يتكرر الحديث بين فترة وأخرى حول ضرورة تعديل الدستور الكويتي، من أجل الخروج من معضلة الانسداد السياسي/الإصلاحي الذي تعاني منه البلاد. ويمكن القول بأن ذلك أفرز فريقين، أحدهما يميل إلى الإبقاء على الدستور والغوص في ثناياه لجعله منطوقا وفاعلا في عملية الإصلاح، والثاني يؤكد ويشدّد على أن الإصلاح غير ممكن مع هذا الدستور في ظل إفرازاته السياسية/الاجتماعية التي تجعل من الصعوبة بمكان خوض عملية التغيير.
وبعيدا عن العبارات التي تشير إلى عدم مواءمة الدستور لتطورات الحياة انطلاقا من أنه – أي الدستور – صُدر في بداية ستينات القرن الماضي ولم يجر عليه أي تغيير يجاري تغيّرات الحياة رغم مرور خمسين عاما على ذلك. وبعيدا عن سؤال كيف يجب أن يكون عليه نظامنا السياسي، هل يجب أن يكون رئاسيا، أم برلمانيا، أم خليطا من الاثنين. لابد قبل ذلك أن نجيب على السؤال التالي: ماذا ننتظر نحن من الدستور في ظل تطورات الحياة وتغيّرها؟
إن الدستور الذي لا يستطيع أن يدافع عن قيم الحرية، والتعددية بصورها السياسية والاجتماعية، وعن احترام حقوق الإنسان، وبالذات حقه في الرأي والتعبير والنقد، ولا يهدف لتطبيق الديموقراطية من خلال التأكيد على آلياتها التي تحقق ثلاثة أهداف هي: تداول السلطة وتغيير رئيس الحكومة دون اللجوء للعنف، إشهار الأحزاب، وفصل السلطات الثلاث… هو دستور فاقد للصلاحية، وغير قادر على التعايش مع الواقع، ولا يستطيع تنظيم شؤون الناس والدفاع عن حقوقهم وتحقيق مصالحهم. بعبارة أخرى، دستور يحتاج إلى تعديل وتغيير لكي يواكب التغيّرات في الحياة.
أمّا إذا ما كان الدستور قادرا على مواكبة التغيّرات وباستطاعته تحقيق أهداف الديموقراطية، لكن التطبيق غير الفاعل له عرقل ذلك، أي أن هناك تعديا صريحا على الدستور وتعطيلا ممنهجا له، فهنا لابد أن يرتكز حديثنا على ضرورة تحميل الشارع مسؤولية التفعيل، أي نحتاج هنا إلى حراك نسعى من خلاله إلى تطبيق مواد الدستور، ولا نحتاج إلى حراك يدعو إلى تغيير الدستور. فالحراك الذي يدعو إلى تغيير الدستور من شأنه أن يتبلور، حينما يكون هذا الدستور – من خلال المواد التي يحتويها – عاجزا عن تحقيق قيم الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان وتفعيل الديموقراطية.
وهنا يبرز سؤال أساسي: أين موقع الدستور الكويتي في ظل هاتين المسألتين، هل هو قادر على مواكبة التغيّرات وباستطاعته تحقيق أهداف الديموقراطية، لكنه يعاني من تطبيق غير فاعل؟ أم هو غير قادر على مواكبة التغيّرات ولا يستطيع تحقيق أهداف الديموقراطية، وبالتالي يحتاج إلى تعديل وتغيير؟.
لكي يسود دستور يواكب تطورات الحياة وتغيّراتها، أي يواكب معايير الحياة الحديثة، ويشعر من خلاله الناس بأنه يحقق آمالهم في العيش بصورة ديموقراطية ويدافع عن كراماتهم بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، لابد أن يستند في مواده إلى نقاط عدة، وبعدها نحدّد هل يواكب معايير حياتنا الراهنة الحديثة ويحتاج إلى تفعيل، أم يحتاج إلى تعديل وتغيير:
-أنْ يكون الدستور معبّرا عن منهج علماني، قادر على إدارة الاختلافات المرتبطة بتعدد الثقافات والأفكار والمناهج والأساليب، وألاّ يكون معبّرا عن توجه سياسي/اجتماعي أو فكري واحد بما يفضي إلى الأدلجة والرأي الواحد، أو إلى الاستبداد. فالإنسان الحديث يرفض مختلف صور الخضوع، بما في ذلك الخضوع السياسي. وحينما لا يعبّر الدستور بمواده وروحه عن مسعى عدم الرضوخ للرأي الواحد والحل الواحد، لابد هنا من طرح علاجات له لجعله معبّرا عن تعدد الرؤى والحلول، قادرا على إدارة تلك الاختلافات. والعلمانية من جهتها ليست من الثوابت الدينية ولا الاجتماعية، كما أنها ليست ضدهما. لكنها ترفض إضفاء المقدسات الدينية والاجتماعية والرؤى المؤدلجة على العمل السياسي/الاجتماعي. فترفض تقديس الحاكم والحكومات، وترفض منع النقد عنهما، وتضفي النسبية واللامطلق على كامل الحياة.
-أنْ يكون الدستور متوائما مع غائية الإنسان الحديث، أي أن يكون متوافقا مع الإنسان الساعي إلى التغيّر والتجدّد باستمرار. وهذا يجعل الدستور، الساكن، القديم، غير المتفاعل مع المتغيّرات، المرتبط بظروف حياة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، غير القادر على الاستجابة لظروف الألفية الجديدة، دستورا معيقا للحياة. فحياة الألفية الجديدة تنطلق من معايير جديدة كثيرة، منها معيار ثورة الاتصالات وآليات مواقع التواصل الاجتماعي وما تحدثه من تغيير في مفاهيمنا وما تقوم به من انقلاب في منظومة علاقاتنا الاجتماعية/السياسية، الأمر الذي أدى إلى خلق أسئلة جديدة، باتت مثيرة ومتّقدة وجريئة وغزيرة، كما أصبحت مفردات مثل “لماذا” و”كيف” و”هل يحق” تسيطر على الأذهان والألسن وتأخذ دورا متقدما في سلّم أولوياتنا. من هنا، وبعبارة أخرى، كان لابد للدستور أن يكون متناغما مع التغيّرات الحداثية.
-أنْ يتعامل الدستور مع الإنسان بوصفه “مواطنا” يمتلك “حقوقا” مدنية كونية يجب احترامها ويمهّد الطريق لتحقيقها، مما يستوجب معالجة التناقض القائم على اعتبار الفرد مواطنا وفي نفس الوقت أحد الرعيّة، أي لابد من تجاوز مرحلة “الراعي والرعيّة” التي تحمّل الفرد تكاليف مفهوم “الطاعة” استنادا إلى ثوابت وأعراف اجتماعية ودينية لا تتوافق مع فلسفة حقوق الإنسان ولا مع معاييرها الراهنة. فمسؤولية الدولة هي إدارة شؤون الناس وتحقيق مطالبهم في إطار هدف الرفاه والتنمية، لا أن تنقلب الآية وينعكس هدف الدولة ويرتكز على إجبار الناس على “طاعة” الدولة مما يحوّلها من جهة تكمن مسؤوليتها في “إدارة” شؤون المواطنين إلى جهة تكمن مسؤوليتها في “السيطرة” على حقوق المواطنين وعلى شؤونهم.
بعد تلك النقاط الثلاث، نتساءل: هل يحتاج دستورنا إلى تعديل وتغيير أم يحتاج إلى تفعيل؟
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com