من الصعب قراءة كتاب عن ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، بدقة كتاب نبيل عمرو الاعلامي والديبلوماسي الذي كان الى جانب الزعيم الراحل طوال سنوات.
عنوان الكتاب هو ” ياسر عرفات وجنون الجغرافيا”. كان يمكن أن يكون العنوان “ياسر عرفات ضحية الجغرافيا” نظرا الى تعلق الرجل بالسيطرة على قطعة ارض خارج فلسطين، ولكن على تماس معها، مهما كان ذلك مكلفا. مهما كان ذلك مكلفا على كلّ صعيد، بما في ذلك على ياسر عرفات نفسه. اراد “ابو عمّار” في مرحلة معيّنة اقامة مطار خاص به في منطقة جبلية في لبنان (تربل) أو قاعدة بحرية في جزيرة الارانب قبالة مدينة طرابلس، على الرغم من أن النظام السوري كان يتربّص به وأن لبنان ليس فلسطين!
حاول حتى اقامة قاعدة في جزيرة كمران اليمنية…لم يكن هناك حدود لولع ياسر عرفات بالجغرافيا التي كان يعتقد أنها تؤمن له حرية ما. لم تتوفّر له هذه الحرية في فلسطين بعد عودته اليها، رغم توفّر رقعة الارض. قد يفسّر ذلك، الى حدّ كبير، تصرّفات الرجل في السنوات الاخيرة من حياته.
هناك جملة تضمّنها الكتاب تختصر الى حدّ كبير شخصية ياسر عرفات الذي “الذي كانت القيادة والسيطرة بالجملة والتفصيل، هي الفكرة الثابتة في عقله وروحه وسلوكه. فهو قائد الفريق واللاعب والمدرّب والحكم ومقرر النتيجة. كلّ من معه وحوله كانوا بالنسبة اليه مجرّد جمهور يلزم للمساعدة أو التشجيع أو حتى المباهاة به أمام الآخرين”. هذه الجملة التي وردت في الصفحة 214 من الكتاب هي الآتية:” حاول عرفات الاستفادة من احداث كبرى من دون الانتباه الى أنّ اللاعبين جميعا أكبر منه بكثير”.
عرض نبيل عمرو تفاصيل خاصة جدا مرتبطة بالمحطات الاساسية لمسيرة ياسر عرفات، بما في ذلك عدم اتخاذه الموقف الصائب لدى غزو صدّام حسين لدولة عربية مستقلة وقفت دائما مع فلسطين، هي الكويت. تحدّث عن مأساة الاردن التي توّجت بما سمّي “ايلول الاسود”. لم تغب الموضوعية عن السرد الذي يكشف كم كان ياسر عرفات مدركا لخطورة “تنامي القوّة العسكرية الفلسطينية على ارض الاردن”.
ما لم يقله نبيل عمرو أن عرفات لم يستطع أن يفعل شيئا لمنع الصدام في الاردن، خصوصا بعد تفجير “الجبهة الشعبية” ثلاث طائرات ركاب في “مطار الثورة” قرب المفرق.
في لبنان، الذي أقام فيه نبيل عمرو، أيام ياسرعرفات و”جمهورية الفاكهاني”، ورد في الكتاب مقطع يختصر الكثير. جاء في المقطع:” لم يعد أحد في وارد تصديق الشعار التبسيطي للوجود الفلسطيني في لبنان، الممرّ وليس المستقرّ. فها هو الممرّ يتسّع، بل يتّخذ شكلا اخطبوطيا تمتد أذرعته لتصل الى أي مكان في لبنان. تسلّق مقاتلو عرفات قمم الجبال، كانوا كما لو أنهم يؤدون واجبا وفق أجندة لم يضعوها، بل لا لزوم لها. انّ الذي صعد بمقاتلي عرفات الى عينطورة وعيون السيمان هو ذلك الوهم الساذج الذي بمقتضاه، صدّق اليسار الفلسطيني، الفتحاوي وغير الفتحاوي أوهامه في شأن الصراع على النفوذ بين الكبار…”
كتاب نبيل عمرو الذي سيليه كتاب آخر عن مرحلة اوسلو وما بعد اوسلو وتشكيل حكومة فلسطينية برئاسة السيد محمود عبّاس (أبو مازن) مليء بالتفاصيل المثيرة. يمكن أن يكون أفضل ما كتب عن الشخصية المركبة لياسر عرفات الذي كان يقدّم نفسه بشكل مبسّط، في حين أن كل حركة من حركاته كانت مدروسة…بما في ذلك قبلاته التي كان يوزعها اينما حلّ بين الفلسطينيين كي تكون صورته في منازلهم.
لم يغفل نبيل عمرو أي تفصيل. كانت لديه عين ثاقبة ميّزته عن كثيرين رافقوا عرفات في مسيرته الطويلة التي انتهت برحلة علاجية الى باريس ثم بوفاته في ظروف يعتبر كثيرون انها غامضة.
لعلّ أفضل ما في الكتاب، اضافة الى دقته طبعا، جرأة نبيل عمرو الذي لم يخف أن “أبو عمّار” كان يتصرف احيانا بطريقة غريبة، خصوصا في لبنان، حيث تجاهل احيانا تركيبة البلد والحساسيات، كما رفض الاعتراف في مرات كثيرة بأن حافظ الاسد لا يمكن أن يسمح له بأن يكون صاحب اليد العليا هناك وممارسة خياراته السياسية من منطلق التمسك بالقرار الفلسطيني المستقلّ. فبالنسبة الى البعث السوري أو البعث العراقي لا وجود للقرار الفلسطيني المستقل. حافظ الاسد “كان يطلب ما هو أكثر من استحالة. كان يطلب تطويع عرفات وتقليص حجمه ليصير في حجم قائد فصيل فلسطيني لا يملك الاّ أن يدور في الفلك السوري”.
تضمن الكتاب عرضا تفصيليا للعلاقات بين عرفات والاسد الاب وصدّام حسين الذي انتقل من عدو الى حليف. كذلك تطرّق الى الآمال التي بناها عرفات على ايران ما بعد الثورة الخمينية، وهي آمال تلاشت شيئا فشيئا. وكان نبيل عمرو أكثر من منصف للملك حسين، رحمه الله، الذي أنقذ حياة ياسر عرفات حين أخذه عنوة في سيارته الى المستشفى لاجراء فحوص طبية اثر حادث سقوط الطائرة الذي تعرّض له في الصحراء الليبية.
حاول الكاتب قدر المستطاع تقويم العلاقة بين عرفات وصلاح خلف (أبو ايّاد) وخليل الوزير (أبو جهاد). بدا واضحا انه عرف الكثير عن الرجلين الاساسيين في حركة “فتح”. كانت شهادته في العميد سعد صايل (ابو الوليد) القائد العسكري الفلسطيني الذي عرف كيف يخرج الفلسطينيين المسلحين من لبنان بكرامة، اكثر من ايجابية. كذلك انصف خالد الحسن (ابو السعيد) وشخصيات لبنانية استثنائية تمتلك صفة الوفاء مثل السيّد محسن ابراهيم. وشرح طويلا اهمية الدور السعودي المساند للفلسطينيين وقضيتهم وأهمية مصر التي كان التي دعمت ياسر عرفات في عهود عبدالناصر والسدات وحسني مبارك.
ثمة فصلان في الكتاب يستحقان القراءة بتمعن. يتعلّق الاول بعلاقة عرفات بالاتحاد السوفياتي قبل انهياره. كان نبيل عمرو، بصفة كونه سفيرا في موسكو، شاهدا على التغيير الذي شهده الكرملين وصولا الى استقبال ميخائيل غورباتشوف لياسر عرفات للمرّة الاولى. كان مهمّا بالنسبة الى نبيل عمرو افهام فلسطينيين كثر أن شيئا اساسيا تغيّر في موسكو. لكنّ هؤلاء هؤلاء كانوا اسرى افكار مسبقة عن الاتحاد السوفياتي رفضوا دائما التخلي عنها…على الرغم من أنها لم تعد واردة لدى المسؤولين السوفيات انفسهم!
أما الفصل الآخر البالغ الاهمية، فهو ذلك المتعلّق بالولايات المتحدة. كان عرفات يتطلع دائما الى علاقة مع واشنطن. يصعب على القارئ، من خلال الكتاب، معرفة ما اذا كان ياسر عرفات استطاع أن يفهم يوما اميركا وطبيعة العلاقة التي ربطتها باسرائيل. ولذلك، اصبح كلّ ما هو مرتبط بالعلاقة مع واشنطن بمثابة “كابوس مرير” بعدما ايقن أن هناك انحيازا صارخا من القوة العظمى لوجهة النظر الاسرائيلية.
الثابت أن ابواب البيت الابيض اغلقت نهائيا في وجه الزعيم الفلسطيني الراحل بعدما رفض اواخر السنة 2000 مبادرة الرئيس كلينتون على الرغم من نصيحة صادقة صدرت عن الامير بندر بن سلطان، السفير في واشنطن وقتذاك. دعاه بندر الى قبول المبادرة “من منطلق أني عضو في فتح”. وكان السيد حسن عبدالرحمن رئيس البعثة الفلسطينية في العاصمة الاميركية شاهدا على ذلك وعلى ما حصل لاحقا.
عرض نبيل عمرو جانبا من سيرة ياسر عرفات ومسيرته وصولا الى مرحلة ممارسته السلطة من رام الله. ترك للقارئ الخروج باستنتاجاته. الامر الوحيد الاكيد أنه كان موفقا في عرضه. ففي كلّ صفحة من الكتاب جملة مفيدة تستأهل الحفظ. احدى هذه الجمل متعلقة بالملك حسين الذي وصفه نبيل عمرو بعد اتخاذ العاهل الاردني الراحل قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية صيف العام 1988 بأنّه “سيّد المعادلة الصعبة”.
هناك جملة أخرى، قد يكون مفيدا لكلّ لبناني خزنها جيدا في ذاكرته هي الآتية:” مصر هي من منح عرفات شرعية الوجود العسكري على ارض لبنان. فلولا مصر عبدالناصر، لما اُبرم اتفاق القاهرة، أغرب اتفاق سياسي عسكري في المنطقة العربية”. حتى هذه اللحظة، ما زال لبنان يعاني من اتفاق القاهرة…”أغرب اتفاق سياسي عسكري في المنطقة”. خرج المسلح الفلسطيني من لبنان ولم يخرج منه السلاح غير الشرعي بعد، هذا السلاح غير الشرعي الذي صار ايرانيا وسوريا بعدما كان فلسطينيا!
نُشِر في “إيلاف”