ميز الكاتب والمفكر الإصلاحي الإيراني الدكتور عطاء الله مهاجراني، في مقاله «لماذا لم توجه دعوة إلى خاتمي لحضور حفل تنصيب روحاني؟» في صحيفة «الشرق الأوسط»، بين كتلتين ناخبتين في إيران؛ الأولى وهي تمثل الغالبية الساحقة من الشعب الإيراني، والكتلة الثانية هي التي لا يتجاوز عدد الناخبين فيها 250 شخصا، أغلبهم من الطبقة الحاكمة التي تدير الدولة، منذ تنصيب السيد خامنئي مرشدا للجمهورية.
من المعروف أن في طهران قلم اقتراع يحمل رقم 110. ويوضع في حسينية الإمام الخميني، وهو الصندوق الانتخابي الذي يدلي فيه السيد خامنئي وكبار مساعديه وعدد من موظفي مكتبه، إضافة إلى شخصيات رسمية مقربه منه بأصواتهم.
الشيخ حسن روحاني الذي فاز بغالبية تجاوزت 19 مليون صوت في الانتخابات الرئاسية، لم يحصل إلا على 17 صوتا من أصوات صندوق بيت المرشد، فيما حصل منافسه سعيد جليلي على 200 صوت، أي ما يعادل 80 في المائة من أصوات ناخبي الصندوق رقم 110، بينما حصل جليلي على أقل من 4 ملايين صوت في الانتخابات العامة.
تعكس نتائج الصندوق 200 مزاج كتلة سياسية تحكم مؤسسات الدولة والثورة، وتتحكم بالسلطات القضائية والتشريعية والأجهزة العسكرية والأمنية والإعلامية والمؤسسة الدينية الرسمية، ولها الكلمة الفصل في قراراتها، وهي مستعدة للدفاع عن مكتسباتها ومصالحها بشراسة.
هذه الكتلة سبق لها أن عرقلت سياسات خاتمي الخارجية وواجهتها داخليا، وهي التي أنجزت الانقلاب على مير حسين موسوي، وأوصلت نجاد إلى السلطة، قبل أن تقرر تقليم أظافره في السنة الأخيرة من ولايته الثانية، لكنها بعد هذه التجربة وعت جيدا أنه لم يعد بإمكانها تكرار ما حدث في انتخابات 2009، والقيام بعملية تزوير ضخمة تطيح روحاني، خوفا من ردة فعل الشارع الإيراني المتأثر برياح التغيير العربي، إلا أنها عزمت على عرقلة عمله داخليا، بالضغط لفرض شروط على الحكومة غير المدعومة من كتلة برلمانية قوية، كما أنها قررت التحكم في أدائه خارجيا من خلال إلزامه مواقفها الإقليمية والدولية.
يبدو أن الرئيس حسن روحاني سيدخل مبكرا مرحلة مواجهة مع فصائل التيار المحافظ، راديكاليين ومتشددين، الذين يملكون أدوات داخلية لإعاقة حركته، إضافة إلى أنهم يعملون أيضا على الاستقواء بالخارج.
هذا الخارج الذي لم يغب عن الانتخابات الإيرانية وصراعات مراكز صنع القرار، فقد كان حاضرا بقوة في قلم الاقتراع 110، حيث يمكن اعتبار الأمين العام لحزب الله السيد نصر الله ورأس النظام البعثي السوري بشار الأسد، والأحزاب السياسية العراقية الحاكمة التي تدور في فلك طهران، إضافة إلى الحوثيين وبعض من الحراك الجنوبي، وجزء من حماس وفصائل أفغانية، ناخبين يضافون إلى 200 ناخب من الذين لم يمنحوا روحاني أصواتهم، وهم غير معنيين بحساباته الداخلية ويرغبون في تحديد حجم الهامش المسموح له في مناوراته الخارجية.
واجه روحاني عشية تسلمه السلطة رسائل خارجية مستعجلة؛ الأولى جاءت من بيروت على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في خطاب يوم القدس الذي كان المناسبة التي استغلها السيد نصر الله للتأكيد على الثوابت «الإيرانية – الحزب اللهية» بخصوصيتها الشيعية وثوابتها الفلسطينية، ودورها في الصراع مع العدو الإسرائيلي.
فقد رفع السيد نصر الله نبرته من بيروت متحدثا باسم 200 ناخب في طهران، أصيبوا بخيبة الأمل بعدما جاءت رياح الانتخابات عكس ما تشتهي سفنهم، وباتوا مضطرين لتذكير روحاني وفريقه والمجموعة التي تدعمه بثوابت لا يسمح التعامل معها بمرونة، بذريعة الحاجة إلى تخفيف الضغط الدولي على إيران، فكان العنوان المعلن «فلسطين»، فيما المضمون هو عدم القبول بأي مساومة على الواقع اللبناني الجديد المفروض بقوة السلاح، من جهة، ومن جهة ثانية فرض الفراغ في المؤسسات الدستورية، ووضع لبنان ضمن أجندة طهران على طاولة مفاوضاتها مع الغرب، الذي يسبب توترا لبنانيا داخليا يقترب أكثر فأكثر من لحظة الانفجار الشامل، وينعكس تأزما في علاقة إيران بجوارها الإقليمي. حيث يطمح روحاني ومعه رفسنجاني وخاتمي، إلى أن يكون لبنان قاعدة لانطلاق حوار جدي مع المملكة العربية السعودية، المعنية مباشرة باستقرار لبنان.
في دمشق قرر بشار الأسد إحياء ليلة القدر، ليكرر التأكيد للرئيس الإيراني الجديد أن نظامه هو قدر إيران في المنطقة، وأن تعاطي روحاني الفاتر مع الأزمة السورية منذ انتخابه وتأخره في إعلان تماهيه مع الموقف الرسمي الإيراني، المنخرط بالدفاع حتى النهاية عن الأسد، تسبب بالقلق لناخبي الصندوق رقم 110 الذين يعتبرون سوريا معركة يحدد فيها مصير نفوذ طهران الإقليمي، وتأثيرها في السياسات الخارجية. تعتبر حكومة نوري المالكي في بغداد هي نتاج علاقة غير رسمية بين طهران وواشنطن، كما أن أصحاب الشأن العراقي في طهران يرفضون فسح المجال لروحاني للبدء بحوار مباشر وعلني مع واشنطن، يخضع فيه الطرفان لاختبار حسن النوايا، قبل الدخول في الملفات الأكثر خطرا، ويساعد العراق على إعادة الاستقرار وإنجاز مصالحة وطنية، بينما تنخرط الحكومة العراقية أكثر بالأزمة السورية إلى جانب طهران، وتغض الطرف عن الميليشيات الشيعية العراقية التي تحارب إلى جانب النظام.
وفي الحوار الذي يراه روحاني ضروريا مع السعودية من أجل الاستقرار الإقليمي، يطل الناخب الحوثي عبر ملف العلاقة مع الرياض، بما يشكل هذا الملف من قلق لدول الخليج العربي من أن تمتد الصراعات المذهبية إلى نسيجها الوطني، وما يرسيه الموضوع الحوثي من حالة عدم استقرار على الحدود السعودية – اليمينة، إضافة إلى تسلل إيران إلى ملف الحراك الجنوبي، وخطورته على وحدة التراب اليمني.
رغم عدم توافق روحاني وخصومه على الإنفاق المبالغ فيه على التسلح والمشاريع النووية، والدعم السخي لنظام الأسد وحزب الله الذي أرهق الخزينة، فإن الطرفين يؤرقهما الوضع الداخلي والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وتمكن العقوبات الدولية من تعطيل دورة الإنتاج المحلية، وتأثيرها المباشر على الدخل القومي، فقد يقبل المحافظون بإعطاء هامش مناورة محدودة لروحاني، من أجل تنفيس الاحتقان الداخلي، وانتزاع قرار بتخفيف قدر من العقوبات، من دون المساس بالثوابت الداخلية والخارجية التي حددتها مراكز القوى، بينما يرى البعض أن روحاني يراهن على الاستفادة من هذا الهامش، من أجل دفع الولايات المتحدة والغرب إضافة إلى بعض دول الجوار، إلى التعاطي بإيجابية ولو محدودة مع طهران، انطلاقا مما قد يطرحه من تسويات تكون مقبولة لدى الأطراف المعنية.
mhfahs@gmail.com
الشرق الأوسط