في مصر «أم الدنيا» وقلب العالم العربي والبلد المركزي فيه، لا تتوقف حركة التاريخ الهادرة ويستمر «الهرج والمرج» والعنف والمخاض الثوري في مسار ستكون نتائجه حاسمة بالنسبة إلى مستقبل مصر كيانا ودولة، وكذلك بالنسبة إلى مجمل العالم العربي والشرق الأوسط.
من دون مواربة قال المشير عبد الفتاح السيسي، إنه ليس مقتنعا بأن البلاد جاهزة بعد للديمقراطية، مشيرا أمام رؤساء تحرير صحف مصرية إلى أنه ربما سيكون على مصر أن تنتظر من “20 إلى 25 سنة لتحقيق ديمقراطية كاملة”. هكذا في مواجهة المعارض التاريخي حمدين صباحي الذي يقول إنه الممثل الشرعي لثورة 25 يناير 2011، يظهر السيسي بدور “المنقذ” الملبي لإرادة جماهير يونيو 2013 في وضع حد لحكم “الإخوان المسلمين” بتحالف بين الجيش- غير المنخرط في أي حرب أهلية- وبين مصريين عاديين ونخبة مدنية علمانية ليبرالية موجودة في الحياة السياسية.
في صراع الإرادات الدائر في مصر يتبيّن صعوبة الخروج من الدائرة المغلقة من الصراع بين الأنظمة المستندة إلى المؤسسات العسكرية والأمنية من جهة، والتيار الإسلامي من جهة أخرى. بالإضافة إلى الأثر على الاستقرار وتطور النظام السياسي المصري، ربما ستكون التجربة الراهنة معيارا لإعادة تركيب النظام الإقليمي العربي الذي تهاوى ما بعد حرب العراق عام 2003، بعدما سبق له تلقي ضربة في الصميم عند خروج مصر من جامعة الدول العربية إثر توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل.
يجدر التنويه بأن مصر في عهد حسني مبارك كانت محط اهتمام وقلق عند الكثير من الدوائر الأوروبية المختصة التي كانت تعرب عن خشيتها من الجمود وغياب العمل والحلم عند الشباب، وكانت تعتقد بأن الأزمة البنيوية لنظام مبارك من جهة، ناهيك عن بروز طبقة متوسطة مع بدء الانخفاض الديمغرافي والنجاح في محو الأمية من جهة أخرى، ستعجلان بالتغيير.
بالإضافة إلى ذلك كان غياب الدور الخارجي المستقل والمناسب لحجم مصر من نقاط الضعف التي تعيق أيضا بلورة سياسات تنمية بعيدة عن التبعية. والمشكلة أن هذا البلد الذي يمتلك الكثير من عناصر القوة في العالمين العربي والإسلامي وفي حوض البحر الأبيض المتوسط وفي أفريقيا، بقي مفتقدا لإستراتيجية تجعله محرك النظام الإقليمي، وليس فقط ممرا للسلام كما تصوره هنري كيسنجر بل الضامن للأمن القومي العربي والخلفية الحصينة للدول العربية في الخليج. بعد البدايات المبشرة للحراك الثوري عملت عدة قوى على استيعابه أو تحوير مساره. بيد أن المبالغة في التجاذب بين التيارين الإسلامي والمدني، كانت أفضل وصفة لضرب المرحلة الانتقالية.
بالرغم من الانتظار الطويل لمدة 80 سنة، اتضح عدم “جهوزية” جماعة الإخوان المسلمين لممارسة الحكم وفهم آلياته. هكذا حسب مناهضي الإخوان المسلمين، لم تكن حركة الثالث من يوليو 2013 لتحصل لولا إسراع الجماعة في محاولتها للسيطرة على جميع مقاليد الدولة. وهكذا اصطفت في هذه اللحظة المعارضة الليبرالية الخائفة من الإلغاء، والكنيسة القبطية والأزهر الشريف والسلفيين تحت راية الجيش والسيسي.
بعد انهاء اعتصام رابعة في أغسطس 2013، بدا واضحا أن الجيش صمم على حسم المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين، وتبين أن كل دول الخليج باستثناء قطر، وكذلك الأردن ودول عربية أخرى كانت تخشى تصدير ثورة الإخوان المسلمين إلى أراضيها. ولهذا السبب راهنت على العودة إلى الوضع الكلاسيكي لسلطة قوية في مصر، الدولة المحورية في العالم العربي.
على أبواب استحقاق انتخابي مصيري يدور بين السيسي وصباحي دون غياب ظل الإخوان، من المبكر استخلاص الدروس النهائية من تطور الوضع في مصر.
إن إقرار دستور جديد توافقي وضامن لحرية المعتقد وتمكين المرأة والحفاظ على دولة تعددية جذرها الأساسي الإسلام، وارتداء المشير عبدالفتاح السيسي الثوب المدني، يعني أن مصر دخلت مرحلة جديدة رغم المخاطر المحدودة لعدم الاستقرار وانعكاساته الاقتصادية. في مقابل مقاطعة الإخوان المسلمين ومداخلات المرشح صباحي اليسارية والقومية، يصارح السيسي الناس بالقول، “إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم عقد اجتماعي، وأنه يعلم أن دوره هو العمل، لكن هل الشعب قادر على أن يستيقظ من الخامسة صباحا للعمل، كما يفعل الجيش من أجل النهوض بمصر؟”. إنه إذن رهان على النهوض والبناء.
في ورقة بحثية له في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» تعود لأكتوبر 2012 يقول، روبرت مالي (مستشار أوباما حاليا)، “إن جماعة الإخوان المسلمين التي خلفت مبارك طرحت على الغرب صفقة أفضل لأنها أكثر استدامة وبثمن أقل لأن مبارك أصبح مستبدا عاريا. وبالمقارنة، فإن الإخوان المسلمين لديهم برنامج أوسع أخلاقي ثقافي واجتماعي، يمكن الاعتماد عليه وهكذا تكون الولايات المتحدة قد نجحت في ما سعت إليه منذ عقود أي بناء أنظمة عربية لا تتحدى مصالح الغرب، ولم يعد غريبا أن يعتقد الكثيرون في المنطقة أن أميركا كانت متورطة في صعود الإسلاميين، وشريكا صامتا في كل ما كان يحصل”.
وبناء على ذلك استنتج أنصار السيسي، أن الدولة المصرية العميقة والمتجذرة، نجحت في إحباط مسعى تدمير وإنهاك الدولة المصرية الذي “رعته واشنطن بشكل غير مباشر”، بيد أن هذا النجاح لا يعني صكا على بياض من الشعب أو نهاية مرحلة المتاعب.
من أبرز المهام التي ستنتظر المشير السيسي، إنجاح مسار المصالحة الوطنية والاستقرار. بالطبع يمكن أن يكون التنظيم الدولي للإخوان المسلمين قد أصيب بنكسة كبيرة، أو تلقى ضربة قاتلة، لكن الإسلام السياسي على نطاق أوسع سيبقى لاعبا رئيسيا.
إذن ليس عزل قواعد الإسلام السياسي من قبل الحكم أو ممارسة الإرهاب عبر سيناريو جزائري مصغر (خاصة في سيناء وبعض المدن) هما المخرج. لابد للنظام من إعطاء الأولوية للحوار السياسي مع الشباب والمعارضين وعدم المغالاة في اعتماد الأسلوب الأمني. في المقابل، ستزداد حيوية المشهد السياسي مع استكمال عقد أحزاب جديدة صاعدة مثل حزب الدستور، وربما أقدمت جماعة الإخوان على مراجعة نقدية لسياساتها السابقة كما فعل رجب طيب أردوغان بعد نكسة سلفه نجم الدين أربكان نهاية التسعينات في تركيا. لكن مع وجود محمد مرسي وكثير من قيادات الإخوان المسلمين في السجن، إضافة إلى آلاف آخرين اعتقلوا خلال الحملة ضد الإخوان، فإن الآمال في الوصول إلى تسوية أو حل وسط، تبدو بعيدة المنال الآن.
مع عودة مصر إلى الأنماط التقليدية، تبدو الأولوية للحفاظ على الدولة وإنقاذ الاقتصاد، أما الإجازة المعطاة للتفاعل الديمقراطي الحقيقي، فيؤمل ألا تمتد طويلا.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس