مع قرب إنسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان والمقرر له نهاية عام 2014، ومع تردد أخبار عن إحتمال تسريع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لعملية الإنسحاب بسبب توتر العلاقة بينه وبين نظيره الأفغاني حميد كرازاي، بل وأيضا احتمال أن ينكث أوباما بوعده حول إبقاء قوة صغيرة تضم نحو 8 آلاف جندي أمريكي في أفغانستان بعد 2014 في مقابل الـ 68 ألفا الموجودين هناك حاليا، تسود حالة من القلق العميق بلاد الأفغان وما يجاورها.
فواشنطون التي تدخلت بجيوشها في هذا البلد المأزوم أصلا في عام 2001 لإسقاط نظام طالبان الجائر، ومن قبل ذلك تدخلت فيه عبر تسليح وتمويل حركات الجهاد الأفغاني لإقلال مضاجع جيوش الإحتلال السوفيتي، ففرقت وأججت الإنقسامات القبلية والجهوية والعرقية، ذاهبة كما يبدو إلى ترك أفغانستان لمصير مجهول أسود، تماما مثلما فعلت في العراق، بدلا من أن تتحمل مسئولياتها الأخلاقية في ترتيب البيت الأفغاني على نحو تتعزز معه معالم الدولة المدنية الديمقراطية القادرة على البقاء والصمود أمام المتطرفين والجهاديين والاقصائيين من أصحاب فكرة الدولة الدينية المستبدة.
وإسلام آباد التي لها تاريخ طويل ، عبر أذرعتها العسكرية والمخابراتية، في تفتيت بنية الدولة الأفغانية الهشة، وتأجيج الصرعات بين مكونات شعبها، والتدخل بالحق والباطل في شئونها جهارا نهارا بحجة أن أفغانستان تمثل لها إمتدادا طبيعيا وعمقا إستراتيجيا ومجالا حيويا لجهة الصراع التاريخي الهندي – الباكستاني، ما زالت تواصل تدخلاتها في هذا البلد، بل ويعتري زعمائها نشوة الإنتصار الزائف بقرب إنسحاب الأمريكيين منه.
اما الأفغان المغلوب على أمرهم والذين كانوا منذ نهاية الثمانينات وقودا للحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي فليس لهم سوى الخوف من المجهول الذي ينتظرهم، خصوصا في ظل حكومتهم المنتخبة الضعيفة، وما تحيكه إدارة أوباما المتخبطة من صفقات من خلف ظهورهم مع بقايا حركة طالبان المقبورة التي إنتشت آمالها بالعودة إلى السلطة في كابول مع فتح مكتب سياسي لها في الدوحة وموافقة الأمريكيين على الجلوس معها على طاولة واحدة، وهو ما إعتبره الطالبانيون دليلا على نفوذهم وعدم إمكانية تحقيق سلام دائم في أفغانستان من دونهم.
وليس ادل على مخاوف الافغان مما صرح به مؤخرا قائد الجيش الافغاني الجنرال “شير محمد كريمي” في تصريح له لهيئة الاذاعة البريطانية من أن السلام يمكن تحقيقه في أفغانستان خلال أسابيع فقط لو أوقفت واشنطون سياساتها المترددة حيال بلاده، وأوقفت إسلام آباد دس أنفها في الشأن الأفغاني من خلال قطع دعمها للجماعات المتطرفة الحليفة لحركة طالبان والمنطلقة من المناطق الحدودية الشمالية والشمالية الغربية لباكستان، ووقف إنتقاداتها المتكررة لما تقوم به حليفتها الامريكية من غارات على معاقل طالبان باكستان.
والحقيقة أنه إضافة إلى باكستان والولايات المتحدة هناك دولتان أخريان معنيتان بالوضع الأفغاني، وتحاولان أن تكون لهما كلمة في مستقبل هذه البلاد كونهما ستتضرران أمنيا من عودة فلول طالبان إلى السلطة في كابول، ناهيك عن خسارتهما لما قامتا به من إستثمارات معتبرة في أفغانستان منذ عام 2001 .
فهناك الهند التي إستثمرت كثيرا في أفغانستان بـُعيد سقوط نظام طالبان الذي سبب لها كابوسا مزعجا، كنتيجة لما قدمه من دعم مادي ولوجستي للتنظيمات الجهادية العاملة في ولاية كشمير المتنازع عليها ما بين الهند وباكستان منذ عام 1947. حيث رأت نيودلهي أن دعم نظام الرئيس حميد كارزاي بالأموال والاستثمارات والمشاريع المشتركة وتنفيذ مشروعات البنية التحتية هو صمام الأمان ضد عودة المتشددين الطالبانيين وأتباعهم إلى الحكم، والوسيلة المثلى لتعزيز نظام مدني قوي مستقر يجمع عليه الأفغان، خصوصا وأن وجود مثل هكذا نظام يسهل للهند استخدام الاراضي الأفغانية كمعبر آمن باتجاه دول آسيا الوسطى الغنية بالموارد الطبيعية. وهكذا تعهدت الهند في عام 2006 بإنفاق بليوني دولار على بناء وتطوير شبكات الطرق والنقل والخدمات الصحية الافغانية. ثم أتبعت ذلك بإستثمار أكثر من عشرة بلايين دولار في إقامة مشاريع الطاقة والمياه وإستغلال المناجم. وبطبيعة الحال فقد رأى الباكستانيون في هذه التطورات تهديدا لمصالحهم في أفغانستان، الأمر الذي دفعهم للتصدي لها عبر تصدير المزيد من العنف إلى جارتهم الأفغانية.
وهناك الصين التي تشترك في حدود قصيرة مع افغانستان في الغرب متاخمة لإقليمها المضطرب المعروف بـ “تركستان الشرقية” حيث يسعى سكانهان وجلهم من مسلمي الإيغور، الإنفصال في وطن مستقل. والمعروف أن بكين رحبت في البداية بوصول طالبان إلى السلطة في عام 1996 بعدما أقنعها حلفاؤها الباكستانيون بفوائد ذلك لجهة الصراع الصيني – الهندي، بل قامت إسلام آباد بترتيب لقاء نادر ما بين السفير الصيني في باكستان وزعيم طالبان “الملا محمد عمر” الذي كان يمانع في الالتقاء بمسئولين أجانب بإعتبارهم كفارا لا يجوز الجلوس معهم. لكن بكين سرعان ما إكتشفت أنها ساهمت أو سهلت عملية زرع نظام إرهابي متطرف على حدودها الغربية مع افغانستان، لا يكف عن تقديم الدعم والايواء والتدريب والسلاح للإنفصاليين الإيغور.
وعليه فإنه من الطبيعي أن نجد بكين اليوم حائرة ما بين مخططات حليفتها الباكستانية الداعمة لبقايا طالبان، وسعي منافستها الهندية للحيولة دون سقوط نظام حميد كرازاي.
غير ان الصينيين المعروفين بالبرغماتية، وقراءة المشهد السياسي قراءة متأنية قبل إتخاذ أي قرار، وسعيهم الدائم لتغليب مصالحهم الخاصة على أي إعتبارات أخرى قد يجدون أن الأمر الأصوب فيما يتعلق بالمأزق الأفغاني هو إلتزام سياسة ذات بعدين: أوله الضغط على الباكستانيين، من خلال ما يملكونه من دالة عليهم ونفوذ متشعب في بلادهم، للجمهم ومنع إقدامهم على حماقات تؤزم الموقف في افغانستان بعد إنسحاب القوات الامريكية منها، وثانيه التعاون مع الهند للحفاظ على قدر من الأمن والإستقرار في تلك البلاد وبما يحفظ مصالحهما وإستثماراتهما فيها معا، خصوصا وأن الصين، كما الهند، التزمت بإنفاق 3 بلايين دولار على تطوير مناجم النحاس الاحمر الافغانية في إقليم لوغار إلى الجنوب من كابول، وأنفقت بالفعل حتى الآن ما يساوي 800 مليون دولار على هذا المشروع الحيوي.
ويرى المراقبون أن الموقف الصيني حول مستقبل أفغانستان صار أقرب إلى الموقف الهندي بعد سلسلة من الأعمال الارهابية التي وقعت في يونيو المنصرم على يد متشددين طالبانيين داخل الجزء الباكستاني من كشمير وراح ضحيتها عدد من السياح الصينيين.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh