة المراهق والشاب العربي ووجهته الأولى، عندما تضيق به السبل في بلده العربي المتزمت القامع والمحافظ. خبرت هذا ميدانياً وقرأت عشرات الشهادات لمراهقين عرب من خلال نشاطي البحثي، وقرأت عشرات، اذا لم نقل مئات، الشهادات لمثقفين عرب مدحوا الحرية التي حصلوا عليها في ربوع لبنان، ويتحسرون على الوضع الذي آل اليه. وهذا ما توجته قصائد نزار قباني عن بيروت. اعتقد هناك الآن متلازمة حنين موجع للبنان هذا، الذي عطّلته الصراعات المأزومة فيه وعليه.
فما الذي أعطى لبنان هذا الوجه المشرق والمضيء سوى خصوصيته وميزته الأولى في أنه بلد المسيحيين العرب الأول؟ بلد الأقليات المتعددة المتعايشة جنباً إلى جنب؟ المتقاسمين معهم اللقمة والسلطة! في ظل دستور وقوانين ترعى هذا التعايش. البلد النموذج مع أنه أصغر بلد عربي وأقلها موارد وأكثرها هشاشة!
إن أي امرأة متوسطة مسلمة من جيلي تعرف انها ما كانت، على الأرجح، ما هي عليه لو لم تكن لبنانية. ذلك لا يعني ان نموذج هذه الفئة بما تتمتع به من تعليم وحرية فكر وأسلوب عيش وحيوية، غائب عن البلدان العربية، كلا ليس بهذا المعنى، إنه موجود بالطبع، لكن بنسب أقل وبمشاق أكبر، وممن ينتمين منهن إلى الطبقات العليا.
متى وكيف وعيت أول مرة وجود المسيحي في تجربتي؟
من المشاهد العالقة في مخيلتي منذ كنت طفلة ولا تغادرني، مشهد تكرر دورياً في مطالع كل ربيع بعد المطر. أفيق باكراً وأخرج إلى المصطبة التي أمام بيتنا، القابع بعيداً عن قلب الضيعة، على رأس تلة مطلة على البحر، فأرى في الحقل المتاخم للبيت ظلاً منحنياً يلتقط أشياء من على البلان والنباتات الأخرى التي تملأه. لا أفهم ماذا تفعل هذه المرأة المبكرة في حقلنا فأسأل أمي؟ تجيب إنها تجمع البزاق. ولماذا؟ لأنها تبيعهم للمسيحيين (وقد يكون من يجمعهم مسيحي أيضاً). لماذا؟ «تياكلوهم». تقول ذلك أمي «البيروتية» التي عاشرت المسيحيين باكراً وعرفتهم وصادقتهم. تقوله بلهجة تقريرية إخبارية من دون أي تلميح أو خلفية سلبية. ما يدفعني أحياناً لأن أقوم بالمساعدة، بخاصة عندما تقوم المرأة بجمع البزاق من تحت شباكنا مباشرة.
آل الحداد هم المسيحيون الوحيدون في قريتي، يسكنون في قاطع آخر بعيد، لذا لا يمكنني زيارتهم باستمرار وفقط مع والدتي، حيث ألعب مع أولادهم ورفيقي بينهم الإبن اسكندر. وأذكر أني عاهدت نفسي، عندما تركوا قريتي بشكل مفاجئ، أن أظل على صلة بهم. لا أدري لماذا رحلوا ولا أدري لماذا انزعجت، فنحن أيضاً رحلنا عن القرية. لكن ربما لإحساسي باختلاف الأمر فيما يتعلق برحيلهم (النهائي) وفقدهم، وما حصل في ذهني من ارتباط ما بين هذا الرحيل وبين الحادثة التي أرعبني فيها شيخ القرية، عندما لحقني مهدداً بعصاه لأن والدتي ألبستني ملابس وجدها لا تليق بمسلمة، فبدوت لناظريه كأني من آل الحداد! تشبيه جعل منه وصمة. وكانت أول مرة تثار فيها أمامي هذه المسألة: ان لكل أتباع ديانة ملابس معينة وانني من دين مختلف عن ديانة آل الحداد! وبالطبع لم تكن لفساتيني صلة بملابس آل الحداد بل بمجلات الأزياء، التي كانت تنقل والدتي عنها الموديلات وتخيطها لي وللآخرين أيضاً.
ربما كنت بعمر الست سنوات تقريباً عند حصول هذه الحادثة. نبّهتني لوجود الاختلاف مع آخر شبيه. وبرز وعي أنه في طيات هذا الاختلاف عنصر سلبي عند البعض، يمنع في المبدأ التشبه به الذي بدا كنوع من تهديد لهوية ما. كما كشف عن نوع من التعصب أو الرفض الضمني من قبل رجل الدين لهم، بدليل معاقبتي. إذن، القاعدة الضمنية عنده «أنهم مختلفون» وأنه ممنوع عليّ أن أكون مثلهم.
لكن الريح لم تسر كما اشتهته سفنه. وذلك ربما بسبب ردة فعل والدي، الذي واجه الأمر بالمزاح وبقلة الإكتراث وبإرجاع المسؤولية إلى أمي. ما يوحي بأن الأمر برمته هو شأن نسائي لا حاجة للاهتمام به، ومن دون أي تدخل منه لمعالجة الأمر في تغيير موضة ملابسي. ما جعلني أحصر المسألة برجل الدين بلا أي تعميم. ربما هذا ما شجعني في أن أعارض ضمناً رغبة وآراء أو فكر رجل الدين، وأرغب في مقاومته عبر إظهار حرصي في الحفاظ على ودي لآل حداد، وعلى تتبع أخبارهم من حين لآخر في بيروت، إلى أن أضاعتنا الظروف والحروب.
الميزة الثانية لمسيحيي قريتي كانت الخصوصية التي طبعوها بها، فلقد اشتهرت القرية لفترة طويلة بصناعة السكاكين، التي بقينا نقتنيها ونستخدمها لجودتها، حتى سنوات ما بعد بدء الحرب الأهلية. وكانت تلك السكاكين معروفة بحدتها. لكن الحرفة اختفت مع اختفائهم، وربما اختفى أثر كل حرفة في قريتي!
في الفترة التي أعقبت الحادثة، عشت في بيت جدي في تلة الخياط ببيروت، حيث كانت صديقة خالتي الحميمة، وجارتنا في الشارع المقابل، أنجيل الجميلة الشقراء الممتلئة وهي مسيحية. كنت أجدها جميلة ورقيقة وكنت معجبة بها وأحبها، وبقيت أسأل عنها خالتي طويلاً، بعد أن تزوجتا وأبعدتهما الظروف. إذن، الانطباع عن المسيحيين في طفولتي لم يحمل لي إلا اللطف والصداقة وتعامل أسرتي مع الأمر انطبع بالقبول العادي البديهي، كما نقبل أي جار من دون أدنى التفات إلى دينه ومذهبه. كان هذا على ما اعتقد ما يمكن أن نسميه اختلافاً ضمن التعدد والتنوع. وهذا هو الأمر السوي والطبيعي والبديهي في «وطن» ما، أي وطن! فكيف بوطن الأرز؟
ما بين برج البراجنة والمريجة وحارة حريك، حيث أمضيت مراهقتي، لم أصادف مسيحيين على ما أذكر أو أصادقهم، كانت هجرتهم قد بدأت عن المنطقة المتحولة إلى مركز استقطاب لهجرات عكسية جعلتها تتحول وتتخذ وجهها الجديد المعروف. صارت قبلة للآتين من قراهم إما بسبب الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وما نتج عنه عبر السنين جنوباً، وإما بسبب الأوضاع الاقتصادية والهجرة التقليدية من الريف إلى المدينة من البقاع وغيره من المناطق. ومع الحرب الاهلية استفحلت هذه الهجرة، وتمركز التجمع فيها انطلاقاً من الطائفة والمذهب، فقط لا غير، من ضواحي بيروت في الجانب المسيحي.
في التعليم الثانوي صادفت عددا من المسيحيين الذين تركوا أثراً في نفسي. ربما لقلتهم وربما للانطباع الذي تركوه عن «اختلافهم» الذي بدأ يظهر هنا بطريقة مغايرة أو غير متطابقة مع الصورة الأولى.
أستاذ اللغة الفرنسية أولاً الذي بقيت ألتقي به صدفة بعد تخرجي ونقف لنتحادث برهة ويسألني عن أحوالي. ربما آخر مرة صادفته فيها كان بعد نيلي الدكتوراه وأبدى اعجابه بإكمال مسيرتي العلمية. أستاذي هذا كنت أراه كأنه شخصية من شخصيات أبطال الأفلام الفرنسية والأدب الفرنسي، الذي كان يدرسنا إياه بشغف. بدا لي خارجاً من هناك، من أحد الكتب. كذلك أستاذة مادة علم النفس، التي درّستنا في صف الفلسفة فيما هي تحضّر للدكتوراه على الأرجح. التقيتها كزميلة في الجامعة فيما بعد. ظلت تتذكرني وتتحدث عني ربما كشخص لم تتنظر منه الانتظام التعليمي، بسبب نشاطي السياسي والطلابي حينها، حيث كنت أعد «مشاغبة» في تصنيفها! لا أدري.. على كل بقينا نسأل عن بعضنا عن بعد، والتقينا مرات عدة في لجان وما شابه، ومؤخراً أشارت ضاحكة وفخورة إلى انها نقلت «لوثة علم النفس والتحليل النفسي» لي ولعدد من طالباتها اللواتي تبنين اختصاصها.
هناك أيضاً أستاذ فن التصوير الذي أخذنا في رحلات ممتعة وجعلني أحمل الكاميرا وأظهّر الصور لفترة من الزمن. ولكن من اختفى كما ظهر وترك لدي انطباعاً قوياً، كان فيليب، الطالب، الذي ظهر هابطا علينا فجأة من مدرسة رسمية أخرى في الأشرفية، وكان قد طرد منها وقُبِل في برج البراجنة، وذهب ولم نعد نعرف عنه شيئاً. لا أذكر أن مدرستي ضمت طلاباً مسيحيين حينها، مع أن منطقة حارة حريك والمريجة وغيرها، كانت لا تزال توجد فيها بعض العائلات. لكنهم الفرز الطائفي سرعان ما جرفهم بعيدا عن المنطقة التي ازدحمت بالمسلمين الشيعة، المتكاثرين، إضافة إلى الفلسطينيين المتجمعين في المخيم المتاخم.
في هذه المرحلة تكوّن انطباع جديد عنهم. ربما انطباعي المتكون عندها وفيما بعد من انهم مختلفون كان على الأرجح بسبب تمكنهم من اللغة الفرنسية، نقطة ضعفنا في التعليم الرسمي. لكن ليس هذا بحد ذاته، بل حرصهم الملفت للانتباه على إظهار ذلك واهتمامهم بإيلاء الفرنسية أهمية أكثر من العربية. ذلك أن التمكن من لغة إضافية مصدر قوة بديهي وأكيد، لكن هل يكون الأمر كذلك عندما لا يكون الشخص ضليعاً أيضاً بالعربية؟ وهل يكون كذلك عندما يكون التعبير عن نفسه بالفرنسية أكثر سهولة وأحسن مستوى؟ وعندما نتكلمها في المنزل كلغة أولى؟
المسيحي في تجربتي الواعية وربما شبه الواعية هو آخر، شبيه ومختلف. سوف أجد من يعلق: كل شخص هو آخر شبيه ومختلف. بالطبع.
لكن هذا الآخر كان بالنسبة لي في مرحلة وجودي في القرية وفي الانطباع الذي تخلف عن تجربتي معه جزءاً من التنوع أو التعدد ببساطة.. لكني في بيروت ومع الوقت التقيت بمسيحي مختلف أيضاً عن المسيحي في قريتي. بآخر ترك عندي الانطباع بأنه أكثر اعتداداً ويترك لديك الاحساس بأنه يشعر بنوع من التفوق أو الخصوصية وأنه من أفراد يعتبرون أنهم ينتمون إلى نوع من طبقة أرفع. ليس طبقة بالمعنى الحرفي لكن فئة أو جهة لديها قدرة أكبر على الامساك بزمام الأمور أو أنه «متحضّر» أكثر.. لهذا غالبا ما نلاحظ تمايزهم أيضاً (فيما يتعدى اختلاف اللهجات بين المناطق لكن كصفة غالبة لدى سكان المدن)، في طريقة الكلام واللهجة التي تتميز بعدم تفخيم الحروف العربية كما نتكلمها، أو كما كانوا يدرسوننا في المدرسة، بل يقومون بتليينها وإضعاف طريقة لفظها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تجدهم يحرصون على استخدام اللغة الفرنسية أو تطعيم حديثهم بالكثير من الكلمات الفرنسية، أحياناً دون التمكن منها حقاً كلغة عند بعض الفئات الشعبية. قبل أن تتعمم هذه الموضة نسبياً على مجمل أفراد الطبقة الوسطى من المسلمين وخصوصاً البرجوازية الشيعية، التي صارت تحرص مؤخراً على أن تتكلم مع أطفالها بالفرنسية أو الإنكليزية. وفي هذا دليل على اتفاق لبناني ضمني على اعتبار اتقان الفرنسية أو الإنكليزية واستخدامهما في الحياة اليومية تمايزاً وارتقاء. وهذه صفة لبنانية في الغالب.
كما يعطيك البعض منهم الانطباع وكأنهم ينتمون إلى حضارة أرفع من تلك المحلية وأكثر عصرية منها، إلى الحضارة الغربية والثقافة الغربية. أليست روما حاضرتهم؟ حتى أن البعض ، وبالرغم من الاتفاق الضمني بينهم وبين رجال الدين المسلمين على معارضة الزواج المدني ومعارضة قانون أحوال شخصية مدني حتى ولو اختيارياً، يتوهمون أن مواقفهم هنا أيضاً متقدمة فقط لأن مواقف الكنيسة وبابا روما متقدمة، ولو أن لا مجال لصرفها في لبنان. في المقابل أتشارك الانطباع مع عدد من الأصدقاء، ومنهم المسيحي، بأن المسيحيين العرب أكثر «قرباً» منا نحن المسلمين اللبنانيين أو أكثر شبهاً وأقل «اختلافاً» عن المسيحي اللبناني وأقصد هنا على المستوى الثقافي. حتى صديقتي المسيحية الآتية من القدس قبل أن تُحتل لا تبدو «مسيحية» بقدر بعض الصديقات المسيحيات. المسيحي العربي أكثر التصاقاً بعروبته قبل أي انتماء من نوع «أمنا الحنون» فرنسا وهو في الغالب لا يحمل اسماً دالاً بشكل خاص، وتجده أقرب اليك بخصوصيتك العربية. لقد ظلوا أكثر التصاقاً بالثقافة العربية ولا يتمايزون عن الآخرين وعنك بالانتساب إلى الثقافة الغربية. ونجد هذا أيضاً عند مسيحيي لبنان من المناطق الريفية الأبعد عن جبل لبنان أو المعروفة أنها محرومة.
التقي أحياناً بأشخاص في محيطي يعطوني الانطباع بالنظر إليّ والتعامل معي، ومع أمثالي، كـ«ريفية» نجحت في التحضر قليلاً، فاستطاعت الابتعاد عن الكليشيه القابع في مخيلتهم عن «الشيعية». أحياناً ألقى استهجاناً عندما يُعرف مذهبي بالصدفة، أنت شيعيّة؟؟ وكأن الانتماء إلى مذهب معين يزود الشخص بشكل أو مظهر أو رائحة معينة تميزه. تظهر العديد من ألبومات الصور المأخوذة من بداية القرن صوراً لنساء لبنانيات من مختلف الطوائف والمذاهب كن متشابهات الملابس. ربما الاختلاف على هذا الصعيد كان يتعلق بالفئة الاجتماعية أكثر منه بالدين.
شعور التفوق الخفي، يكون أحياناً رقيقاً وهشاً كطبقة جليدية رقيقة قابلة للكسر أو كخلفية موسيقية عميقة، وأحياناً يكون أكثر وضوحاً. اكتشفت لاحقاً وجود هذا الشعور والسلوك الضمني الخفي لدى البعض من بقايا الاقطاع القديم من المسلمين ولدى بعض السياسيين ولدى الجهاز الديبلوماسي. والكلام هنا يعني الاحساس بهذه المشاعر على المستوى شبه الواعي أو ما يُعرف بـ«النفث»، عندما نشير إلى الطاقة التي ترشح من الجسم عند التعرق. وليس نوعاً من السلوك الفظ أو الظاهر.
تكمن المشكلة الآن في عدم التطابق حالياً بين الواقع الذي بدأ يبتعد عن هذا التصور الأيديولوجي والتنميط، الذي يبرز مترسباً انطلاقاً من خصوصيات حقبة ما وممارساتها ووضعياتها التاريخية. فكما نعلم يتغير الواقع قبل أن نلتقط هذا التغيير على المستوى الواعي أو التنظيري، كما الايديولوجيا التي هي تعريف مسبق للواقع. ما يعني أنها لا تأخذ تغيرات الواقع المستجدة بعين الاعتبار، بل تعتمد على معطيات سابقة وجامدة.
من هنا ربما نجد أن هذا الشعور كانت له مبرراته، والمعطيات التي تسمح به، عند المسيحي في المقلب الأول من القرن العشرين وحتى الستينات. وهو مرتبط بمقتضيات التاريخ وعلاقة السلطنة العثمانية بالأقليات حتى القرن التاسع عشر، حين كان المسيحيون يُعفون من الخدمة الالزامية في الجيش الانكشاري، على عكس المسلمين الذين يتجندون بعمر 13 عاماً، فيتركون المدرسة عندما تتوفر لهم، وكل شيء آخر، ويذهبون بعيداً. في هذا الوقت كان يتسنى للمسيحي ارتياد المدارس الجيدة، التي وفرتها له البعثات الارسالية الغربية الهاجمة على المنطقة مع هجمة الاستعمار. انتجت هذه الممارسات طبقة مسيحية متعلمة كانت جاهزة لاستلام دفة الأمور في لبنان، الذي أوجد بجهد منهم ولأجلهم بالدرجة الأولى.
أما بالنسبة للشيعي في هذا الاطار فهو خضع للتمييز السلبي المتجذر في الزمن من قبل السلطات العثمانية. ومن هنا خلفية الحرمان التي يشعر بها الشيعي ويصرّ على الاحتفاظ بها، كإيديولوجيا، كما فسرناها أعلاه، بالرغم من تحوّله إلى مسيطر وقامع. مع أن الدستور اللبناني كان قد أعاد له حقوقه المهدورة. بينما كان للسني المديني امتيازات أهل البيت نسبياً.
بدأ تغيّر وضع الشيعة ومسلمي الأرياف مع إرساء الدولة الوطنية في لبنان، ومع دستور أخذ بعين الاعتبار حقوق المواطنين وحقوق الطوائف جميعها بشكل معقول. وبعد مجيء حقبة الشهابية، والاصلاحات التي قامت بها، وتعميم المدارس على الريف، ساعد المسلمين عامة والشيعة خصوصاً على تعديل الصورة نحو مزيد من المساواتية، إذا أمكن القول، بين مكونات الوطن. لن أدخل هنا في تفاصيل أخرى ولكني أود الاشارة إلى الصعود الذي عرفته الطائفة الشيعية، التي توفر لها التعليم الرسمي ومجلس الخدمة المدنية من ناحية، والهجرات من ناحية أخرى، مع دينامية داخلية متحفزة، ما أسهم في إيجاد طبقة من المتعلمين والمثقفين، كانت بمثابة تعويض عن الإجحاف الماضي.
لكن هنا أيضاً، نجد أن الطائفة الشيعية غير مدركة أنها ذاهبة نحو فقدان هذه الدينامية، ونحو التدهور والانحدار بفضل ممارسات محتكري تمثيلها السياسي، وحروبهم الخارجة عن الحدود، وعن المصلحة الوطنية، جارفة معها جيلاً كاملاً، تبعده عن المدرسة وعن حقل العمل والانتاج، مع تصور عن نفسه أنه متفوق وأفضل وأشرف من الآخرين.. فهذه الطائفة سوف تجد نفسها، بعد عدد قليل من السنوات، تعاني من انخفاض في مستوى تعليم أبنائها وتحولهم إلى مقاتلين قدامى، يعانون مما عانت منه وتعاني جميع الميليشيات المتقاعدة. وبالتالي، هنا أيضاً يتصرف غالبية أبنائها، المستقوين بحزب الله التابع لإيران، بشكل لا يتلاءم مع الواقع الآخذ في التبلور أو القادم، عندما نقرأ ما يدور حولنا بشكل جيد.
بروز التيارات السلفية من «قاعدة« و«نصرة« ومؤخراً «داعش« تشكل تهديداً لنا جميعاً. انها تهديد للوجود الانساني بشكل عام والمسيحي بشكل خاص. لكن للأسف الشديد لا تتلاءم ردود فعل بعض الفئات المسيحية اللبنانية مع المخاطر الموجودة، بل تدعها وتفاقمها وتعطيها شرعية ما، عبر تلقفها والقبول بها كأنها مسلمات بدل مواجهتها، عبر اللجوء إلى مؤسسات الدولة ودعمها. يتصرف المسيحي وكأنه مكون طارئ على هذا البلد وهذه المنطقة، يحتاج إلى إذن وتغطية وحماية. كأن العلاقة بالوطن علاقة عقد تجاري تنقضه عندما تشعر بأي تهديد بتدني نسبة الربح، أو تطلب كفيلاً آخر يؤمن لك مصلحتك. الكفيل الآن حزب الله ومن خلفه إيران!
وفي هذا تعارض مع فكرة لبنان الوطن، الذي أوجدوه. أليس هو بلد الأقليات؟ ألم يقم على عقد تعددي ديموقراطي؟ أسأل نفسي ما الذي يجعل فئة تغفل انتماءها العضوي السحيق إلى هذه المنطقة، وهي الأكثر تجذراً وعراقة فيها وقبل أن ينوجد الإسلام نفسه! وما حاجتهم لاعتماد حماية خاصة في الوقت الذي يمكن تأمينها من خلال التمسك بالدولة ذات القانون والمؤسسات، التي توفر الحريات، تلك التي ناضلوا قبل غيرهم لتثبيتها وجعلها ملح الأرض اللبنانية!! وجعلوا من لبنان قبلة المضطهدين الذين تعرضوا للقمع في بلاد الاستبداد العربي المتجذر، ومكاناً مختلفاً عن البلدان المحيطة، ذات اللون الواحد، التي أخفت الاختلاف تحت قوة القمع.
ربما إذا تمعنّا قليلاً يمكننا ربط هذا التخلي السهل بذلك الشعور التملكي والتفوقي. فإما لبنان الامتيازات للحقبة التي عرفت بالمارونية السياسية، وإلا فعليّ وعلى وطن الأرز السلام. يتطلب الأمر منا جميعاً أن نحافظ على، ونطور فكرة العيش معاً، وأن نعمل على ابتداع لبنان وطناً حقيقياً للجميع. لبنان «سويسرا الشرق« حقاً وبكل المعاني. من الحياد إلى الحقوق المواطنية المتساوية، إلى التمسك بالحريات، وأولها حرية المعتقد، أي أن انتمي إلى أي دين أولا أنتمي. كما يكفل الدستور اللبناني .
لا يمكن أن نهرب من الأوطان عندما تتعثر، أو أن نستسلم لشعور الغربة فيها، ولا أن نقبل الخضوع لابتزاز الآخرين. الأوطان تبنى ويتم تبنيها وتتجسد بالتدريج بجهد أبنائها اليومي، شرط وجود الإرادة. إرادة أن نكون معاً مواطنين متساوين، لا نحتاج سوى حماية دولة القانون للجميع.
في كتيب له بعنوان «ما هو الوطن» كتب أرنست رينان في العام 1882 أن «الأوطان شيء جديد في التاريخ. الوطن عبارة عن تجمع كبير من البشر، سليمو الفكر ودافئو القلب، يخلقون وعياً أخلاقياً يسمى وطناً. إنه امتلاك أمجاد مشتركة في الماضي وارادة مشتركة في الحاضر؛ إنجاز أعمال كبيرة معاً والرغبة بإنجاز غيرها أيضاً؛ هذه هي الشروط الأساسية لكي نكون شعباً«.
مع شعورنا بالحاجة إلى إصلاح نظامنا الطائفي من أجل إنجاز المواطنية التامة؛ ينبغي أن نحافظ على نعمة وجودنا في بلد تحوّل نموذجه من داء معدي إسمه «اللبننة»، بسبب اعترافه بالتعدد الطائفي، إلى دواء ومثال يحتذى في منطقة «أَخفت» تعددَها الديني والطائفي والعرقي والإتني تحت جزمة الديكتاتور.
monafayad@hotmail.com
كاتبة وباحثة لبنانية
نوافذ “المستقبل”