اليأس السعيد؟ الآن؟ بعدما اشتدّ الموت والخراب والفوضى؟ هل هي موعظة دينية؟ توعدنا بالآخرة لو “اعتصمنا”؟ وتتغنى بالإستشهاد؟ أم نوع من الإنكار للواقع، أو النفَس البطولي الجبار أو الهروب نحو عوالم الفنتازيا؟
ليس كل هذا. اليأس السعيد هو طبيعة وثقافة في آن: انه غريزة الوجود، الإستمرار، المقاومة الفطرية لنوازع الموت. وهي غريزة حيّة ومتدفقة عند الذين لم ينذروا أنفسهم فداء زعيم (“كاريزماتيكي”) أو فكرة أو قضية. لم ينذروا أنفسهم لتلك الأهداف “النبيلة”، ولكنهم وجدوا أنفسهم، وسوف يجدون أنفسهم على مدى الدهر، وسط أصحاب غريزة موت، هي حية ومتدفقة أيضاً عندهم. قصة قايين وهابيل التي لن تتوقف عن التكرار…
هي طبيعة، فطرة إذن، ومعها “ثقافة” أيضاً، أي فكرة نبنيها بهياكل ونوافذ وأنوار ساطعة، تساعد هذه الفطرة على الصحو الدائم، على اليقظة، على الفعل ربما. تدخل الإرادة في هذا الوجه من اليأس السعيد؛ إرادة الذهاب عكس المزاج المستسلم لليأس، المحبط على الدوام… وبطاقة سلبية قصوى تلامس أحيانا الانتحار المعنوي البطيء؛ تجد هذه النماذج كثيرا في هذه الأوساط. انهم الناس الطبيعيون في مناخ غير طبيعي، يسود فيه أصحاب مزاج كئيب تعيس، لا تسعه الدنيا كلها إنتحاريته الخبيثة… ذات مدى قصير أو متوسط أو بسيط… لا يهمّ.
اليأس السعيد هو رهان، أيضاً. أنت، لأنك يائس، لا تتوقع أمواراً أو أوضاعاً أو معطيات أفضل. بل انك ترى بوضوح بأن كل الأشياء ذاهبة نحو الأسوأ: يومياتك وأمجادك على حدّ سواء… بل الهلع أحيانا ينتابك عندما يسرح خيالك بالسيناريوهات المفترضة. ولا فرق هنا بين ان تكون “عالماً” ببواطن الأمور، وعلى صلة بـ”المصادر”، أو عائشاً “من دون أخبار”، مواطناً بسيطاً “سلبياً”. فالنتيجة الواحدة التي يذهب اليها خيالك هي مصائب تجعلك تندم على مصائب اليوم… انت يائس منطقي؛ “متشائم”، يقولون بلغة الأحكام. ولن تنتظر شيئاً. وسوف تبقى كذلك حتى يأتي ما يغير بيأسك، ولن يأتي، تعرف انه لن يأتي. وما دام الأمر على هذه الدرجة من الوضوح، ما الذي يرغمك على عدم انتظار شيء وانت تعيس كئيب سلبي…؟ ما الذي يحثك؟ ما الذي يدفعك؟ لا شيء في الواقع سوى الصورة المرتبطة بعدم الانتظار، على انها حالة لا شيء… فيما هي فضاء رحب من الحرية والبهجة، لن تجدها لدى الأشد إيمانا، الأشد تفاؤلا من بني البشر. الأمر يبدو مفارقاً، لكن الخيار واضح: أن لا تنتظر وانت تبكي، وأن لا تنتظر وأنت تحتفل بالحياة. في النهاية ما سوف تكسبه من حياتك هو ذاك الاحتفال، لا عدم الإنتظار اليائس الكئيب.
اليأس السعيد، مع هذا الرهان، لا يعود مستعجلاً لتحقيق ما ينتظر ان يتحقق. وحرقة عدم التحقق الآن، وهو الوقت… لا يعود مزدحماً بالمهل والإستحقاقات، حارقة الآمال كلها. الوقت في حالة اليأس السعيد يتوسّع، يصير رحباً بالمجالات. المدى كله يصير طويلاً. مع هكذا وقت، حتى الألوان تتغير، كذلك الضوء، وتكثر زواياه. اليأس السعيد حالة شبه روحية؛ هي حالة ضرورية لمخاطبة عوالم أخرى وسبر ألغازها وأغوارها.
حالة تشبه الأديان الأولى، عندما كان الكائن منحلّ بالكون كله، جزء صغير طفيف منه… لماذا لم ينكب الإهتمام على اختراع معاني اليأس السعيد؟ إلا في الروايات، الغربية خصوصاً؟ ربما لأن السعادة العامة والخاصة لم تتشكل بعد في وعينا، فلم تكن بالتالي موضوعاً للإنتاج الفكري أو الفني. أو لأن تعريف هاتين السعادتين يدخل في نطاق “أدوار” أو “مواقع”، لم يكونا بحاجة الى التعبير عن المزيد منهما…
ولكن اليأس السعيد حالة دنيوية، أيضاً، الى أبعد ما تسمح هذه الدنيا. حالة جدلية، وقوام معادلتها: لا تنتظر عدالة ورحمة من هذه الدنيا. لأسباب تاريخية وعقلية واستدلالية. الأديب الإيطالي الراحل ايتالو كالفينو، في روايته الفلسفية “الاقطاعي المنقسم اثنين”، يدفعنا الى الاستنتاج بأن العدل لن يقوم في هذه الدنيا لسبب سخيف جداً: ان البشر سوف يضجرون من كثرة العدل، وسوف يتمردون عليه بالعودة الى الشر الذي ألِفوه في حياة أخرى! المهم من هذا الجانب من المعادلة الجدلية: ان العدل غير ممكن على هذه الأرض.
ولكن في الشق الآخر منها: العدل فكرة يجب ان تبقى متعلقاً بها. لكي تقاوم الظلم، لا لـ”تستحقه”، كما يدّعي أصحاب القضايا حاملي “آمالا وبرامج ومشاريع”… إنما لتقيمه حيث استطعت. وتستطيع ذلك، في كل لفتة من لفتات تفاصيل يومياتك. هذا النوع من التواضع الوجودي تصاحبه بهجة بأدنى تعبيرات الحياة. جمال في أتفه تفاصيلها… مع كل الباطون والمازوت ومزاج المدينة العكر…
اليائس السعيد ليس منسحباً مما حوله. هو سعيد لأنه أيضاً محاط بمن حوله. ليس من النوع الذي فصل تماماً بين حياته، والحياة من حوله: بين خاصه وكل العام، سواء بحضوره أو اهتمامه أو شغفه. اليائس السعيد هو بالأحرى ممن يسمونه عندنا “مَعني” بالذي يدور حوله. انه هنا وهناك. في داخله وفي الخارج أيضاً. لا يستطيع أن لا يكونه. وإلا اقترب من البلاهة. فبين السعادة والبلاهة خيط رفيع يجب الاهتمام بإدارته، وبوعي. فاليأس، أو الشك، ليس هو الذكاء بعينه، ولكنه بالتأكيد واحد من مداخله. لا تستطيع ان تيأس من دون ان تفكر. ولكن أيضاً، أنت مهدد بالبلاهة لأنك سعيد… اليأس والسعادة يحميان بعضهما: اليائس يفكر، لكن البلاهة تنال منه، لأنه سعيد، فيعود اليأس فيطعمها بشيء من الذكاء، وهكذا… ليتحول التفكير الى متعة، تمنحها السعادة بعداً جمالياً، أيضاً…
النموذج المضاد لليائس السعيد، هو المناضل الكئيب؛ وهو يمتد من الشخصية “العمالية” المتقشفة المرهقة، الى الناشط، التلفزيوني خصوصاً، أو المقاوم أو الحزبي أو المؤيد أو النصير أو المصفق أو المشارك أو أي متأمل بأمل ما، مما يجري حوله، وبناء على النظرية التي يعتمدها من زمان. مُحبط أو منتصر أو متوهم الإنتصار أو الهزيمة، منفعل، متوتر، غاضب دائماً وأبداً، وبمرارة عتيقة… عنده أمل، وإلا ما كان غضب وصرخ واعتنق المرارة.
في شخصية “المناضل” من أجلنا كثيرٌ من العصبية والاستعجال والتعالي على بقية خلق الله. مع انه مناضل من أجلنا. أو هكذا يفترض. لاحظ تعبيرات وجهه؛ التجهم، دائماً التجهم. سعادته بتحققه كمناضل، أي بعرشه الذي لا يتزحزح، هذه السعادة، هي لذة، سرية دائماً، معصية أو نزوة. يعرف مناضلنا هذه اللذة، لا السعادة.
طبعاً انت تدرك ان لا أمل حقيقةً. بل هم إذا توقفوا برهة لإنتبهوا أن لا أمل. إذن لما يصرخون ويقطعون الطرق…؟ أصحاب أمل، ولكن تعساء. مفارقة أخرى: ان يكون أصحاب الأمل تعساء، فيما بعض اليائسين مكتوب لهم السعادة! هل الموضوع يتعلق بنوع الأمل أو نوع اليأس؟
هذا بحث آخر…
dalal.elbizri@gmail.com
بيروت
نوافذ “المستقبل”