ما تعرّضت له الضاحية الجنوبية لبيروت قبل أيّام مثير للقرف والحزن ويشكل دليلا على مدى تدهور الوضع اللبناني، خصوصا مع خروج الغرائز المذهبية من عقالها بأبشع شكل. صارت هناك خطر على بيروت من أن تتحوّل الى مدينة شبيهة ببغداد حيث الانقسامات المذهبية الحادة التي غيّرت شكل المدينة وتركيبتها الاجتماعية وطلبيعة الحياة فيها.
هناك في الضاحية البيروتية ابرياء تعرّضوا لتفجيرين كبيرين داخل أحدى المناطق الواقعة تحت سيطرة “حزب الله”، اي ما يسمّى بـ”مربّع امني” من مربّعات الحزب المنتشرة في الاراضي اللبنانية، وهي مربّعات يسعى يوميا الى توسيعها على حساب اللبنانيين والعيش المشترك وحساب مؤسسات الدولة اللبنانية.
كانت النتيجة سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف مواطنين لبنانيين وغير لبنانيين ذنبهم الوحيد انّهم كانوا في المكان الخطأ لحظة وقوع عمل ارهابي مدان بكلّ المقاييس.
المؤسف والمثير للاشمئزاز أن هناك من احتفل بالجريمة وأطلق عيارات نار في الهواء ابتهاجا بوقوع تفجير في الضاحية التي معظم سكّانها من ابناء الطائفة الشيعية الكريمة. حصل ذلك من منطلق مذهبي يدعو الى التقيؤ، وهو يذكّر بتوزيع حلوى في الضاحية الجنوبية لدى استشهاد الزميل جبران تويني أواخر العام 2005 او اللواء وسام الحسن العام الماضي.
عندما لا يعود مكان آخر لغير الغرائز، يفترض في المواطن الذي يمتلك حدّا ادنى من المنطق والوعي التفكير في الاسباب التي جعلت ممكنا أن يكون هناك من يفرح بالقتل والارهاب والجريمة والدمّ بدل التفكير في كيفية كسر حلقة مغلقة هي حلقة العنف والارهاب.
الاكيد أن رد فعل “حزب الله” على الجريمة الاخيرة التي استهدفت الضاحية وأهلها لم تكن في المستوى المطلوب. لم يكن ردّ الفعل في مستوى طمأنة اللبنانيين الى أنّه استوعب تعقيدات الوضع اللبناني وأن من الافضل العمل على تقوية الدولة اللبنانية بمؤسساتها، أو ما بقي منها وايجاد ارضية مشتركة مع كلّ المعتدلين من كلّ الطوائف. على رأس هؤلاء الرئيس تمّام سلام المكلّف تشكيل الحكومة منذ بضعة أشهر. هل هناك شخصية لبنانية معتدلة وقبولة داخليا واقليميا أكثر من تمّام سلام ابن البيت السياسي العريق الذي ترشّح منه الرئيس الماروني سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية في العام 1970؟ انّه البيت الذي لم يفرّق يوما بين شيعي وسنّي ومسيحي ودرزي والذي هُجّر صاحبه الرئيس صائب سلام، رحمه الله، لرفضه أن يكون تابعا لاحد باستثناء لبنان…ولرفضه السلاح أو أن يكون تحت رحمة “الزعران”، كما كان يسمّيهم.
من يريد بالفعل التعاون مع اللبنانيين الآخرين من أجل التصدي بشكل عملي للارهاب يعمل قبل قبل كلّ شيء على فتح خطوط اتصال عريضة تصبّ في التعاون مع كلّ زعيم لبناني ينادي بالاعتدال والعيش المشترك ويتطلع الى حماية مؤسسات الدولة اللبنانية وتحصينها.
من يريد التصدي للارهاب والارهابيين لا يُسقط، مستخدما السلاح والتهديد، حكومة الوحدة الوطنية التي كانت برئاسة سعد الحريري ويفرض على اللبنانيين حكومة تابعة له برئاسة نجيب ميقاتي. حكومة صنعت فقط لاذلال أهل السنّة والمسيحيين…والدروز الى حدّ ما.
ما فات الامين العام لّـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله في خطابه الاخير الذي ألقاه في السادس عشر من آب- اغسطس الجاري، أي بعد اربع وعشرين ساعة على جريمة الضاحية، الحديث عن الاعتدال وكيفية التعاطي مع المعتدلين بدءا بتشكيل حكومة تضمّ شخصيات محترمة وغير محسوبة، أو محسوبة، على اتجاه معيّن.
نعم، هناك شخصيات لبنانية من كلّ الطوائف لا غبار عليها لانّها تؤمن فعلا بلبنان وترفض في الوقت نفسه أي نوع من أنواع التعصّب المذهبي. هل مشكلة الامين العام لـ”حزب الله” أن ليس في استطاعة حزبه، بكل ما يمثله التعاطي مع مثل هذا النوع من الشخصيات ولا يقبل مسيحيين في الحكومة الاّ اذا كانوا من طينة ضعاف النفوس وذوي الافق السياسي المغلق، أي من التابعين له مثل النائب المسيحي ميشال عون ومن على شاكلته؟
من يشكو من الغرائز المذهبية ومن الارهاب الذي يتعرّض له اللبنانيون لا يكتفي بالشكوى من “التكفيريين” السنّة من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين. هؤلاء التكفيريون معروفون جيّدا وقد استخدمهم النظام السوري في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن ضدّ الدولة اللبنانية في المرحلة التي كان يبحث فيها عن غطاء لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
من يتذكّر “ابو عدس”؟ من يتذكّر “فتح الاسلام” وشاكر العبسي الذي اخرجه النظام السوري من أحد سجونه والقاه في مخيّم نهر البارد؟ من يتذكّر كلام السيّد حسن عن أن نهر البارد “خط أحمر”، وهو كلام جاء بعد قتل “التكفيريين” الموالين للنظام السوري جنودا وضبّاطا من الجيش اللبناني.
يمكن للشكوى من التكفيريين أن تكون ذات فائدة ما في حال التوجه الى الاعتدال وليس الى مزيد من التصعيد عبر التمسك بشعار “الشعب والجيش والمقاومة” الذي جلب الكوارث والويلات على اللبنانيين. الاكيد ان التورط عسكريا في سوريا حيث حرب يشنّها نظام طائفي على شعبه لن تساهم في كبت الغرائز المذهبية، لا في لبنان ولا في سوريا ولا في المنطقة.
فالتحدي المطروح حاليا يتمثّل في اعتماد الاعتدال ولا شيء آخر غير الاعتدال للتصدي للارهاب بكلّ انواعه…هذا اذا كان مطلوبا بالفعل التصدي للارهاب والارهابيين بدل التذرع بهم وبالجرائم التي يرتكبونها من أجل الحاق مزيد من الدمار بلبنان واللبنانيين ومؤسسات الدولة. هل الاعتدال السنّي والمسيحي وحتى الشيعي العدو الاوّل لـ”حزب الله”. هل هذا ما يفسّر الى حدّ كبير الحلف المقدّس القائم بين المذهبيين المنتمي الى كلّ الطوائف والمذاهب؟