كان المشهد في “يوم القدس”اقرب الى ختام لعبة الدمى الروسية: كلما أزيلت واحدة تبين انها تخفي أخرى. الفارق ان لعبة الأمين العام إستراتيجية، غلفها دحر الاحتلال الاسرائيلي، كعنوان وطني جامع، توارت خلفه عصبية دينية، لم تلبث أن تبدت أضيق، وباتت مذهبية، تغاضى عنها اللبنانيون، وحجَبها نظام الوصاية، وعززها ميدانيا بالسلاح، ومعنويا باحتكار الحزب مقاومة الإحتلال والتفاوض مع اسرائيل على الأسرى والقتلى.
ربما يفضح غضب الأمين العام وحنقه، ووجهه المحتقن الزاجر، مبرر انتقال الحزب الى مربع الحماية الاخير، بزعمه النطق باسم “شيعة علي بن ابي طالب في العالم”: هو المأزق الايراني الذي انكشف، ويطلق الصليات الأخيرة في تنطحه لدور القطب الإقليمي، إذ لم تؤهله “فعالية” ذراعه اللبناني، ولا تدخل حرسه الثوري في الحرب السورية، ولا سعيه لامتلاك القدرة النووية، في الاقرار به شريكا في حل للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي.
يعرف الأمين العام أن ما قاله يعطي صدقية، ولو متأخرة، لما وصفه الملك عبد الله الأردني بمشروع الهلال الشيعي، وهو ما أكده نظيره في الحزب الأم الإيراني محمد باقر خرازي ، في أيار الماضي، بإعلانه طموح قيادته لإستعادة الامبراطورية الفارسية من أفغانستان إلى جنوب لبنان.
ذلك لا ينفي الرسالة الداخلية للانكشاف المذهبي للحزب: فرض حمل السلاح صنعة للطائفة في لبنان الدولة، وحمله إلى طاولة الحوار كمواز لأدوار مفترضة للطوائف الأخرى، كالمدى الإقليمي والتجارة للسنة، والمصارف والسياحة للمسيحيين، وغيرها للآخرين.
لكن، ومرة أخرى، يقرر طرف أن يتخذ من الطائفة نفسها اداة لدور لم تستشر فيه، في مواجهة اللبنانيين والعرب معا، ليسبغ عليها هوية “انعزالية” بحجة “أممية” شبه أبدية هي تحرير القدس، وليضعها في مواجهة “عالمية” هي محاربة الأغلبية الاسلامية في العالم، بوصفها “تكفيرية”.
لم يكن أنسب من تحرير القدس غلالة لتمويه مذهبية “الحزب الحاكم”، وحليفه ووليه الإقليمي.قد يكون الأمين العام فاجأ كثيرين بمذهبيته الفجة، لكن قلة كانت تتوقعه منذ تأسيس الحزب وتكريس “مهمته” بـ “التفاهم الاستراتيجي” بين نظامي الأسد والملالي.
في نيسان 1985، شنت “حركة أمل”، بطلب من نظام الوصاية، هجوما داميا ضد “حركة الناصريين المستقلين-المرابطون”، واستعانت بـ”الحزب التقدمي الاشتراكي” لهزمها. كانت الحجة، أنهاء “العرفاتيين” اي مؤيدي الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي أجلته اسرائيل ومقاتليه، ثم طارده النظام الأسدي.
هل قدر هذه الطائفة المؤسسة أن تقاتل مرة “العرفاتيين” لمصلحة النظام الأسدي، ومرة “التكفيريين” خدمة للامبراطورية الفارسية الموعودة؟ وهل يفيد تضخيم الدور في تغطية “الدونكيشوتية” الانتحارية، وهل سينفع، بعد اليوم، اتهام الآخرين بإذكاء المذهبية، وتغليب “اللبوس الطائفي” على كل صراع سياسي، وفق الخطاب الأخير؟
لم يفاجئنا الأمين العام بمأزقه. فاجأنا بسفور مذهبية خطابه.
صرنا نعرفه أكثر.
rached.fayed@annahar.com.lb