يمكن أن نقرأ كتاب نجلاء سعيد، “البحث عن فلسطين”، باعتباره الجزء الثاني من كتاب “خارج المكان”، ليس لأن نجلاء ابنة إدوارد سعيد وحسب، ولكن لأن الكتابين يعالجان مسألة وسؤال الهوية، أيضاً، في حياة جيلين ينتميان إلى عائلة واحدة، وإلى تجربتين مختلفتين في السياسة، والثقافة، والحياة.
وُلد إدوارد سعيد، في القدس، وعاش طفولته، وسنوات تعليمه الأولى في القاهرة، وقضى إجازاته الصيفية في لبنان، قبل الالتحاق بالجامعة في أميركا. أما ابنته نجلاء فولدت في بوسطن، وتعلّمت في مدارس النخبة في نيويورك، وعاشت سنواتها الأولى في ظل أب يحظى بشهرة عالمية، وأم لبنانية، عربية الهوى والهوية.
لم يعش إدوارد فقيراً، أو لاجئاً بالمعنى التقليدي للكلمة، ولم يعرف عذاب المنفى، وبدت إمكانية أن يكون أميركيا كاملاً على قدر كبير من الغواية، قبل حرب العام 1967، وقبل صداقته مع إبراهيم أبو لغد، الذي لا تمر ذكراه، دون أن ينتابني (بصفة شخصية تماماً) إحساس بالبكاء.
“البذرة دائماً في القلب”، كما في عبارة شهيرة لألبير كامو. فالولد الذي تعلّم في مدارس النخبة في مصر، وعاش في أوساط الطبقة الوسطى للمهاجرين الشوام، في قاهرة الخمسينيات، كان مفتوناً، أيضاً، بالمصريين الذي يراهم في الشارع، وباللغة، والرائحة، والثقافة العامة، التي أنشأ وسطه الاجتماعي جداراً يحول دون العبور إليها. وهناك، وُلدت البذرة الأولى للعيش “خارج المكان”.
وقد حاول إدوارد في أطوار لاحقة من حياته، منذ أواخر الستينيات، أن يكون أشياء كثيرة، في وقت واحد. ومنها أن يكون فلسطينياً بالولادة والإرادة. ولم تكن محاولة كهذه قابلة للتبسيط أو الاختزال، خاصة إذا كان صاحب المحاولة أحد أبرز الرموز الثقافية في القرن العشرين. فهو فلسطيني وعربي، ولكنه أميركي، أيضاً، ويمكن أن يكون يهودياً، على طريقة بنيامين وأدورنو، إضافة إلى نزعة إنسانية عامة، تمكن الكينونة الشخصية من التجلي بكل الهويات، وخارج كل تصنيف محتمل.
أما البنت فأرادت أن تكون أميركية خالصة، وخذلتها أشياء كثيرة، فلا اسمها يوحي، ولا لون بشرتها، ولا سواد شعرها، يسهم في تعطيل الإحساس بخلل ما في الهوية. والأهم من هذا، وذاك، أن لا لغة البيت، ولا مطبخه، ولا زوّاره، ولا علاقات العائلة، تحرر البنت من إحساس الخروف الأسود، في مدرسة تموج بالشقراوات.
قد تبدو هذه الأشياء طفولية، تماماً، ولكن هوياتنا، وعلاقتنا بأنفسنا، وبما نكون ومَنْ نكون، لا تنشأ في معامل معقمّة الهواء، ولا تتماهى مع التصوّرات الوهمية والمتوّهمة، في مناهج التعليم، أو لغة الناطقين باسم “شعبنا الفلسطيني”، بل في ملايين التفاصيل الصغيرة، من المهد، في مكان ما، إلى اللحد في مكان ما، أيضاً.
وهذا ما يصلح كتاب نجلاء، ابنة إدوارد، للتدليل عليه، باعتباره وسيلة إيضاح، على قدر كبير من الصراحة، والشجاعة، لعملية معقّدة اسمها تعريف الأنا، والهوية، في عالم تختلط فيها الثقافات، والأعراق، واللغات، والطبقات، والتجارب اليومية، التي لا يمكن ضبطها، أو تقنينها، في ظل زلازل سياسية، وأقدار عاتية تسحق الناس، وتبدد الهويات والمصائر، وتُلقي بحملها على الأطفال.
ليس صحيحاً أن الاختلاف يمكن أن يكون شيئاً صحياً، إذا شاءت الأقدار أن تنتمي إلى أقلية من نوع ما. أما الوصول إلى، والاعتراف، بما في الهجنة من تعددية، وغنى وإغناء، للشخصية، فهذه طريق شاقة، طويلة، ومؤلمة، محفوفة بالمخاطر، وغير مضمونة النتائج.
وهذه الطريق هي التي سار عليها إدوارد سعيد بالمعنى الشخصي والفكري. ومن بين ما لا يحصى من المراجعات، التي قرأتها عن “الاستشراق” ما تزال ملاحظة لمكسيم رودنسون، حيّة في الذاكرة، ويرد فيها ما معناه، إن الأمر كان يحتاج إلى فلسطيني لكتابة عمل مثل “الاستشراق”.
الفلسطيني، هنا، ليس الكاريكاتور، الذي تبيعه لنا “حماس”، والفصائل التي تنطق باسمنا، هذه الأيام، ولا السلعة المثالية في الاقتصاد السياسي للمقاومة والممانعة، بل تلك الكينونة، التي شاءت لها زلازل كونية كثيرة، أن تجد نفسها، في تقاطع طرق إنسانية ووجودية، تتعادل فيها احتمالات البقاء والفناء. وكان عليها أن تبقى لتكون، وأن تكون لتبقى. والحالتان مشروطتان بكفاءة الهجنة، ومهارات التهجين. وكلتاهما أداة مثالية لزعزعة بلاغة السرديات الكبرى، وسكينة اليقين.
وربما في هذا ما يفسّر كلام ردونسون عن الفلسطيني في إدوارد سعيد، بقدر ما يفسّر دفاع الأخير عن الهجنة والتهجين باعتبارها جزءاً من هوية الأزمنة الحديثة، ووحدة التاريخ الإنساني العام.
إدوارد سيكون سعيداً بكتاب ابنته، بالتأكيد. فالثمرة لم تسقط بعيداً عن الشجرة. لم تشتغل مثله على توليف صورة الشرق في المخيال الغربي، وعلاقتها بالكولونيالية، والمركزية الأوروبية، بل جعلت من جسدها، وذكريات وتجارب الحياة اليومية، وسيلة إيضاح لاكتشاف اعتباطية، وعذاب (وأحياناً، في وقت لاحق) عذوبة الوقوف على مفترق للطرق، وتعددية الخيارات، والهويات.
وبقدر ما أرى الأمر، يمثل هذا الكتاب إضافة للأدب الفلسطيني، الذي يُكتب الآن بلغات مختلفة، بقدر ما يفتح باباً (كما فعل إدوارد في “خارج المكان”) لكتابة فلسطين، باعتبارها ذاكرة فردية، وشخصية، تماماً، وليست بالضرورة، وفي كل الأحوال، سردية كبرى، ومتعالية على اليومي، والجسدي، والعائلي، والحميم.
أخيراً، ليس من الإنصاف القول إن الثمرة لم تسقط بعيداً عن الشجرة، وفي الذهن إدوارد، فقط. فلـ”مريم”، اللبنانية، العربية، أم نجلاء، نصيب وافر من الثمرة. وربما لولا لبنانيتها الصريحة، وعروبتها الفصيحة، لما تمكنت نجلاء من البحث عن فلسطين.
كلنا، بها المعنى أو ذاك، خارج المكان. أهلاً، يا نجلاء، في البيت.
khaderhas1@hotmail.com