نحن نعيش لحظة تاريخية مفصلية لن تغير الحال فى ليبيا وحدها ولكن في العالم العربي على اقل تقدير!
انها لحظة فصل الدين عن السياسة وعن الدولة. ونحن ندخل الان فى فترة شبيهة بعصر التنوير فى تاريخ النهضة الاوربية، والتنوير هو تحرر الفكر من كل سلطة ما عدا سلطة العقل. والعقل هو التزام بتغيير الواقع لصالح المواطن العادي. وبرغم كل الالام والدماء فأننا ندخل فى عصر الحداثة والحرية، ونلحق بركب الديمقراطية فى محطته الاخيرة، ونحجز مكانا متواضعا فى قطار التقدم والحداثة!
وأول ما سنفعله هو أننا سندخل فى روح “النهضة” حيث العقل الناقد هو أساس التغيير وحيث يكون النص الديني موضع تأويل العقل (“إذا اختلف النص عن العقل أُوِّل النص بما يقبله العقل”- وثيقة الأزهر).
سنتخلى عن أوهام المجد القديم وحلم الأندلس وفَقه الرقيق، ثم نواجه الحقيقة ونقرأ الواقع، وندرك أننا دولة صغيرة فقيرة لا تستطيع أن تعيش إلا بالسلام مع أوروبا والصداقة مع الولايات المتحدة الامريكية والإنفتاح على العالم وقبول الحضارة الجديدة بخيرها وشرها.
وحين تواجهنا المشاكل ونحتار بين الخيارات لن نذهب للكهوف المظلمة لنسأل الموتى المشورة، ولن نجد الحلولَ فى كتب الفقه القديمة، بل سنفتش عنها فى الجامعات والمعامل، ونسأل فيه أهل الخبرة والتخصص. ولن يكون طول اللحية، وضخامة البطن، وقصر الثياب، مقياسَ العلم والحكمة!
سنعيش عالما لن يحكمه “ابن تيمية” الذي يرفض التأويل ويرفض القياس ويفضل الحديث الضعيف على استخدام العقل، ويرفض أى جديد، فما من مسألة إلا ولله حُكم فيها! ويترتب عن غيابِ العقل غيابُ الالتزام بتغيير الواقع، ويفضى إلى تجميد الوضع القائم، وينشئ سلطان الأسطورة وتتفرع منها المحرمات الثقافية،
وسنبحث عن فكر جديد لا مجال فيه لـ”رضاع الكبير” و”مضاجعة الوداع” و”قلامة ظفر المرأة”! وفى موضوع أكل لحوم البشر”، لن نسأل بأيهم نبدأ بالعبد قبل الحر أم بالكبير قبل الصغير! ولن نستورد قِرَشيا ليحكمنا! لن” نمارس الخطاب المزدوج، وسنتخلى عن الكذب على الذات، وسنواجه الواقع بعيون ثاقبة تكشف موضع الخلل وأساس المشكلة.
وقد يسأل البعض: في ماذا أخطأ تيار الاسلام السياسي وهو لم يمارس الحكم إلا قليلا؟
ولو وضعنا ورقة وأمسكنا بقلم لنحدد على نحو دقيق ما هي أخطاؤهم: أهي الديكتاتورية، فالعالم العربي والاسلامي تحكمه الديكتاتورية منذ صبح الازل البعيد؟ أهي فرض أرائهم وعقيدتهم، ومن حق كل حاكم أن يفرض رأيه وعقيدته؟ فأين هي المشكلة إذاً؟
لانهم اقصائيون بطبيعتهم، لا يقرأون الواقع ويحتقرون العامة، ولأنهم يعيشون فى الوهم، ولأنهم جند الله المؤيدون بنصره فما حاجتهم للأخرين، ولماذا يستمعون لرأي البشر وعندهم الخبر اليقين؟ ولأنهم يظنون أن الله ناصرهم ولو بعد حين، وإن أخطأوا ودارت عليهم الدوائر، لا يلومون أنفسهم ولا يبحثون عن سبب الخطأ بل يظنون أن كل ما يمرون به هو “محنة”، والمحنة “امتحان من الله”! ولم يسألوا أنفسهم ولو للحظة لماذا يرسبون فى كل امتحان يدخلونه، ولم يسألوا أنفسهم لماذا يضعهم الله فى محنة بعد محنة ومصيبة بعد مصيبة؟ إن كانوا عباده المخلصين فالله رؤوف بعباده!
لكن هذا شأنهم وليس فيه جواب على سؤال مبتدأه لماذا!
لماذا؟ لانهم يريدون تغيير الواقع. لانهم يريدون محاصرة الانسان فى صحوه ومنامه ولأنهم يستمدون سلطتهم من ذات الله العلية، فهم لذلك فوق البشر بتقدير العزيز الحكيم! وحيث أنهم فوق البشر، فهم المكلفون من الله بحكمنا، يدركون أحكامه ونواهيه! وهم الاقدر على تطبيقها، ونحن مكلفون بطاعتهم. وليس علينا سوى الخضوع والرضى والكف عن السؤال!
وهم بعد ذلك يسيرون بنا، فى الاتجاه المعاكس، إلى القرن الاول للهجرة حيث السلف الصالح. و”الَسَل”ف تعني الاستدانة، تعنى أننا ملزمون نحو القدماء بردّ الدّين، وهذا لن يكون إلا باتباع سنتهم والسير على نهجهم،
لكن الواقع لا يسمح بذلك، لذا فلا بد من تغيير الواقع، لكن هذا مستحيل، فكيف السبيل؟ هنا يقع التناقض، وهنا تظهر نتيجة الفشل، وهنا يتضرر المواطن! ويرفضون هم إزالة الضرر فيكون من حقه أن يثور. وأصدق مثل على هذا فى ليبيا هو الغاء الفوائد على القروض الذي اربك البنوك وعجزت عن القيام بدورها الأساسي وهو منح القروض وقبول الودائع وأضر بالمستفيدين وهم فى الغالب من المتقاعدين الذين يعيشون على فوائد مدخراتهم، وقطع بين ليبيا والاقتصاد العالمي.
والمثل الثاني هو محاولتهم الدؤوبة لفصل الذكور عن الاناث فى المدارس والجامعات. وكان سيعقبها بالتأكيد فصل الذكور عن الاناث فى مواقع العمل، ثم منع النساء من العمل أو من الخروج من المنازل (وقرن فى بيوتكن)، وفتوى تحريم الغناء والموسيقى، وتحريم بيع رصيد الهواتف، وهلم جرا!
والخطر الاهم الذى أنقذنا الله منه هو محاولتهم أن يكتبوا منفردين دستورا جديدا للامة الليبية يصوغ حياتنا بطريقتهم. والاغرب أنهم لم يطرحوا هذا الدستور للنقاش على مختلف فئات الشعب! فالعامة، بحسب رأيهم، لا تُستفتى، ولا تُسأل! هم يكتبون ونحن نقرأ، هم يأمرون ونحن ننفذ!
ثم كان خطأهم الاكبر عداؤهم الشديد للمرأة، واصدار
آلاف الفتاوى المضحكة والغريبة وكلها لا تكون فى صالحها مهما كان الموضوع ، وأساسها منع المرأة من “الغواية”، ولا يتم ذلك إلا بفصلها عن الذكور لان المرأة هي العين الثاقبة، هي الحقيقة، هي التي تواجه الرجل بواقعه وضعفه ويشعر أمامها بالهزيمة! وما إصرارهم على إطلاق اللحي الكثيفة ألا مؤشرا على إحساسهم بنقص فى الرجولة! وما اصرارهم على حبسها فى البيوت، إلا خوفهم من أن تفضح ضعفهم أمام الاخرين! وبالمناسبة، فإن أعلى استهلاك لأدوية مكافحة الاعياء الجنسي ومحاولة إحياء من مات هو فى دول الخليج وفى ليبيا كذلك. وكلها موجهة للذكور فقط.
وما نشهده الان من أحداث متتالية هو ثورة على ابن تيمية، وسيد قطب، ومحمد بن عند الوهاب، ولن يتكرر ولو بعد مئة عام!
وكان من حسن حظي أن أشهد نهاية القذافي والان من حسن حظي أن أشهد الميلاد الجديد لليبيا الجديدة، والولادة عملية مؤلمة بطبيعتها لكنها تصنع الامل وتمنح حياة جديدة، وطفلا يبتسم، وامرأة تعود بعد الوضع أكثر نضارةً وجمالا، وتبشّر بمجتمع عصري يؤمن بالحداثة ويواكب متغيرات العصر ويقبل الآخر ويتعايش معه.
magedswhli@gmail.com
طرابلس الغرب