تيسرت لي زيارة تونس في شهر أبريل المنصرم للمشاركة في منتدى دولي تحت عنوان: «تونس في الفضاء اليورو المتوسطي المتحول: إسلاميون، تحولات ديمقراطية وتغييرات اقتصادية»، وقد شارك في المؤتمر نخبة من المسؤولين والخبراء العرب والأجانب، وبدا واضحا من المداخلات والمداولات وجود اهتمام غربي متزايد بإنقاذ تونس لأنها في نظر الكثيرين المختبر و”المثل الوحيد على نجاح الربيع العربي”.
لكن من يسمع المداولات ويلتقي بصناع الحدث وبالمواطنين العاديين يستنتج سريعا أنه لولا الدور المحوري للنخب السياسية والمجتمع المدني لما صمدت التجربة التونسية ولولا ذاك الدور المميز للرباعي (الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة، وعمادة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان) في قيادة الحوار الوطني، ولولا زخم إسهام المرأة التونسية، لما نجحت “ثورة ناعمة” منعت الصدام وتحاشت وصفة الصدام المفتوح بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، والتي كانت الوصفة غير السحرية لتدمير المراحل الانتقالية في كثير من البلدان التي شملها ما سمي بـ«الربيع العربي».
يركّز الكثير من المراقبين على أسباب الاستثناء التونسي لناحية إرث الدولة المدنية المتجذر في تونس التي كانت أول دولة عربية تسن دستورا حديثا في العام 1861، إلى جانب إسهام “البورقيبية” الكبير في تطوير نهج “علماني” مجتمعي وتخصيص نحو خمس الميزانية الوطنية للتعليم.
وترافق تحمل القيادات المحلية التونسية لمسؤولياتها مع مرونة عند قيادة حركة النهضة الإسلامية أتاحت انتقالا للسلطة ضمن المرحلة الانتقالية وبرز النجاح في صياغة دستور توافقي متطور وقانون انتخابي تم انتزاعه بعد جلسات عمل طويلة ومضنية لنواب المجلس التأسيسي الذين رفعوا شعار منع الفشل (تجدر الإشارة والتنويه إلى أن الراتب الشهري للنائب يعادل ألف يورو في زمن هدر المال العام في أماكن كثيرة من العالم)، لكن الوضع الاقتصادي الصعب وعدم تحقيق آمال الشباب الثائر في العدالة والعمل، كما الخوف من مسامحة “قتلة شهداء الثورة” يلقيان بظلهما على الواقع السياسي وآفاق الاستقرار.
يضع بعض المعنيين حدا للتفاؤل المفرط ويحذر من نهج بعض العلمانيين الإقصائي، كما يؤكد أن فريقا في حركة النهضة يريد العودة إلى الحكم بأي ثمن ويؤاخذ على الغنوشي مرونته. لكن بالرغم من وجود تيار توافقي يترأسه رئيس الوزراء السابق السيد حمادي الجبالي، وتيار متشدد يقوده الحبيب اللوز، يبقى الشيخ راشد الغنوشي المرشد الماسك بزمام اللعبة حتى إشعار آخر. وهذه الملاحظات تدلل على أهمية مرور الاستحقاقات الانتخابية واستمرار الحيوية التي أنتجها الحوار الذي رعاه الرباعي.
بالنسبة إلى الأدوار الغربية، العديد ممن التقيتهم أدانوا التقصير والكلمات المعسولة في الإشادة بالنموذج التونسي دون مساعدة البلاد فعليا. يطال النقد فرنسا، لكن نهجها الانفتاحي والتوفيقي بين الأطراف التونسية كان محل ترحيب.
أما واشنطن فتركز على استمالة النهضة ضد أنصار الشريعة، ومن الدول الناشطة ألمانيا التي افتتحت كل أحزابها مكاتب لمؤسساتها في تونس، لكن الكل يتفقون على إهمال المفوضية الأوروبية في بروكسيل وعدم تخصيص المساعدات المطلوبة وكذلك هناك شكوى من عدم تدفق الدعم العربي.
بيد أن العقبة الكأداء تكمن في فشل فكرة الاندماج المغاربي والسوق المغاربية نتيجة استمرار الخلاف الجزائري- المغربي، ولذا لا تجد تونس بديلا عن الفضاء الأوروبي وتنويع الشركاء.
لكن طابع الإلحاح في الأزمة الاقتصادية الاجتماعية يفرض خطة تتلاءم مع الحاجات وتمنع الانهيار، مع الإشارة إلى أن من بين أسباب تعثر تجارب الربيع العربي، وجود الكتل النقدية في عالم اليوم عند المناهضين للديمقراطية في الدول الصاعدة، وعدم وجود آلية استثمار عربي وتجارة عربية بينية قوية.
بعد حوادث الاغتيال السياسي في العام الماضي التي تأمل تونس بتجاوزها، يبقى شبح الإرهاب لوجود جماعات متشددة أخذت تنعزل لكن البيئة الإقليمية من الحدود الجزائرية إلى ليبيا لا تزال تشكل هاجسا أمنيا. في تونس البلد المتجانس في تركيبته الدينية، والمنقسم إنمائيا بين العاصمة والساحل المتطوريْن، والوسط والداخل «المحروميْن»، تعتبر صياغة مدونات سلوك في التسامح والخطاب السياسي العقلاني والتنمية الاقتصادية المتوازنة من ضرورات النجاح لليقظة التونسية الحالية.
في مراقبة لأحوال دنيا العرب، إذا بقينا في المجال الفكري استنادا للتجربة التونسية، وطرحنا أسئلة ملحة حول صلة الشورى بالديمقراطية ضمن المسار القاضي بضرورة تحديث نظام الحكم، ودور الدين والتراث في عالم متحول، نلاحظ أن الاستبداد حوّل عالم العرب إلى صحراء فكرية، والأهم اليوم هو عدم البكاء على الأطلال أو الحديث عن مؤامرات دون التحلي بالشجاعة، كما في حالة تونس لممارسة النقد الذاتي وتحمل المسؤولية في المخاض الانتقالي الذي لن يكون دربا مفروشا بالورود، بل مرحلة يزدحم فيها اللا استقرار مع الجدل الفكري والمتاعب الاجتماعية.
العائد من تونس يمتلكه شعور بالتفاؤل الحذر، لأن هذا البلد لن يعود إلى الوراء لكن الجو الإقليمي الضاغط وقوى كامنة أخرى يمكن أن تترك تبعاتها على تجربة تسير ببطء وثقة، وتنتظر، أكثر ما تنتظر، امتحان عودة السياحة لهذا الموسم حتى لا يهتز الوضع الاقتصادي ويقطع أمل الشباب بالتغيير.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب