مدرستي في السنة الأخيرة ثانوي، قسم الفلسفة، أقضي دروسها كيفما اتفق. ما أن أصل إليها حتى أضع شنطتي جانباً وأتوارى عن الصفوف، هاربة حيث الرفاق؛ وذلك مهما كانت النضالات المطلوب بذلها، والتي أجدها ذات أولوية قصوى، أهم من المدرسة، أهم من كل شيء. بعدما كنتُ أريد أن أتخصص بالطب لمعالجة الفقراء مجاناً، صرتُ الآن غير مبالية إلا بأهدافي الثورية التي سوف تحقق بنفسها علاجاً مجانياً للفقراء، تحققها تلقائياً، وكلها مرهونة بإرادتي وإرادة الرفاق، المخلصة، الدؤوبة… في نهاية هذه السنة، يلاحظ عليّ أهلي هروبي المنتظم من المدرسة. فيكون «العريس» مثل شارتهم الصفراء: حسناً، لستِ مهتمة بأن تتعلمي، ماذا عن العريس فلان؟ إبن عائلة وطبيب جراح خريج ألمانيا… النغمة نفسها أسمعها على طول، ولكن هذه المرة تصيبني بالهلع. إمتحانات الشهادة الرسمية ستجري بعد شهر، وإذا سقطتُ فيها، أسقطت كل حجتي بالخروج من اجل النضال… ماذا أفعل من أجل حماية إلتزامي الحزبي؟ أقسم مئة يمين بأن العلم وحده هو ما أريده في الحياة، لا زواج ولا غيره. أغلق الغرفة على نفسي، أنكبّ على المواد وأنجح بفضل ما قرأته وناقشته مع الرفاق حول النظرية الجدلية، «الديالكْتيك»، وهي واحدة من أصول النظرية الماركسية. فسؤال موضوع الفلسفة، وعلاماته حاسمة، هو قول مأثور للفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي، بليز باسكال، حول إقتراحه الفلسفي بالمراهنه على وجود الله. أعالج الموضوع معتمدة الخطوات الديالكتيكية الثلاثة، أي الـ»مع» والـ»ضد» وما يُنسج بينهما… ما ينقذني ويجعلني أنال علامة عالية جدا، تغطي على تلكؤي الفاضح في بقية المواد.
هذا النجاح يؤكد ثقتي بالتزامي. لذلك عندما يحين موعد التسجيل في الجامعة، أختار أول تخصّص يأتي على بالي، الفلسفة: فرع أنا شاطرة فيه، وهو داخل مبنى كلية الآداب، أكثر فروع الجامعة اللبنانية إكتظاظاً بالطلاب. أي إن مجال نضالي سوف يتوسّع، ويجرف معنا الطلاب الذين لم نلحقهم في الثانوي إلى موجة الترابط العضوي بين مطالبهم والقضية الفلسطينية. الصفوف كلها لا أحضرها، إلا إذا كان عليّ تبيلغ بموقف أو دعوة إلى إعتصام أو تظاهرة، أو توزيع بيان. حياة الجامعة تجري على مدخلها، وفي الفناء الضيق المسمّى حرمها. المناشير، النقاشات، التجمعات الحماسية، الإنطلاق نحو تظاهرات، الهتاف من أجل مطالب طلابية، الربط بينها وبين قضية فلسطين… هكذا يمضي العام الدراسي.
في هذه الأثناء، نعود فـ»نتشكّل» من حلقة مختلفة. مسؤول جديد، عماد، أقل عبوساً من الأول، يختبئ خلف نظارة طبية سميكة، يبتسم بخفر، كأنه يخجل بمسؤوليته؛ يدعونا في اجتماعنا الأول هذا إلى منزله، في مبنى قديم ذات أدراج لا تنتهي وطلعة حادة، في البسطة الفوقا. يبقى من الحلقة القديمة الرفيق غسان وأنا، والباقون جُدد عليّ، وإن عرفتُ بعض وجوههم في الجامعة أو التظاهرات: الرفيقتين زلفا ومنيرة، والرفيقين مالك وأيمن. شيء ما يشغلني. لا أعرف كيف أصيغه في عقلي. هو يبدأ بإحساس غير واضح بأننا في الحلقة الماضية لم نلحق أن نأخذ على بعضنا، فتآلفنا وتناغمنا، أو أعطينا «نظاماً» لعلاقتنا. ثم فجأة يحلّ علينا مسؤول جديد، ورفاق جدد… أشرد خلال الاجتماع الأول هذا، وعندما يقترح علي الرفيق أيمن إيصالي إلى البيت بعدما يحلّ الليل على اجتماعنا الثالث، أقول له بشيء من التردّد وقلة الوضوح ما يدور في بالي. كأنني اقترف خيانة، إذ ان هناك حرْمة للحلقة، كما يفهمنا دائما المسؤول، خصوصا عندما نصل إلى البند الأخير في الاجتماع، أي «النقد والنقد الذاتي». فوق السرية، فان الأصول التنظيمية تقتضي بأن أي كلام عن المنظمة يكون نقدا لها، لا يجب أن يخرج من حدود الغرفة التي يجري فيها الاجتماع. يفهم أيمن تلعثمي، ولكنه يشجعني على توضيح فكرتي. كأن الموضوع عنده «طبيعي». «بسيطة يا رفيقة» يجيب. القصة كلها ان الأطر المرنة المعتمدة هذه هي ردة فعل على الجمود البيروقراطي الذي يضرب بالأحزاب اليسارية التقليدية، خصوصاً الحزب الشيوعي. ولا تنسي أيضا قصة الإندماج، فهم حتى الآن يضعون هنا ويسحبون هناك، والحركة قد تطول و»نحن لا نعلم ما يجري فوق، عند هيئة الأركان… أبْصَرْ!». لذلك تجدين الرفاق يرددون تلك الكلمة السحرية، «التجريب»، التي تطمئن القلقين مثلك.
من أين لكَ كل هذه الحكمة يا رفيق؟ كل هذه الكلام؟ كل هذا التبلور في الأفكار؟ يغمز أيمن بعينه اليمين، وابتسامة شقية، يأخذ نفَساً، ويقول: «إنها قصة طويلة جداً يا رفيقة. ولكن في ما يتعلق بموضوعنا، فأنا يا رفيقة كبرتُ في عائلة محاطة بشيوعيين، أخوالي وخالاتي كلهم شيوعيون، كذلك جدي. بل أمي، حباً بأخوتها تجدينها مرحّبة بكل شيوعي. أي أنني نشأتُ على الحزب الشيوعي وزهقتُ منه… وعندما كبرت ووجدت في الثانوية أجواء أخرى، شباب مرح ومرونة وقيود تنظيمية قليلة، قلتُ لنفسي انني وجدتُ لقيّتي. لا تقلقي يا رفيقة، أطر المنظمة ليست ثابتة، ولكنها تبني على القاعدة الصحيحة… والقاعدة الصحيحة تحتاج إلى تجريب». يعجبني اطمئنان أيمن؛ ولكن قلقي صميمي: هو الذي يجعلني أخمن من بعيد ان ضجر الرفيق أيمن من الحزب الشيوعي مسألة مزاج، وانه في اللحظة التي يصبح فيها للمنظمة هيئات راسخة، وأطر وإدارة، سوف يهرب منها، كما هرب من الحزب. ولأيمن وجه آخر أيضاً، سوف يتكشّف مع الوقت: لديه جواب على كل سؤال، وكل جواب مفحم، مدعم، مثبت، أكثر من الأول، على تساؤلات يعتز بالإجابة عليها. لذلك عُرِف، بعد حين، في الحلقة الضيقة من الرفاق الأصدقاء بالـ»أنسيكلوبيديا» (encyclopedia)، أو «الموسوعة». و»الموسوعية» مرضٌ سوف يضربنا كلنا لاحقاً، لن يشفى منه إلا كارهي المرض من بيننا…
لكن هدير القضية الفلسطينة في الخارج طاغ الآن على كل قلق، على كل سؤال «الداخلي». في الجنوب، اشتباكات بين الجيش والفدائيين، وتظاهرات صاخبة إحتجاجية ضدها، ترفضها بروحها ودمها. واحدة منها تقع في ساحة البربير، في الثالث والعشرين من نيسان، ضد اعتداءات الجيش على الفدائيين في الجنوب. تتعرض هذه التظاهرة لإطلاق النار، يسقط من جرائه شهيدان وعشرات الجرحى؛ من يومها وحتى عقدين أو ثلاث من الزمن صار إسم ساحة البربير «ساحة 23 نيسان». من الساحة نفسها تنطلق تظاهرة توصف بالتاريخية، في تموز 1970، يقولون انها غطت سينما سلوى مروراً بساحة 23 نيسان وحتى البسطا الفوقا. حشد الطلاب الجماهيري، مثل هدير القيامة:
«مين اللّي قام تيدافع… مين اللّي هزّ المدافع»، ثم: «يسقط يسقط الحل السلمي!»، «يسقط يسقط مشروع روجرز!».
هذه تظاهرة موجهة مباشرة ضد جمال عبد الناصر، الذي وافق على مشروع روجرز، وزير الخارجية الأميركي، المعتمد بدوره على قرار مجلس الأمن لعام 1967، القائل بتسوية شاملة بين مصر وإسرائيل، بحدود آمنة وبوقف إطلاق النار وحرية ملاحة لإسرائيل عبر قناة السويس، والدعوة إلى تسوية عادلة لمسألة اللاجئين… الجماهير الطلابية المتظاهرة، التي تطرب لأغنية أم كلثوم «أصبح عندي الآن بندقية…»، هي الآن متأكدة بأن خيارها للكفاح المسلح هو الصحيح، وبأن الجيوش النظامية مثل الجيش المصري، ليست صادقة ولا قادرة، نتيجة تركيبتها الطبقية التاريخية، على خوض حرب تحرير فلسطين. الشعوب تتحرر بسلاحها، بكفاحها المسلح.
والطلاب، في هذه العملية هم الشعلة، هم الذخيرة، هم الغضب المحمود. في اجتماعات الحلقة، نحتل أنا وبقية الرفاق مكانة معنوية مميزة. مسؤول الحلقة، بين وصلة كلام وأخرى، يمتدح عمرنا، «هكذا يكون الشباب»، «أحلى شباب»، «شو شباب؟»، «يلا شباب!». في الاجتماعات لا نحتفظ بلقبنا الخارجي، «طلاب»، إنما نحن هنا «شباب» فحسب. بصفتنا هذه، أي طلاباً، ننظم تظاهرة عارمة تتجه نحو مطار بيروت، نريد بواسطتها أن نبيّن تخاذل السلطة أمام مطالبنا الجامعية وأمام قيام إسرائيل بالإعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت قبل سنتين، وإحراقها جميع الطائرات الرابضة على مدرجه. نمشي من سينما سلوى متجهين إلى المطار، ونحن نصرخ: يا حرية نحنا رجالك.. بدنا نمنع اغتيالك. أو: مين اللي قام تيدافع، مين اللي هزّ المدافع، غير الثوار غير الإخوة الفدائية، عخط النار حتى تعيش القضية.
في واقعنا الجامعي نضرب من أجل الإعتراف بشهادة التوجيهية، أو إلغاء العلامة اللاغية باللغة الفرنسية، وفي تظاهراتنا، نربط «عضويا» بين مطالبنا «الصغيرة»، «الجزئية» هذه، وبين القضية العادلة الكبرى. وهذه التظاهرة بالذات هي «خطوة متقدمة» لوعينا للعلاقة القائمة بين السلطة وأدواتها القمعية وبين المدّ الجماهيري الطلابي، مدّ اليسار الجديد والكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية… ماذا يحدث فيها؟ عندما تصل التظاهرة الى «دوار المطار» (ما يقع اليوم «تحت جسر المطار»)، تصدّنا قوة من الشرطة، بصفوف متراصة وموزعة على المخارج الشرقية والغربية للدائري، وتمنعنا من التقدم أو التسرب يمينا أو شمالا، وتأمرنا بالتراجع. نحن رأينا، من بعيد، وقبل وصولنا الى دوار المطار، صفوف الشرطة المحتشدة بوجهنا، ولكننا مصمّمون، لا نقبل أقل من بلوغنا المطار وإيصال صوتنا إلى العالم كله بأن جيشنا متآمر على فدائيينا. طليعة التظاهرة، الرفيق غسان وأيمن، وأنا في وسطهم. على رأس قوة الشرطة، وفي وسطها أيضا، يقف الضابط المشرف على العملية كلها. يصرخ بوجهنا:
«باسم القانون! ممنوع مواصلة التظاهر حتى المطار!».
فأردّ عليه بعفوية:
«باسم الشعب سوف نتظاهر حتى الوصول إلى المطار!».
يجيبني الضابط:
«اسكتي ولي شرم….!»
أصفعه على خده بقوة، وعفوية أيضاً، فيتطاير غضب رجال الشرطة وضابطهم، وكذلك الشباب، ويبدأ عراك فوضوي… شيء من الهرج والمرج، نأكل فيه الضربات من كعوب البنادق والركلات على الخصر، نحاول أن نردّ ببعض الحجارة، لكننا نلوذ في المخابئ ومداخل العمارات الخلفية، نركض سريعا بجنون نحو سينما سلوى… وتنتهي التظاهرة بأضرار بالغة في أنف أحد الرفاق وأسنان رفيق آخر، بقيت ندوبها تذكرهم بها، بلا كلل، حتى اليوم.
(وأنا أكتب هذه الفقرات، يحضر سؤال: إن الشعارات والممارسات الثورية التي ربطت بين نضال الطلاب، الثانويين والجامعيين، بزخمهم ومطالبهم وتمردهم، وبين النضال من أجل فلسطين، كانت تغطيها كلمة «طلاب»، تفي بغرضها. أما اليوم، فقد اختفى «الطلاب»، وأخذ مكانهم «الشباب»: «الشباب والتغيير»، «الشباب والشبكة الالكترونية»، «الشباب والثورة»، «الديموقراطية» هذه المرة… كيفما توسلتَ بلاءً حسناً، صار الشباب هم رواده، أو ضحاياه أو وقوده أو شهداؤه ما الذي نقلنا بعد خمسة عقود من الزمن إلى تبني هذه التسمية؟ «الشباب» بدل «الطلاب»؟ قد يكون إن الشباب ما عادوا كلهم طلاباً، إنما تسرّب العديد منهم من مقاعد الجامعة، وربما المدرسة. قد يكون إن طلاب اليوم لا يتحركون إلا من أجل مطالبهم الخاصة. قد يكون أيضا أن عمر الشباب قد امتدّ؛ وقت نضالنا الطلابي، نصبح «راشدين» ما أن نتخرّج، أي في الثالثة أو الرابعة والعشرين على الأكثر. بعض المناضلين المتفرغين في أحزابهم كانوا يسقطون أنفسهم عمداً، وبتكليف من أحزابهم، لكي يستمروا «طلابا»، و»قادة تاريخيين» للحركة الطلابية).
dalal.elbizri@gmail.com