أثارت طريقة تصويت الصين في مجلس الأمن، حينما طرح الغرب في الشهر الماضي مشروع قرار لإدانة موسكو بسبب تدخلها في شبه جزيرة القرم، الكثير من التساؤلات. فهذا المشروع الذي سقط باستخدام الروس لحق النقض “الفيتو”، أيدته 13 دولة، لكن الصين، القوة الجيوسياسية الكبرى في اوراسيا والعضو الدائم في مجلس الأمن، قررت الإمتناع عن التصويت، فكررت ما قامت به أثناء أزمة مشابهة بين روسيا وجورجيا في عام 2008 . وبهذا العمل فإن بكين فندت مزاعم موسكو القائلة بأن موقفي البلدين من الازمة الاوكرانية متطابق، وفندت في الوقت نفسه مزاعم واشنطون القائلة بأن بكين تتفق معها حول ضرورة احترام استقلال اوكرانيا وسيادتها ووحدة أراضيها. فماهي حقيقة الموقف الصيني؟ وماهي دلالات أسلوب تصويتها في مجلس الامن؟
هذا السؤال رد عليه الباحث الصيني في مؤسسة “آسيا فونديشن” “بان ليانغ في مقال له في صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية حينما قال أن كلا من موسكو وواشنطون تقرءان الدبلوماسية الصينية من منظورهما الخاص فتتوصلان إلى إستنتاجات مربكة وغير كافية لفك رموز الموقف الصيني.
والحقيقة أن موقف بكين من أزمة أوكرانيا شبيه بموقفها من الازمة السورية ــ مع فارق المعطيات والأسباب ــ بمعنى أن بكين، رغم وضوح الصورة على الأرض، لا تدين أي طرف من أطراف الأزمة وتكرر مقولات مثل: “موقفنا الثابت هو عدم التدخل في شئون الدول الأخرى”، و”وجوب إحترام سيادة وسلامة ووحدة أراضي كل الدول”، و”ضرورة التحلي بضبط النفس”، و”محاولة إيجاد تسوية سلمية للأزمة”. غير أن المختلف فيما يتعلق بأوكرانيا هو أن الصينيين في مأزق لا يحسدون عليه. فهم إنْ قدّموا الدعم السياسي للروس حول أوكرانيا فإنهم بذلك سينقضون مبدأهم القائم على عدم التدخل في شئون الآخرين، بل ويعلنون موافقتهم الضمنية على مبدأ قيام دولة ما بسلخ جزء من دولة أخرى وضمها إلى سيادتها، الأمر الذي سيقدم ذريعة للقوى الاجنبية للتدخل في مناطق صينية عدة لفصلها بناء على رغبات سكانها. ليس هذا فحسب وإنما قيام بكين بالموافقة على إنفصال القرم عبر الاستفتاء الشعبي سوف يشكل لها موقفا حرجا لأنها أقرت في عام 2005 قانونا يتيح لها استخدام القوة العسكرية في حال أعلنت تايوان إستقلالها عن الصين من خلال إستفتاء شعبي.
أما إذا تحالف الصينيون مع الغرب حول أوكرانيا فإنهم ــ طبقا للباحث “بان ليانغ” ــ سوف يتسببون في إلحاقها بالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وبالتالي ستضطر حكومة كييف إلى الالتزام بالتعليمات الغربية القاضية بعدم تزويد الصين بالأسلحة والتكنولوجيا التي كان من السهل الحصول عليها في ظل أوكرانيا حائرة او في حالة فراغ.
ويقول “بيتر لي” الكاتب المتخصص في السياسات الامريكية تجاه جنوب شرق آسيا أن بكين لم تستطع ان تخفي غضبها وإنزعاجها من إقدام سكان القرم ــ بدعم من موسكو ــ على إعلان إستقلالهم وإنفصالهم عن أوكرانيا، خصوصا وأن في الصين تعيش جماعات وشعوب ــ مثل أبناء التبت، وسينجيانغ (تركستان الشرقية)، وهونغ كونغ، وماكاو، ومنغوليا الداخلية ــ لو أتيحت لها الفرصة للتعبير عن طموحاتها لاختارت الإنفصال عن الصين وضربت بفكرة الصين الواحدة الكبرى عرض الحائط. ويضيف أن إمتناع الصين عن الوقوف خلف روسيا، كما فعلت حيال القضية السورية، لم يكن سوى إنعكاس لهذا الغضب، وتذكير لموسكو بأنها وقفت موقف الرافض لإستقلال كوسوفو، الذي تم بتدبير غربي على حساب سيادة جمهورية الصرب ووحدة أراضيها، فكيف بها اليوم تدبر بنفسها عملية إستقلال القرم عن أوكرانيا تمهيدا لضمها إلى السيادة الروسية.
ويضيف الكاتب في مقال مطول كتبه لصالح صحيفة آسيا تايمز الهونغكونغية أن ما يهم بكين تحديدا هو إحتمال أن تكرر واشنطون ما فعلته حيال الأزمة الأوكرانية في موضوع تايوان ذي الحساسية البالغة لبكين، بمعنى أن تؤيد الجماعات والقوى التايوانية المؤيدة لإضفاء الشرعية الدولية والقانونية على إستقلال تايوان، عبر دفعها للقيام باحتجاجات شعبية ضد عملية التقارب مع البر الصيني، ونشر الفوضى وأعمال الشغب، ودعوة واشنطون والديمقراطيات الآسيوية لمساعدتها والوقوف في صفها، أي تماما كما فعلت المعارضة الأوكرانية.
ومما ثبت بالدليل القاطع في أكثر من واقعة أنه، على الرغم من كثرة حديث الأمريكيين عن الديمقراطية وضرورة الإلتزام بنتائج الإستفتاءات العامة، فإنهم يرمون بتلك النتائح عرض الحائط إذا ما اتضح أنها لا تخدم مصالحهم. والإشارة هنا، بطبيعة الحال، إلى قيام إدارة الرئيس أوباما بدعوة الأوكرانيين علنا للإطاحة بالرئيس الأوكراني المنتخب ديمقراطيا “فيكتور يانوكوفيتش”، بل وتقديم الدعم لهم في وقت كان فيه الأخير يستعد لتنفيذ بنود إتفاق وقعه مع الإتحاد الأوروبي لإجراء إنتخابات تشريعية ورئاسية جديدة.
ولا يختلف إثنان على أن الصين تمثل تهديدا للطموحات والهيبة والهيمنة الامريكية، وإلا لما وضعتها إدارة أوباما المتخبطة في بؤرة إهتماماتها، وراحت تطاردها في كل مكان ومحفل، بل وتشن عليها الحروب الناعمة كلما وجدت إلى ذلك سبيلا. ولا يخفي الصينيون قلقهم من معلومات مفادها أن واشنطون قررت البدء في تفتيت الصين وتقسيمها كحل وحيد ناجع لدرء تفوقها القادم بأسهل السبل وأقلها كلفة، وهم في السياق سيبدأون بالأقل صعوبة وهو التصدي لعملية التقارب والتطبيع الجارية ما بين بكين وتايبيه. غير أن القادة الصينيين لا يزالون متمسكين بضبط النفس والإبتعاد عما قد يزيد الامريكيين غرورا ويدفعهم إلى إرتكاب الحماقات حيال الصين، وذلك إنطلاقا من مبدأ أنه في الوقت الحاضر لايمكن لبكين أن تواجه آلة واشنطون الحربية الضاربة المتفوقة عدة وعتادا، وبالتالي فإنه من الأجدى الصبر والإنتظار لبضع سنوات أخرى، مع العمل سياسيا ودبلوماسيا على خلخلة تحالفات واشنطون مع أقطار الشرق الأقصى. ثم أن بعض صناع القرار في بكين يراهنون على إحتمالات حدوث متغيرات دولية قد تجبر الإدارة الإمريكية القادمة بعد رحيل أوباما على تغيير سياساتها حيال الصين أو تقودها أجنداتها بعيدا عن الشرق الأقصى.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh
.