11 مارس 1917: السير ستانلي مود قائد الحملة العسكرية البريطانية يدخل بغداد ويطرد العثمانيين من العاصمة السابقة للخلافة العباسية، ويفتح الباب أمام تطبيق اتفاقية سايكس- بيكو المبرمة عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، وأمام سيطرة الهاشميين والنخب العربية السنية على حكم العراق.
9 أبريل 2003: الجنرال تومي فرانكس يدخل بغداد على رأس القوات الأميركية، وبعدها قام الحاكم الأميركي بول بريمر بالتمهيد لحكم يقوده العرب الشيعة بالتعاون مع الأكراد في طي للنظام البعثي السابق، الذي كانت نواته الأساسية من العرب السنة.
86 عاما مرت بين الحدثين المفصليّين في مسار تطور الكيان والدولة في العراق. وكان السؤال المطروح بإلحاح هل تغير واشنطن وجه الشرق الأوسط بدءا من بلاد ما بين النهرين، وهل ينجح توجهها وتحالفاتها الجديدة على محك تعقيدات المشهد العراقي والتجاذب الإقليمي. للوهلة الأولى ظن البعض أن الأمور استقرت وذهب الشعب العراقي إلى صناديق الاقتراع وانتهى عصر الاستبداد، لكن الأرض كانت حبلى بعوامل التفجّر، وكانت مقاومة الاحتلال، مختلطة مع استغلال إقليمي لذلك من أجل منع إعادة بناء الدولة أو لابتزاز الجانب الأميركي وعقد الصفقات معه (النظامين الإيراني والسوري).
في 10 مايو 2003 تسرع الرئيس جورج دبليو بوش في رفع راية النصر في حرب العراق، واليوم بعد مرور إحدى عشرة سنة يتضح أن حرب العراق كانت بداية نهاية حقبة الأحادية الأميركية، وكان هذا التوغل في الشرق كعب أخيل المشروع الكوني الأميركي، تماما كما كان مصير مشروع نابليون عند دخوله روسيا. يبدو أن كبار القوم في واشنطن لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة تاريخ العراق منذ بابل إلى حقبة نشأة الإسلام، وربما لم يتأملوا الموقع المركزي لهذا البلد الغني بكل أنواع الطاقة، والذي يشكل خط تماس سني- شيعي، وخط تماس بين العالم العربي وكل من العالمين التركي والفارسي.
من هنا كانت الخشية من التداعيات البعيدة لفكرة الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الكبير الديمقراطي على ضوء انهيار النظام الإقليمي العربي بعد سقوط بغداد وصعود القوى الإقليمية غير العربية أي إسرائيل وإيران وتركيا، وتزامن ذلك مع تأجيج الصراع السني الشيعي على الأرض العربية وبدماء العرب وبيوتهم ودولهم.
منذ الانتخابات التشريعية في العراق في 2010، بانت انتكاسة بناء الدولة العراقية الجديدة عندما وضعت طهران الفيتو على إياد علاوي والإصرار على التمديد لنوري المالكي في ترتيب ارتضته واشنطن، ونظرا إلى قناعة باراك أوباما بإعادة ترتيب الدور الأميركي في سياق صفقة يزمع عقدها مع إيران في اللحظة المناسبة. ومع احتدام الصراع السوري منذ 2011 وانحياز المالكي لنظام الأسد، ازداد اشتعال العراق إلى أن وصل التوتر ذروته منذ 2013 تبعا لانتفاضة الأنبار والإدارة السيئة لها من قبل المالكي.
ما يجري في العراق هو نتاج لفشل المشروع الأميركي ولمحاولة إعادة بناء الدولة وللتدخلات الإقليمية. فصل جديد من الرد على قهر عرب الشمال والغرب بانتفاضة أو تمرد (مثلما حصل مع أهل جنوب العراق أو كردستان في عهد صدام حسين)، وهذا لا ينفي وجود مكون إرهابي متمثل في تنظيم “داعش”. وما يزيد الطين بلة وجود ميليشيات متطرفة عند الشيعة مما يذكي العنف كما حصل في الحقبة السوداء بين 2004 و2008.
لا يمكن اختصار ما حصل من الرمادي إلى الموصل بصراع بين الحكم العراقي والإرهاب، والأدق أن الصراع متعدد الأشكال له بعد داخلي وديني، كما له بعد إقليمي أراد البعض من ورائه تبرير تغوّل المحور الإيراني الممتد من أفغانستان إلى شواطئ البحر المتوسط في لبنان مرورا ببغداد وحمص، وذلك عبر التخويف من ممر جهادي بين سوريا والعراق. وكأن الرد على مقص سايكس- بيكو يكون بسل الخناجر لمزيد التفتيت وانهيار الدول المركزية لصالح مشاريع فوق قومية أو وهمية، بغياب مشروع عربي نهضوي يضع حدا للصراعات المزمنة العبثية، ويمهد لقيام أنظمة حكم متفاهمة مع مجتمعاتها.
لفتت الأنظار تصريحات المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايكل هايدن في المؤتمر السنوي السابع حول الإرهاب الذي نظمه معهد جيمس تاون، في 12 ديسمبر 2013، إذ توقع “نهاية سايكس بيكو وتفتت دول وجدت بشكل اصطناعي في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى”. وأضاف “أخشى بقوة تفتت الدول. هذا الأمر سوف يؤدي إلى ولادة منطقة جديدة دون حوكمة على تقاطع الحضارات”.
ليس بالضرورة أن يكرر التاريخ نفسه في المشرق أو أن نشهد “سايكس- بيكو” جديدة، نتيجة عدم حسم الأمور في التعددية القطبية عالميا واحتدام التنافس الإقليمي، وهذا يحد من إمكانية التغيير الجذري أو عقد الصفقات في ظل الصراع المفتوح متعدد الأطراف. هكذا تصبح أي فكرة لإعادة تركيب الإقليم وتغيير خارطة الدول أو تقسيمها، دعوة من أجل اندثار الكيانات وتفكك المجتمعات بما يخدم مصالح أطراف اقليمية غير عربية، ويسهل لعبة الأمم الخارجية في منطقة تتميز بموقعها الجيوسياسي وبثرواتهاالهائلة.
لكن مقابل عدم تبلور صورة المشهد الإقليمي ومصير وحدة الكيانات في مستقبل منظور، نلحظ استمرار تحطيم الدول المركزية استناداً إلى مخاطر امتداد النزاع السني الشيعي في المشرق والمعطوف على الصراع في سوريا وحولها، وهو متصل بمصالح ايران وإسرائيل وتركيا وغيرها.
كل ذلك يطرح تساؤلا حول السيناريو الأكثر ترجيحا بالنسبة إلى مستقبل نموذج الدولة القومية عبر نهايته أو تأقلمه وتحوله إلى دولة مختلطة تعددية لا مركزية، تسمح بتلبية مطالب المجموعات الإثنية، مما يتيح لاحقا تحديد السمات الرئيسية للنظام العربي بشكل فدرالي خاصة في المشرق.
khattarwahid@yahoo.f
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس