لبنان هو البلد الوحيد الذي يتقاسم فيه المسيحيون السلطة مع المسلمين بواسطة دستور وقوانين وأعراف متفق عليها، ومع قناعتنا بضرورة إصلاح هذا النظام عندما نتخطى المرحلة الخطرة والمهتزة التي نمرّ بها نحن والعالم العربي المهدد في وجوده وكياناته.
تتنافس داعش مع جيش الاحتلال الاسرائيلي في ارتكاب الفواحش الاجرامية. داعش تريد خطف الأبصار وهي تمتلك قدرات تقنية عالية (من درّبها!!!) لتنفيذ مخططها وتتبع أسلوب النظام السوري وتتفنن بتنفيذ وتصوير الجرائم المريضة التي لا تخطر ببال وتوزعها بمهارة تحسد عليها من أجل ردع وإخافة من يمكن أن يقاومها في الداخل إضافة الى إخافة الغرب عامة وإعطائه جميع الذرائع الممكنة التي يحتاجها لترك المنطقة تحترق كي يبرئ نفسه من جرائم الابادة الجارية على قدم وساق من العراق الى سوريا الى غزة.
في هذا الوقت تقوم داعش بتهجير مسيحيي الموصل، الذين لم يكذبوا خبراً فحملوا أمتعتهم ورحلوا من دون أن يأخذوا العبر من تجربة اللجوء الفلسطينية. لا شك في ان تهجير داعش لمسيحيي الموصل هو تهديد جدي لوجودهم في العراق وينبغي مواجهته بجميع الطرق المتاحة. لكن لا ينبغي النظر الى القضية بشكل منقطع عن سياق الاحداث في العراق وفي المنطقة عموماً ومع ما يجري في لبنان خصوصاً لجهة تعطيل مؤسسات الدولة اللبنانية وأهمها في هذه المرحلة تعطيل الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي سيؤدي الى القضاء على الدور المسيحي المتميز في الشرق. إن اتخاذ تهجير المسيحيين في العراق وفي سوريا كذريعة للتصرف كأقلية مهددة في لبنان وطلب الحماية من جهة أصولية لا تختلف كثيراً عن تلك التي يهربون منها ولا تشكل الرد المناسب للحفاظ على هذا الوجود. ترتفع أصوات تطالب بإصدار قرار عن الامم المتحدة بحمايتهم معتقدين انه يحل المشكلة ويمنع تهجيرهم من المشرق كما حصل في الموصل. لكن حتى لو صدر قرار من هذا النوع، كيف يمكن تطبيقه ومن يضمن ذلك؟
ان تعطيل الانتخابات الرئاسية من قبل بعض المسيحيين الخائفين المختبئين خلف مطلب رئيس قوي ليمثلهم ويشكل لهم درعاً يحميهم كبقية زعماء الطوائف الاسلامية هو التهديد الجدي لوجودهم. إذ ما معنى رئيس قوي؟ وهل الرئيس القوي هو الذي يضمن الحماية ام المؤسسات والقوانين؟ وهل أن الطوائف القوية في لبنان تستمد قوتها من نفسها أم من علاقة التبعية التي تجعلها خاضعة للخارج؟ وبماذا هي قوية؟ بكسر القوانين والهيمنة على الآخرين؟ وهل هذه قوة؟ أم انها هيمنة واستقواء ولا تبني اوطاناً.
إن مسيحيي العراق، ومصر وسوريا (بالرغم عن بروباغندا النظام السوري الكاذبة)… هم أقليات مقموعة وغير ممثلة حقيقة في السلطة ولا تحظى بوضعية مسيحيي لبنان وبالتالي قد لا نستغرب كثيراُ سلوكهم كأقليات خائفة تتطلب الحماية مع أن ما يتعرضون له هو نفس ما يتعرض له مسلمو تلك المناطق ومواطنوها بشكل عام. بينما في لبنان يتمتع المسيحيون بوجود مميز هو الوحيد الذي يذكر العالم اجمع ان هذه المنطقة هي مهد المسيحية وأرضها؛ وهم من ساهم في وجود لبنان والحفاظ عليه في صيغته الفريدة التي تبين نجاحها بحيث تحولت كلمة “اللبننة” من داء الى دواء تسعى المجتمعات المحيطة بنا الى تبنيها بالشكل الذي يتلاءم مع اوضاعها. هذا يتطلب منا ومن مسيحيي لبنان خصوصاً الحفاظ على الأقل على هذا البلد بخصوصياته وإنجاح نموذجه.
لكن أن يتصرف المسيحي اللبناني بنفس السلوك ويدب الصوت، كمسيحيي الموصل، وبالتالي يبرر “لجوءه” المبكّر الى “حلف الأقليات” منضوياً طوعاً (مثل ذمّي خائف) تحت جناح أقلية معينة ينظر اليها على أنها قوية و”تعرض” عليه الحماية فهذا ما يحتاج الى نقاش.
إن سلوك “داوني بالتي كانت هي الداء”، يعبّر عن نكوص، على مستوى الوعي المواطني الذي فتحنا أعيننا على وظيفته في حفظ لبنان وإعطاءه وجهه المتميز كبلد الاشعاع والنور. أن في هذا السلوك تراجعاً عن الدور الذي لعبه المسيحيون في جعل لبنان متمايزا عن سائر أنظمة المنطقة الشمولية عبر بناء نظام برلماني ديموقراطي (رغم عواهنه وحاجته الى الاصلاح) تعددي وقائم على المؤسسات. ومن هنا نجد ان الاعتقاد بالعودة الى المنطق الديني التعصبي او الطائفي الأقلوي للحصول على حماية في زمن “الدواعش” وأمثالها لا يستند الى منطق ولا الى الممارسة الديموقراطية التي ينسبونها لأنفسهم بل يبرر منطق “داعش” ويقويه.
اما في لبنان اليوم، فليس الآن أوان طرح إعادة النظر في كيفية انتخاب الرئيس او من ينتخبه وما شابه من طروحات. إن الحفاظ على لبنان بخصوصياته يتطلب حمايته آنياً عبر انتخاب رئيس جمهورية كي لا نصل الى ما قد يلائم البعض في الوصول الى لحظة تأسيسية تعيد خلط الأمور ولا أعتقد انها ستكون في مصلحة المسيحيين نظراً لما تعانيه المنطقة من انقسامات وصراعات، بل ستفتتهم وتجعل أوضاعهم على صورة المنطقة وتنقل مرتبتهم من مواطني درجة اولى يتمتعون بالمساواة المطلقة الى أقلية ذمّية تحظى بالحماية. انهم مثل من يقطع الغصن الجالس عليه.
لا يحمي الفرد سواء كان مسيحياً أم مسلماً، بوذياً أو يهودياً، جزءاً من جماعة او مستقلاً، إلا دولة قوية تخضع لقوانين ومؤسسات وتعترف بالمواطن الفرد وحقوقه من دون وصاية من احد. هذا إضافة الى أن “القوة” لا يوفرها شخص معين، بل مؤسسات ودولة قوية تحتكر الشرعية والقوة ويخضع لها الجميع طوعاً أو بقوة القانون. هناك فهم مشوّش لمعنى القوة، ان حصرها بالتبعية للفرد القوي يحمل خطر تحويله الى مستبد كما يحمل خطر زوال ما حققه بزواله ولا بقاء الا لله!
هذا الموقف من بعض المسيحيين في محاولتهم للتميز، يجعل منهم دون أن يدروا جزءاً عضوياً من هذه المنطقة وانتماءاتها العصبية والقبلية والعشائرية ويلغي عملياً كل ما تغنوا به من تقدم وحضارة ونور يشع على العالم ليتبين انه ليس سوى قشرة زائفة ونوع من بروباغندا غير واقعية سقطت في أول امتحان جدي.. ايها المسيحيون ممن يعتبرون انهم “الأقلويون والخائفون” أنتم عرب تقليديون وجماعات وأقوام وعشائر اكثر مني بكثير، واذا كان هناك من يحتاج الى حماية، فهم المواطنون أمثالي وليس أمثالكم!!
monafayad@hotmail.com
نشر في “النهار”