هؤلاء الأشخاص لا يشبهوننا. هذه الفكرة عنيفة، قوية، وصادمة، وغير لائقة إلى حد بعيد. ومع ذلك صعب تفاديها، أو عدم الكتابة عنها. ما المقصود بكل هذا الكلام؟
المقصود أن الناس الذين نراهم في “رابعة” هم في الغالب من مناطق ريفية، ومريّفة. وما المانع في ذلك، أليسوا مواطنين، ولهم الحقوق نفسها كبقية المواطنين بصرف النظر عن أصولهم الطبقية، أو تحيّزاتهم السياسية؟
هم مواطنون، بالتأكيد، ولهم الحقوق نفسها، ولكن ينبغي الانتباه إلى خطورة استيهاماتهم السياسية على مصر الدولة والوطن. وينبغي، بالقدر نفسه، عدم تجاهل الفرق بينهم وبين متظاهري “التحرير”، الذين صنعوا ثورتين، وأسقطوا مبارك، ومرسي. في “التحرير” ملامح مدينية أكثر صراحة، وحساسية أوضح إزاء المساواة بين الجنسين. في “التحرير” نسبة تمثيل مرتفعة للطبقة الوسطى المصرية، وهناك الغالبية العظمى من العاملين في الحقل الثقافي والفني والسياسي في مصر، و”رابعة” تخلو من هؤلاء.
شعارات “التحرير” تختلف عن شعارات “رابعة”. ففي حين تكلّم المتظاهرون في “التحرير” عن الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، وعن إسقاط النظام بطرق سلمية، يتكلّم معتصمو “رابعة” عن “الشرعية والشريعة” (السجع وحده لا يفسّر اجتماع المفردتين)، ويصفون خصومهم بالعلمانيين (ولا توجد، في الواقع، اتجاهات علمانية قوية في مصر).
في زمن إسقاط مبارك، وبقدر أقل في زمن إسقاط مرسي تجلت الفكاهة المصرية التقليدية، وخفة الدم، والروح المتسامحة، وهذه كلها تبدو غريبة في أجواء “رابعة”، حيث الخطابات التكفيرية النارية، والجدية المُفرطة، والدعوات الجهادية، والأكفان.
وحتى بعد الإطاحة بمبارك، لم يمارس المصريون تصفيات على طريقة الثورة الإيرانية. وبعد الإطاحة بمرسي، تسابق كل المشاركين في إسقاطه في مطالبة الإخوان بالانضمام إلى العملية السياسية، استناداً إلى خارطة المستقبل.
يمكن الاستطراد في سرد الكثير من أوجه التباين بين “شعبي” التحرير ورابعة. وهذا متروك لخيال القارئ، وما لديه من دقة الملاحظة أمام شاشة التلفزيون. المهم أن الرد على مجرد التفكير في وجود أوجه للتباين سيشمل، ضمن أمور أخرى، اتهامات البرج العاجي، والنخبوية، وكراهية الديمقراطية عندما يفوز غيرنا، والدفاع عنها عندما نفوز نحن. الخ.
وهذا كله يدخل في باب الكلام الفارغ. كما ويدخل معه، في الباب نفسه، كلام يبدو أكثر “موضوعية” تكلّم أصحابه عن ليبرالية النخب، التي سقطت في أوّل امتحانات الديمقراطية في مصر. وفي هذا قدر كبير من إساءة فهم المشهد السياسي المصري.
الصحيح أننا إزاء معضلة سياسية، وأخلاقية، واجتماعية. وهذه المعضلة تتمثل في حقيقة أن جزءاً من المواطنين يريد اختطاف الدولة، بالعنف، إذا لزم الأمر. كما وتتمثل في حقيقة أن جزءاً منهم، لا يقبل، بالضرورة، ولا يوافق على، الخيارات السياسية، والاجتماعية للآخرين. وقد تفاقمت هذه المعضلة نتيجة عقود طويلة من إغلاق الحقل السياسي، وانعدام وسائل وأدوات ولغة التفاوض السياسي والاجتماعي بين طبقات وشرائج اجتماعية مختلفة.
ولا يحق لأحد ادعاء البراءة. سيحتاج الأمر إلى عقود إضافية قبل بلورة وسائل وأدوات ولغة التفاوض السياسي. وهذا أحد المعاني المحتملة للتحوّل الديمقراطي . للتدليل على ما يكتنف وسائل، وأدوات، ولغة، التفاوض السياسي، لا نحتاج إلى أكثر من تأمل المشهد المصري:
من قال إن الإخوان هم صنّاع وورثة ثورة الخامس العشرين من يونيو (لا يحتاج الإنسان إلى أكثر من قراءة الجرائد أيام الثورة)، وما علاقة الشرعية بالشريعة، ولماذا يقول الغنوشي في تونس أن ما يجري في مصر معركة من معارك الإسلام، ولماذا يستخدم خطباء “رابعة” مفردة “الجهاد”، ويربط أحدهم بين الإرهاب في سيناء وعودة مرسي إلى الحكم؟
هذه اللغة، في المعنى والمبنى، غير ديمقراطية. وإذا كان من الممكن إطلاق أوصاف كثيرة على الإخوان، فمن الصعب أن تكون الديمقراطية من بينها. لم يكونوا في يوم من الأيام، بالمعنى السياسي، والأيديولوجي، والاجتماعي، قوّة ديمقراطية.
والمفارقة: أن السلوك الانتحاري للإخوان (اعتصام “رابعة”، وكلام “الشرعية والشريعة”، والإرهاب في سيناء، والتهديد بمجابهة دامية مع الدولة المصرية) يُسهم في تعميق معنى التفاوض السياسي، بقدر ما يقصي عنه كل ما يندرج في باب التهديد بالعنف، والإرهاب، وتوظيف مفردات دينية في ابتزاز الخصوم السياسيين. وهذا، بدوره، سيسهم في تعزيز العلمنة.
أخيراً، وعلى سبيل الخلاصة: ليس ثمة ما يبرر الخجل، أو الخوف، من الكلام عن “شعبين”. كان أقصى طموحات الدولة القومية، في الشرق والغرب، على حد سواء، دمج وتوحيد مواطنيها. وقد تحقق ذلك بدرجات متفاوتة من النجاح، وتحققت معه قناعة بأن “قومية” القرن التاسع عشر، ودولة ما بعد الكولونيالية في العالم الثالث، التي استلهمت نموذجها، نجحت بوسائل قسرية عملية التوحيد والدمج. وفي الأزمات، كما يحدث في مناطق عربية مختلفة، تتجلى حقيقة أن القسر لم ينجح بالقدر الكافي في تصفية انقسامات اجتماعية، وثقافية، وتحيّزات كثيرة. وهذا ما يمكن التحقق منه في سورية والعراق وليبيا واليمن ولبنان والسودان.
على أية حال، مصر مختلفة. وعملية الدمج والتوحيد تاريخية. ولكن الصراع على هوية الدولة الحديثة فيها لم يحسم بعد. ثمة عناصر عروبية، وقبطية، وفرعونية، وإسلامية، ومتوسطية، في الهوية المصرية. وآخر محاولة فاشلة لتغليب عنصر على آخر يقوم بها الإخوان في الوقت الحاضر. بيد أن الفشل، وما يرافقه من مخاطر، يحرّض على صيغة تمكّن هذه العناصر من التعايش، والازدهار. وهذا بعض وعود العلمانية.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني