حينما حدثت المشادة الكلامية ثم اليدوية بين المجتمعين أمام حسينية عاشور في الكويت في تأبين رجل الدين الشيعي المصري حسن شحاتة الذي قُتل وسُحل قبل عدة أسابيع، عادت الأيام إلى الوراء لتعيد إلى الذاكرة الأجواء غير الصحية وغير الطبيعية التي هيمنت على تأبين المسؤول العسكري في حزب الله عماد مغنية في الكويت، وما رافق تلك الأجواء من دعوات احتجاجية حقّة على تنظيم التأبين في ظل مطالب إقصائية عنصرية وطائفية. من الجميل أن يتمتع الإنسان بحس النقد والتظاهر السلمي للتعبير عن حالة احتجاجية، لكن من القبح أن يتحول الاحتجاج إلى دعوات إقصائية يتخللها بعض العنف، والذي إن زاد فسيحوّل الاحتجاج إلى واقع مليء بالدم ومحذّر من مستقبل مظلم وخطير. لنجعل الاحتجاج السلمي ثقافة مجتمعية، ولنبرأ من الاحتجاج المؤدي إلى التغيير باليد. فمن حق مختلف الأطراف في المجتمع إقامة الاحتفالات “للشياطين” إن صح التعبير، ومن حق أطراف أخرى الاحتجاج عليها، لكن لا يحق للجميع الدفاع عن مواقفهم وعن قبولهم ورفضهم للاحتفالات بغير الوسائل السلمية.
وفي حين يغلب الطابع الديني المحافظ على المجتمع الكويتي، ما يجعله حساسا تجاه التاريخ الديني وتجاه رموزه الدينية، فيما تتقاسم هذه الحساسية أغلبية سنية وأقلية شيعية، يبدو التداخل بين الشأن الديني والشأن السياسي عاملا مساهما في زيادة هذه الحساسية، خاصة حينما يكون الدفاع عن العقيدة مختلطا بهذين الشأنين ومعبرا عن نفسه ببعض شروط التديّن، كالولاء والبراء، الأمر الذي يضع العديد من المناسبات الاحتفالية الدينية أمام اختبار قبول الرأي والرأي الآخر ونبذ الاحتجاج عن طريق اللجوء للاقصاء أو العنف، أو بعبارة أخرى يضع المجتمع أمام اختبار التعايش.
فالحساسية تجاه العقيدة وتجاه تاريخها ورموزها واقع نعيشه يوميا في ظل اختلاف مذهبي وانقسام اجتماعي، ولابد من التفكير بآليات تساهم في تنظيم الاختلاف والتقليل من الانقسام، وإلا فإن دعوات الإقصاء واللجوء إلى العنف ستهدّد الأمن والسلم والتعايش الاجتماعي، وسيتلطّخ كل ذلك إذا تجاهلنا تكريس إحدى تلك الآليات والمتمثّلة بالاحتجاج السلمي.
البعض، أمام ظروف الاحتفالات الدينية التأبينية، يمارس المنع من خلال طرح مفردة “الفتنة” والتحذير منها، فيدق ناقوس خطر انتشارها في المجتمع. لكنه في واقع الأمر يعصف بالاحتفالات الدينية وبالآراء الدينية وبحرية التعبير الديني، ويساهم في مزيد من التقييد على التعبير بمبرر “الفتنة”. فيما كان عليه أن يطرح آلية تعايشية تعالج مخاوف “الفتنة”، بدلا من اللجوء إلى القمع والإسكات، واللذين لن يكونا إلا وسيلة لتأجيل المشكلة ثم ظهورها بصورة أشمل وأخطر.
ضرورة التعايش الاجتماعي لا تتعلق فحسب بالاختلاف الديني بين السنة والشيعة، لكي نُسكت الحرية الدينية بمبرر “الفتنة”، بل لابد للتعايش أن يشمل جميع الاختلافات في المجتمع، من دينية وفكرية واجتماعية وسياسية. هناك العديد من المسائل، غير تلك السنية – الشيعية، نستطيع أن نضعها تحت عنوان “الفتنة” ونقمعها بنفس المبرر، فيما نستطيع أن نجعلها واقعا مقبولا إذا اعتبرناها جزءا من ضرورات التنوّع في المجتمع. فهل يمكن نكران التنوّعات، والتركيز فقط على الاختلاف الديني المذهبي؟ هل، على سبيل المثال، نستطيع أن نسمح للمتديّن بنقد وسخرية فكر وأسلوب العلماني والملحد، ونمنع العلماني والملحد من ذلك تحت مبرر “الفتنة”؟ هل نمنع المرأة من نقد ورفض النصوص الدينية التاريخية التي تقلل من شأن إنسانيتها بمبرر “الفتنة”؟
ترسيخ مبدأ احترام حقوق الإنسان في المجتمع والعيش في إطاره، لا يمكن أن يتحقق بينما يطرح البعض المبررات السياسسية والاجتماعية المانعة لذلك، كمبرر “الفتنة”. وإذا انفصل القانون الذي ينظم حركة حرية التعبير عن مبدأ احترام حقوق الإنسان، فسينفتح كم هائل من الأبواب المبرّرة التي من شأنها أن تعرقل تلك الحركة وترضخها لشروط المصلحة. فالمصلحة غير المبالية لمبدأ احترام حقوق الإنسان تحتم إسكات هذا وقمع ذاك، أو بعبارة أخرى ستكون سببا للتهميش. في حين عندما نجعل المبدأ بوصلة لطريق المصلحة فنساهم في التقليل من عملية الإسكات والقمع.
fakher_alsultan@hotmail.com
كاتب كويتي