القصة قديمة: “الدولة الضعيفة” التي لا ينتظر أحد من اللبنانيين بركاتها، دخلت في مشهدية فساد أركانها من باب نفق المطار. والجميع تابعها، أو عاشها، تلك القصة. أعرف عائلةً من أب وأم وطفلين علقت في هذا النفق في يومه العتيد، عندما فاضت مياه الأمطار عن مجراها المفترض؛ فما كان من رب العائلة هذا إلا أن نزلَ من السيارة بعدما أصبحت المياه على مستوى المتر والنصف، وقام بـ”تنظيم إجلاء” السيارات الأخرى العالقة معه، ثم جرّ سيارته الى “برّ الأمان”، حيث نهاية النفق الغارق، فكان خروجه منه أشبه بمعجزة، أخذ يحمد الله على حدوثها… لكن الرجل لم يكن وحده؛ كان هناك كاميرات هاوية، وأخرى محترفة تصور مجريات القصة كلها أو غالبيتها، وتنقلها الى الإعلامَين، التقليدي والجديد، فيكون المشهد “تاريخياً”، بمعنى أنك لو رأيته بعد سنوات، سوف تدرك انه عائد لشتاء 2013، عندما بلغ “غياب” الدولة منعطفاً تاريخياً، بتركها المواطنين يغرقون شتاءات عادية من شتوات هذا الفصل من السنة.
إلا ان مشهدية أخرى تفوّقت عليها، وإن سجّلت لنفسها أيضا مكان ما في هذا التاريخ، في هذه الذاكرة… فبعد حملات سخرية ونحيب، عفوية وربما منظمة، على هذه الأشبه بالدولة، على أركانها ورجالاتها، وخصوصاً الرجل الأول الحامل مباشرة تبعاتها…. بعد يومين على ذلك إذن، خرج علينا الرجل بنوع من التهريج إسمه مؤتمر صحافي، فتح أثناءه النار على مسؤول آخر، وكشف عن دفتر حسابات مطوي في أحد أدراج وزارته، يرفع بواسطته كل ما رمته حملات السخرية والنحيب عن أكتافه الواهنة، ويضعها على أكتاف وزير آخر…
فكانت المشهدية الثانية التي قد يحفظها أيضا التاريخ القريب: وزيران يتهمان بعضهما البعض بالفم الملآن بالسرقات والرشى والإهمال والإستيلاء على أراض مشاع… كل الأفعال التي هي من اختصاص المسؤولين في هذه “الدولة”، التي لا يتوقفون عن البكاء على “غيابها”… بحيث بدت السيارات الغارقة في نفق المطار وكأنها حدث مكتوب له النسيان أمام هول المصائب الأعظم، او المستور الأعظم… فكان “التراشق” بين الوزيرين، والشاشة التي انقسمت الى صورتين للرجلين؛ الأول يتهم والثاني يردّ، وبعبارات يقولون انها “لا تليق بمسؤولين”، إنما بالمواطنين الأرثاث أمثالنا… وساد الإعتقاد للحظة، بسبب هذا العنف اللساني ربما، بأن الموضوع قد ينفجر؛ ولكن عند التوقف والتدقيق، لدى التذكر بأن الوزيرين هما أصلاً بحكم “المعطَّلين”، أي انهما أعضاء حكومة تصريف أعمال وحسب، وان بوادر إعادة تأليفها لا تلوح في الأفق… إعتُقد لثانية واحدة بأن كل هذا الهراء سوف يوسع مساحات الإختلاف والتناقض بين وزرائها… ولكننا ضللنا أنفسنا مرة اخرى، أو أن عقلنا ضللنا. لا فرق على كل حال؛ فالذي حصل إثر الفضيحة الألف بعد المليون، والتي سميت جزافاً “سجال” بين وزيرين، ان الحكومة، وبغفلة منا، اتفقت، إنقاذاً لنفسها من المزيد، على تعطيل نفسها، على رفع المسؤولية عنها عبر تعطيل مرافق حيوية، إغلاق الطرق “الخطيرة”، إغلاق المدارس الرسمية والخاصة، وتحذير المواطنين من القيام بمهامهم ووظائفهم والبقاء في البيت. وذلك لكي لا يتكرر المشهدان: نفق المطار والوزيران. فكان تعطيل مرافق الحياة اليومية يخاطب التعطيل في المؤسستين التشريعية والتنفيذية، فيعمّم بذلك الفراغ الواقع عليهما وحدهما… المساكين! (آخر بدائع الوزير المسؤول عن المشهد الأول كانت بأخذه “إجازة سياسية”، وصفته “المصادر” بـ”القرار السياسي الصرف”. فماذا تعني “السياسية” هنا؟ ماذا لو وصف “القرار” و”الاجازة” بالـ”إجتماعيّين” أو “الثقافيَين”؟ بماذا كان إختلفت المعاني؟).
فراغ إذن، في الحركة والسياسة… ماذا نفعل به؟ نملأه بالإعلام، خصوصا المرئي، أكثر الوسائل قدرة على تعبئة ساعات فراغها بفراغات، أو عبر ما يشبه الفراغات. فكانت الثرثرة المغرية حول العاصفة “اليكسا”، حول التحذير من احتمالاتها، الكوارث التي تنبىء بها، والخسائر، والأملاك، وفوق كل ذلك… اللاجئين السوريين…
والإعلام متحيز؛ لا تعرف من أين تأتي “قوة”، كل وسيلة إعلامية؛ من شبكة علاقاتها، ولاءاتها، تمويلها… كل واحدة لها حسابها الخاص، “سندها” المعلن والسري، توجهها الحالي والمأمول الخ… ولكن على كل هذا التنوع، كانت مجمْعة، كما الحكومة المنفرط عقدها، على اعتبار “مجريات” عاصفة أليكسا، إنقاذاً من متابعة تفاصيل فساد ضارب الجذور في الوزارات كافة، أو في الخطأ البين الذي وقع فيه النجوم الجدد من اختصاصيي رصد العاصفة … (إذ لم تكن أليكسا” ولا عواصفها بحجم توقعاتهم المهيبة). لكن من الجيد أن تمتلىء الشاشة بالدور الذي تقوم به قوى الأمن الداخلي لمنع أصحاب السيارات العادية من إجتياز صوفر، بالمدارس المغلقة، بالثلج الذي وصل الى مناطق ترتفع ثمانمئة متر، وخصوصاً خصوصاً باللاجئين السوريين: ان حالة الشفقة التي دأب هذا الإعلام على التعبير عنها تجاه أولئك الهاربين من جحيم بلادهم، عبر تصوير عرائهم اليومي، ومن دون أي مبادرة من نوع “التلكوم” الذي كانت السيدات الأول يتخصصن به لجمع أموال من اجل هذه الأمراض أو تلك، من دون التفكير لحظة واحدة بكيفية تسخير هذه الوسيلة أو تلك من أجل تنظيم مساعدات تحفظ كرامتهم، كما تنظم مباراة الجمال، أو الأصوات أو الرقصات… بدل مشاهد البؤس والذل، اليومية، أمام هيجان عادي، دوري، للطبيعة…
ولكن حساب الوسيلة الإعلامية شيىء آخر، هو حساب “درجة” المشاهدة، التي تأتي من التغطيات غير المألوفة، المثيرة للعواطف القوية، المرغوبة بامتياز. مشاهد الثلج العادي لا تثير طلباً عليها؛ هي مألوفة في شتاء لبنان. يجب أن تكون “درامية”، هذه المشاهد، فيها قصة مذهلة، فيها أناس لا يملكون ما نملك، لا كنزة صوف، لا حرام، لا سقف فوق رؤوسهم… أصبح مشهد النازحين السوريين نجماً من نجوم نشراتنا الإخبارية، سرقت نجومية المطربين والمطربات، ودخلت في تنافس معها. تُفِّه الموضوع الى حد ان مواقع التواصل الاجتماعي ضجّت بشفقة نجوم الفن على النازحين السوريين، بالكلام المفروغ إياه عن قلوبهم المكسورة وحنانهم ورقّتهم. واحدة من نجوم الإغراء، وقد حسدت اللاجئين السوريين على “نجوميتهم” الجديدة… “كشفت”، انها ستتصور عارية “عند أول ثلجة”، تخفيفاً “عن همّهم”، وانها ستزور واحد من مخيماتهم، وتمضي ليلة تحت واحدة من خيمهم البائسة كي تشعر بما يشعرون، أو بالأحرى كي يشعرون ما تشعر هي…. فأمّنت بذلك لنفسها لفتة من الإعلام، كانت قد اكتوت بنار غيابه عن “أخبارها” يومين أو ثلاثة… (تصور، تصور فقط: لو لم تكن الأزمة السورية ولا لاجئين، ومررنا بمشهدي نفق المطار والوزيرين، كيف كان سيكون التعاطي مع العاصفة “أليكسا”؟ مجرد جبال ثلج وأناس في بيوتهم يتدفأون؟ كلا… هذه صور مضجرة مكررة، لا تجلب مشاهدين ولا إعلانات).
كل هذا، والإعلام يعتقد أو يريدنا أن نعتقد انه يعتقد بأنه يقوم بواجبه الإعلامي (أي إعلامنا بالشيء)، لمجرد انه يعرض علينا في اليوم الواحد، ولأكثر من مرة، صور عن البؤس والعراء، لأنه هو أيضا، مثل نجوم الفن، قلبه طيب وضميره حيّ. ونحن هنا لا نتكلم عن الإعلام “التراش”، التافه، الزبالة… إنما عن مجمل الإعلام، بمحترَميه وأفظاظه.
الإعلام ليس حزباً سياسياً أو جمعية أهلية أو خيرية. ليس مطلوباً منه ذلك. ولكن عندما يتصرف بهذا النزق، وكأن قيمة الثرثرة “الدرامية” هي معياره الأهم، أو ربما الوحيد، فهذا يعني بأنه يلعب ما يتفوق على الأحزاب بتزييفه للوعي من أجل عقيدة واحدة، هي ما يطلبه المشاهدون والمعلنون… وهي أخطر انواع العقائد، في البروباغندا: والقائمة على الإيهام بأن ما يروجه هو “الحقيقة” بحد ذاتها. أما خارجها، أو في كوالسيها، أي في الحياة الواقعية، فأوهام.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل