صيدا في أواسط الستينات. بيت جدي، الحاج سعيد، الذي قيل عنه، يوم تشييده، انه “بناه بين الواوية”، هو عبارة عن مدخل طويل عريض تحيطه الحدائق المتدرجة وساحتين، ثم منزل بطابقين، بوسعك الصعود الى الثاني منه عبر سلم داخلي، أو آخر خارجي يلتف على جهته الشرقية. هذا البيت المدهون باللون الزهري، وذو القناطر العالية والنوافذ الخشبية المعقدة الأقفال، هو مثل البيوت القديمة واسع شاسع، في وسطه ليوان وحوله غرف وصالون “شامي”، مغلق، إلا أيام العيد. تتصدره في حديقته شجرة ياسمين ضخمة فواحة، نصنع من أزهارها عقوداً لا تنتهي من العطر. الطابق العلوي من البيت نوافذه وقناطره أعلى، لا أعرف لماذا. أحب الجلوس في صالونه المطل على البحر وشاطئه الرملي الذهبي. عمتي الكبرى تسكن هذا البيت، وتقلي فيه البيض بزيت الزيتون، الذي لا تزال رائحته اليوم تعيدني اليه، هو ورائحة الياسمين، وزهر الليمون العابق في أوائل شهر الصيف. من هذا الطابق بالذات، أستطيع تلمّس جمال المدينة. من شرقها بساتين لا تنتهي إلا عند بداية الجبل. ومن غربها بحر دافىء مرحّب. ترحل عمتي عن هذه الدنيا فتسكن في الشقة عائلة قريبة لنا، من آل المجذوب، مكوّنة من ثلاثة أولاد “كبار”، نهمس، ووالدين ذوي وجوه سمِحة. من بين هؤلاء الأولاد “الكبار”، كانت زهوة.
أنا في بداية مراهقتي. ثلاثة أو أربعة عشر سنة. وزهوة بالنسبة لي نموذج البنت المتحررة الجذابة المثقفة التي لم أصادف مثلها بعد. العشيرة الكبيرة من صبيان العائلة، الأكبر مني ومن زهوة، يشيعون جواً من التقدمية واليسارية والبعثية والقومية الناصرية بنقاشات متواصلة، دائماً حادة، حول أمور هي من اختصاص كل هذه التيارات. في الشرفة المطلة على البساتين، في الطابق الثاني، حيث “تطلع” الياسمينة علينا، تكاد تلامسنا. نجلس مع زهوة واخويها، نهاد ومناف، وجمهرة ابناء عمومة وعمات وغيرهم، ويأخذ “النقاش” طريقه كأنه يستأنف ما سبقه. زهوة تضيف الى كل هذا نسوية وكلام قوي عن تحرر المرأة. هي دائماً نجمتنا، سفيرتنا، نحن المراهقات الثلاث الوحيدات، بعربية بعضهن المتعثرة، بين جمهرة الشباب الساحقة بعددها وحضورها. لا أسأل نفسي عن سرّ سحرها، انه بديهي، طبيعي. شكلها الخارجي: هي الاكثر جرأة في اللباس من بين المراهقات الثلاث. تبدو على الموضة النخبوية، شعرها الأملس بغرته الطويلة، وقصّتها المعتمدة، وقد لازمتها بعد ذلك كل حياتها، على طريقة المغنية الفرنسية ميراي ماتيو؛ ووجهها البشوش، المستوحى من الهيبية بالماكياج والحلى الكبيرة المتدلية، خصوصاً الحلق والعقود الكثيرة، وهندامها الذي يحاكي طليعة العصر، بالميني جوب والكعب “الدوبل سوميل” العالي، والـ”توبّات” الضيقة التي تبرز المفاتن من دون ان تقصد شيئاً آخر، كما قد يتداعى الى الذهن اليوم… هكذا كان المناخ وقتها. وزهوة في كل هذا مثالنا ومحفزتنا على إختراقات إضافية.
ما يبدو اليوم انه شجاعة خارقة، يحصل في صيدا، مع زهوة، برفقتها المرحة، اننا ننزل، نحن البنات الأربع، من منزل جدي، نتجاوز ما صار اسمه الآن شارع رياض الصلح، لنصل الى شاطىء البحر ونسبح فيه، وكل ما نلبسه هو مايوهات بيكيني وشبشب من البلاستيك، وعلى اكتافنا المناشف، فقط. “نجتاز” كل هذه “المسافة”، بما يشبه التغطية من زهوة؛ فنحن نحتاج الى قليل من الشجاعة لتجاوز “الممر” الصغير الفاصل بين شارع رياض الصلح والشاطىء، حيث يجلس على الدوام، ناطور لبيت يقع الى الشاطىء لأحد أقاربنا، وكلما مررنا عليه بهندامنا “غير المحتشم” هذا، يستعيذ بالله ويلعن هذا الزمن الذي صارت فيه البنات لا تستحي من لبس المايوه البيكيني…. نضحك بعد خلاصنا من الممر، وتضحك زهوة، كأنها مالكة أسرار هذه الدنيا؛ فنسبح باطمئنان من انها حتماً سوف تحمينا. اطمئنان وإعجاب بهذه الفتاة التي تبدو وكأنها ترسم المستقبل بعذوبة ثورتها.
(…) بيت آخر، زمن آخر. يقع في بيروت، على الطرف الشرقي من رأس النبع. في عمارة وحي يعجّان بالحركة والناس. من بيت صيدا الفسيح المحاط بالبحر والبساتين، تنتقل زهوة الى شقة، تقول ان “خنْقتها” ليست شيئاً أمام القيود التي يضعها عليها المجتمع الصيداوي المحافظ. انها في حالة ثورة، أيضاً، يعززها إنضمامها الى “منظمة العمل الشيوعي”، اليسارية المتطرفة. إذن هي رفيقة تمردت على البلدة وجاءت تمارس حريتها ونضاليتها في المدينة، من دون شروط. في شقة رأس النبع كنا نقرأ ونستمع الى الموسيقى، نناقش الأوضاع السياسية، الطاغي عليها الثورة الفلسطينية، والأفكار والنظريات الثورية، وكذلك غرامياتنا، وندخن السجائر بشراهة نعتقدها من لوازم نضاليتنا. زهوة الآن في كامل تألقها. حولها معجبون كثر، وهالتها لا تفتر. تضحك كثيرا مثل معظم أهالي صيدا، كريمة، داعية الى انشراح دائم في قلب التوترات والمآزق. فضلا عن جاذبيتها واناقتها التي بقيت حتى آخر حياتها حريصة على تأكيد فرادتها.
وعندما نحتفل بزفافها على سامي في الشقة نفسها، وبحضور أقرب الرفاق، الشيوعيين من المنظمة ومن الحزب، لا ندري ولا نتصور بأننا، بهكذا احتفال كنا نسجل سابقة، لن تتكرر بعد ذلك. الحفلة اقتضت “سحب” كل العفش، القليل، الى زاوية ضيقة، و”فرش” جلسات، أو قعدات، على الأرض سندها الوحيد هو الحائط. كنا كمن يحضر جلسة صلح عشائرية، في ما يشبه الدائرة الكبيرة، وفي وسطها، قمنا بـ”زفها” على أنغام موسيقى لم نفكر باختيارها. زفاف زهوة وسامي يبقى مثل ضوء من الضحك والمسخرة والصعْلكة.
موهبة زهوة بحبها للحياة تفيض عنها، هي أم مواهبها الأخرى. زهوة تعشق الحياة. فيما الحياة لا تعرف إلا قدراً، حظاً، أمراً مكتوباً. ليست الحياة وفية، خصوصاً مع عاشقيها. انها مثل القطط، تعمل على المزاج، على الصدفة، لا يُعرف اين تكون مخالبها، كيف تسنّن (…).
كانت زهوة، إذا أثارها أمراً من تلك الأمور الكثيرة، تقول “يصبح الشوم (الشؤم)!”، معبرة باللهجة الصيداوية المحبّبة، عن إستنكارها. كانت دائما، مثل الصيداويين العتيقين، تعبر عن هذا الإستنكار كأنها اكشتفت لتوها فناً جديدا من فنون الشرّ التي يجهلونها. قلبها الذهبي الصافي، كان منبع ذهولها المستمر من اكتشافها المتجدد هذا، بأن البشر مساكين بشرّهم هذا، فتغفر، كما كان يغفر أبي وأبيها، الطيبين الصميميين. طيبة قلبها ونقدية عقلها مصدر حسرتها وغربتها من خداع الناس في العاصمة. ولكن دائما مع ضحكة واستعداد لا يضعف للسهر والغناء والرقص…
كل هذا المزيج هو زهوة. مزيج متفجر، وإن اطمأنت في أواخر عمرها الى ليبرالية انتقلت اليها، من دون ان تجد فيها تماماً ما كانت تبحث عنه في الشيوعية واليسار والتقدمية؛ فوق ان الزمان تغير، ولم تعد أية ايديولوجيا تلبّي حاجات وجودية ومعنوية كانت الشيوعية وزمنها يبثّانها في ثنايا القلب والعقل ويخترعان بغفلة منهما حلماً، أملاً، مشروعاً، وثبة ربما… قل ما شئت. تحمست زهوة للثورات العربية في أوائلها، خصوصاً السورية منها، كتبت عنها واحتفلت بها في أوساط اصحابها. ولكنها سريعاً ما خذلتها. كانت تردد في أواخر عمرها: “ما في (لا يوجد) أفق”. كانت تقصد انها لا تجد أمامها ثغرة، ولو صغيرة، يمكن البناء عليها شيئاً من الأمل. الفتاة السوبر، المتألقة بجذابيتها ولسانها ولهجتها وطرائفها، التي ألقت على مراهقتي شعاعا من الحب والضحك والأمل، صارت تقول “ما في أفق”، بجدية، بعذوبة، بعمق. أسكتُ عندما تعيدها على مسامعي، تلك الكلمة. لا أجد ما أقوله يضاهي جديتها وعذوبتها، خصوصاً عذوبتها…
رحلت زهوة مجذوب، ملهمة مراهقتي. في حضارة أخرى، ربما غير موجودة إلا في خيالنا، يجتمع أصدقاء وصديقات الراحل(ة)، مع أهله إذا رغبوا، في سهرة غير مغطاة إعلامياً، وتكون مخصّصة للتكلم عنه، عن قصصه، عن صفاته، عن مقالبه، عن شقاوته، عن طرائفه. من أجل ماذا؟ من أجل توثيق علاقتنا بذاكرتنا الحية. مشوار زهوة في الحياة، طبائعها، السياق الزاخر الذي رافق شبابها، كله يستحق طقوساً كهذه.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل