أخاف طويلاً. ثم أنسى أن أخاف. فأشرد، بكل شيء؛ بالغيوم القليلة، بالوجوه، بالمحل الذي كان مقهى فصار للملبوسات، بالعمارات الملتصقة ببعضها، بالجمال المضني، بكل شيء. أصحو من شرودي، أتفاجأ من صحوتي، ومن شرودي أيضاً. أصحى على نفسي. أشعر بالذنب. حسنا حسناً… ماذ ارتكبت؟ ما هي خطيئتي؟ ثانية، جزء من ثانية، أدرك انني نسيتُ أن أخاف. نسيتُ أن أتذكر الخوف، أن أتفرّس به. نسيتُ “واجبي”، قسطي من المأساة. عليّ ان أنضبط، كما لو اني ما زلت حزبية، أن لا أنسى خوفي لحظة، أن يرافقني الخوف أينما مشيت، كيفما توغلت في شوارع المدينة.
هكذا، أقرر. وبئس القرار. “أدخل” في الخوف، أرتفع إلى سماواته، أنزل في أحشائه. “أدخل” في الخوف كمن ضاع عن أهله، ونسي إسمه. لا أجد واقعية خوفي ولا كلمات خوفي، ولا صورتي. هو خوف، ومعه تلك الأوجاع العنيدة المتربصة. وجع يفرغ بطني، يشرعه للهواء، يثقل رأسي بالبلادة، يضعف أطرافي. روحي تؤلمني، مثل بطني.
وأنا اقوم بواجبي هذا، بعدم نسيان الخوف، ينطلق خيالي في كل الإتجاهات. مشهد الحريق التلفزيوني لم يعد يلهم خوفي. ولا طبعاً تصريحات وزير الصحة، حول “تغطية نفقات الجرحى”، أو استنكارات المسؤولين ذاتها، الجاهزة، المعقمة؛ بالعكس تماماً. هؤلاء يضيعونني عن واجب الخوف، يقللون من تركيزي عليه. بل أحياناً يضحكونني، ضحكة قاتمة دامسة، تلهيني عن الإيفاء بقسطي. فأنسى الخوف في هذه اللحظة، وأنجرّ إلى الرغبة بالنميمة، بالتعليق والسخرية من هذا الذي يجب اعتباره واحداً من مشاهد ما بعد التفخيخات. يفترض أن يخيفني، وإذا به يضحكني ضحكاً ضجِراً أسود.
ولكنني شخصيا صاحبة واجب. ولذلك، لا ألبث أن أعود إلى خوفي. جسمي وخيالي ليسا وحدهما المعنيين بهذه المهمة الشاقة. عقلي “الواقعي” أيضاً، نشاطه محموم. حواسي الاثنتين، سمعي وبصري لا يتوقفان عن ضخي بالخوف المطلوب. أحدّق بالسيارات، بوجوه سائقيها. تلك تحمل لوحة ديبلوماسية، “إطمئني”، أقول لنفسي. والأخرى نظيفة جديدة، استبعدها… والتي تليها تقودها امرأة، ولم تتورط حتى الآن الإنتحاريات. وهذه محمّلة بالاطفال، لا… لا يمكن.
وحده سائق السرفيس يهدىء من روعي. ربما يكون خطأً كبيراً، تطميني هذا. ولكنه واقع. أفكر به، هذا السائق. هو أكثر تعرضاً مني ومن أحبابي للمفخخات. هو الأكثر تعرضاً من بين المواطنين المتنقلين في شوارع المدينة. وهذا سبب وجيه لاطمئنان “جزئي”. فالخوف لا يتبخر مع تخيل خوف الآخرين، أو محنتهم. أريد أن أتقاسم مع السائق شيئاً من خوفي. هو الذي لا تبدو عليه علامات خوف ظاهري، إنما اذاعة شغالة على الأغاني أو النصائح الصحية أو الدينية… أنسى خوفي، أو أسقطه، لا فرق، فأسأله: “ألا تخاف؟”. ويجيب كمن كان ينتظر السؤال. كيف لا يخاف؟ أمس كان “هناك…”، وبعد دقائق “طلع الانفجار”. كيف لا يخاف… وكذا وكيت، وأنهار من القلق، من اللامبالاة، أو النسيان، السخط أو الغضب أو النقّ. أراه بطلاً، “بطل الإزْفلت”، بأن تكون مهنته التنقل بين تفجير وآخر.
كلامه يعيدني الى “واجبي” بأسرع من شرودي. بل يضخمه. يخرج خوفي من جسمي، أو ربما أنسى جسمي، وأحاول أن أحدد هذا الخوف، كمن يشرع في بحث… لعلني أتغلّب عليه، ولا أعود أمشي في شوارع المدينة كمن عاد من الموت أو هو مقبل عليه. عليّ أن أجد، أن أكتشف مما أخاف، أن أسبر أغوار خوفي من سيارة مفخخة. أن أُثكل بأحبائي وبغيرهم، أو أصاب بجروح تعطبني، أو ربما ان أقضي في واحدة منها وأرحل مبكراً، دائماً مبكراً، عن هذه الدنيا.
حسنا، ولكن ما صفات هذا الخوف؟ الحرب الأهلية الماضية تحضر في هذه اللحظة من دون جهد، من دون قصد. لم نكن نخاف، لم أكن أخاف أثناء سنواتها الطويلة. كنت أعرّض نفسي للخطر بإقدام… وجلّ ما كنت أحلم بحصاده من هذا الخطر هو إصابة غير بليغة في أعلى كتفي؛ الضمادات والجصْ في هذه المنطقة من الجسد كانت تبدو لي الأكثر رومنطيقية من بين الإصابات الأخرى. وبما أنني لم أخف في تلك الحرب، فهذا يعني بأن تاريخي الشخصي مع الخوف فقير وضئيل، لا نقطة استدلال واحدة تفيدني الآن.
هكذا أعود إلى محاولة وصف خوفي لنفسي، لعلني بذلك أتحرر من موجبات الخوف. هذا الخوف لا يشبه غيره. أخاف من جرذ يدخل البيت، من انقطاع الكهرباء وانا في المصعد، من كلب شارد يلاحقني على الطريق، من الوقوع وأنا أمشي… ولكن هذا الخوف؟ تلك الرجفة؟ ذاك الهول الكوني، الذي يجعلني أعدّ نفسي لإنهيار الحيطان والأسقف فوق رأسي، وبأن أحبط هذا الإنهيار بوضع موبايلي ونظاراتي بمتناول يدي قبل النوم. وقاية ساذجة، أعلم ذلك. ولكن هذا ما سوف يبقني حيّة، ربما، أمانع الموت، أهاتف من سوف ينتشلني…
لم يروِ لنا أحد عاش لحظات مماثلة أخيرة من حياته ليخبرنا شيئا عن كونية احتضاره؛ ولا شهد أحدٌ على هكذا قضاء أو قدر. لكنني أتخيل… أحاول أن أجعل الإحتمال ممكناً، لعلني، هنا أيضاً، أتطهّر من الخوف عبر استباق أقوى احتمالاته، عبر عيشها بالصورة وبالصوت. ولكن التطهير النفسي هذا يوسع الإطار الشمولي لخوفي. يسرع من نبضاتي، يحبس عني الهواء، ويكوم في رأسي أشلاء ودماء وصراخ وعويل ونيران، نيران غزيرة…
هنا ينفجر رأسي، يصبح هو أشلاء. فيتعطل ويتفتت إلى مئة قطعة. ولا أتحمل. ليس رأسي الذي يؤلمني الآن، ولا بطني ولا أطرافي، إنما عقلي. لقد حمّلته أوزاراً، هي من مسؤولية القائمين على موتنا وحياتنا، وحدهم. الذين، بفضل هذه “القوامة” وضعوا أنفسهم مكان الله. يشركونه في قرار موتنا أو حياتنا. هذه الألوهية تعيدني الى ما يقوله سائق السرفيس عن المفخخات: ” كيف ما بدّا تجي تجي…” (فلتأتي كيفما تأتي). فأهدأ قليلا لأنني سلمت أمري لله وللذين يتقاسمون واحدة من مسؤولياته. أصبح قدرية؛ “قدرية الموسم” تقول صديقتي، كما هناك موضة الموسم، أو فاكهة الموسم. لكن عقلي وجسمي يستريحان قليلاً. وأنسى. أنسى أن أخاف. وبعد حين قليل…. نظرة من هنا، كلمة من هناك، فأتنفض وأتذكر أني نسيت. لأعود فأستأنف دورة الخوف، أتون الخوف، كمن يعود الى الحياة الحقيقية.
وبعد ذلك، يتساءلون من أين لي، من أين لنا كلنا، نحن اللبنانيين العائشين هنا، أو المهاجرين، “مسحة” الجنون تلك، التي من دونها لا يعرفون كيف ينهضون يومياً من نومهم للذهاب الى حيث ينتظرهم موت ما، أقله هولاً، ذاك الذي ينزله الله، وأشده دموية هو ذاك الذي يحصده مشرك بالله، في تقرير عدد سنوات حياتنا.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل