بفشلهم الأخير في الحكم، يكون “الاخوان المسلمون” قد رسموا الملامح العامة لمستقبلهم الفكري والسياسي؛ تبقى ملامح مرحلة ما بعد هذا الفشل ليصادقوا على تفاصيلها. فالأمر موقوف على السيناريوهات المحتملة وعلى طريقة إدارة مشاهدها…
إذن، فلنتصور أقصى هذه السيناريوهات: في الأول، “يقاوم” الاخوان وحلفاؤهم ما يصرّون على تسميته بالـ”إنقلاب العسكري”، فيستشرسون في الدفاع عن “شرعيتهم”، ويتجنّدون لعنف قد يستوحون أشدّه من إسلاميين آخرين، خصوصاً “الجهاديين” منهم، المتمْترسين في شبه جزيرة سيناء؛ ما سوف يبرز في هذا السيناريو، هو العلاقة العميقة والخفية القائمة بين مختلف فصائل الاسلام السياسي، على طريقة الأواني المستطرقة.
هل تدوم هذه “المقاومة”؟ أم تخبو؟ الأرجح هو المصير الثاني؛ فأرض مصر لا ترحّب بهكذا نوع من الصراع. ولكن إذا دامت “مقاومتهم” هذه، فسوف يكون حظهم من الرواج الشعبي قدر حظ “الجهاديين” الإرهابيين، الذين يكونون قد التقوا معهم في طريقهم الوعر هذا. ويكون الاخوان بذلك يخوضون للمرة الثانية تجربتهم نفسها مع عبد الناصر، والتي أقصتهم عن المسرح وحوّلتهم الى “محظورة”… ولكن مع فرق، انهم لن يحصلوا هذه المرة على التعاطف الشعبي، التلقائي مع كل مظلوم… فشلهم السياسي، والأخلاقي خصوصاً، سوف يعصم الناس عن كل هذا.
الأكثر إحتمالا الآن هو أن تدخل مصر بعد الفشل الاخواني في حقبة يديرها الجيش، بتفويض شعبي واسع، تكون فيها “المقاومة” الإخوانية هامشاً طرفياً، لا يؤثر إلا قليلا على مجريات الحقبة وأولوياتها، الإقتصادية خصوصاً. نوع من “المدنية” سوف يهيمن على الزمن المقبل؛ ليس المدنية بالمعنى الاخواني، أي نقيض “العسكرية”، إنما بالمعنى الذي أولاه الجيش، أي نقيض “الدينية”. ماذا يفعل الجيش، هو والقوى الجديدة المؤثرة، بالإرث الذي يكون الاخوان المسلمون قد خلفوه وراءهم؟ وإذا نظرنا الى الطرف الإسلامي الذي حفظ مكانه في العهد الجديد، نقصد حزب “النور” السلفي بقيادة نادر بكار، والذي كان ممثله حاضرا في مشهد استعادة السلطة من “الإخوان” على يد الجيش… هل يكون هذا الحزب مستعداً للتكيف مع المعطيات الجديدة، فينحو بخطابه نحو نوع من الاعتدال لا يشبهه، هو الذي يذهب أبعد من الإخوان في طلب تطبيق الشريعة وغيرها من أوجه الأصولية الاسلامية؟ هل يكون على قدر من “البراغماتية” أو “التقية” ليمرر رقبته من سيف ديموقليتس، المرفوعة فوق رقبة الإسلامين الآن؟ أم أن السلفيين بمختلف أحزابهم سوف يتطرفون ويعنفون، أو ينشقّون عن بعضهم البعض، ويتصدّعون نتيجة هذه التنازلات، الضرورية، ولكن “المؤلمة”، التي تصيب عقيدتهم بالمقتل؟
الحكام الجُدد، وبعضهم قديم، سوف يمضون في “مدنيتهم”، غير آبهين بالأوجه السياسية والتنظيمية المترتبة على صراعهم مع الاسلام السياسي. والأرجح انه سوف تكون لهم اليد الطولى. ولكن على الصعيد الفكري أو الثقافي، سوف يكونون أمام امتحان صعب لمقولتهم التي ما فتئوا يرددونها اثناء ثورتهم على الاخوان وبعدها: أي لازمة رفض “المتاجرين” بالدين، أو “رفض الاحزاب التي تقوم على أساس ديني”… (بل ذاك البيان الذائع الآن على الفايس بوك والداعي الى جمع توقيعات تؤيد “حلّ الاحزاب ذات الصبغة الدينية”…). كيف يتجسد رفض المتاجرين بالدين وأحزابهم؟ هل يستأنف بقانون؟ وما هي مواد هذا القانون؟ ثم، هل يعفى الحكم الجديد من العودة الى الدين؟ وأي دين؟ بأية صيغة؟ فما يصعب تصوره هو مصير إرث الاسلام السياسي الذي يستنبط كل أحكامه من تفسير بات سائدا عن الدين. هل يصفّون هذا الإرث؟ أم يؤطرونه؟ أم يقنّونه؟ أم يعيدوا مراجعته، وجذرياً؟ فهم بتصدّيهم للإسلام السياسي يتصدّون فكريا أو ثقافياً لعملية “الأسلمة” التي تعرّض لها المجتمع المصري وبدرجات متصاعدة، منذ هزيمة حزيران 1967 وحتى في نهاية عهد مبارك. هو مثل رأس مال رمزي يملكه الاخوان وحلفاؤهم، هو الذي يحرّك الآن شارعا معهم، وقد يحرك غدا الشارع نفسه ضد أي اجراء تتخذه القيادة الجديدة، ذات صفة “مدنية”، أي “أنتي دينية”.
فالأرجح بداية، في صياغة الدستور الجديد، أن تزول المواد التي علقت الحبل حول عنق المادة الثانية منه لتجعل الشريعة الاسلامية، عملياً، مصدراً وحيدا للدستور. الأرجح انها لن تبقى، تلك المواد المسهِّلة لتطبيق الشريعة. ولكن هذه أهون الخطوات. فقد شاع خلال حكم الإخوان، وقبله أيضا، نوع من المعْمعة الفكرية نجمت عن الخلط العشوائي التجاري بين الدين وكل شيء… الدولة، المال، القبلة، الرضاعة، علم الفلك… هناك عمل جبار ينتظر الثقافة المصرية التي تريد الاستفادة من مناخ “المدنية” العسكرية، يقوم على تفكيك كل هذا الارث وإعادة ترتيب مكوناته بناء على حاجات ومتطلبات الغالبية العظمى من المصريين، الروحية منها والدينية، والتي لا تجد أمامها غير هذا الإرث. طبعا سوف يشهد هذا الحراك الثقافي أنواع لا تحصى من “الترتيبات” الدينية “الوسطية” التي لا تنسف “المدنية” المستجدة ولا إرث الأسلمة العميق. لكن العمل الثقافي سوف يواجه، وبإلحاح هذه المرة، مسألة الفصل بين الدين والدولة، أو بين هكذا إرث ديني وبين الدولة. هل تكون مرجعيته الدين التقليدي، الشعبي، الذي كان الكثيرون يشيدون به أيام الهيمنة الفكرية للإسلام السياسي؟ اما وقد فقد هذا الاسلام هيمنته الفكرية الآن، فهل يؤصل هذه الترتيبات ام يتجاوزها؟ ويخترع صلات أو إرهاصات صلات جديدة بين الدين والدولة؟ هل يخوض تجارب التفاعل أو التصادم أو التصالح أو التنافر بين الدين والدولة؟
إن ضياع الهيمنة الفكرية للاخوان، يفتح المجال واسعا أمام إعادة تفكير علاقة الدين بالسياسة بحرية أكبر، بتوتر أقل، بتبصّر ورحابة، من دون الخوف من التكفير وعنفَيه الرمزي والجسدي… يفتح صلة جديدة بين الثقافة وبين تجارب الجماهير المتأسلمة ولكن الرافضة للأحزاب الدينية. انها وضعية جديدة يترتب عليها زاوية نظر اخرى، تفهم وتحلل بأدوات ومعطيات اخرى.
قد يتصور العلمانيون، أو بعضهم على الأقل، بأن زمنهم ها قد أتى. وقد يفكرون بأنه آن أوان فكرهم، ليدافعوا عنه ويسعوا الى ترجمة مقولاته على الأرض. ويقصدون الفكر الذي آمنوا به منذ نشأتهم، والقائم على الفصل الحاد والنهائي بين الدين والدولة. ولكنهم واهمون. فالدين من الحاجات والمتطلبات الروحية اللازمة لكل الشعوب، وليس فقط المصريين وحدهم. والدين الاسلامي، وبصرف النظر عن “التأسلم” الذي أصابه، أكثر الأديان توسلا للحاجات والمتطلبات. وليست العلمانية الغربية بحذافيرها هي التي تفككه، انما فكرتها فحسب. وبعد ذلك يأتي التأصيل؛ أي إختراع علاقة جديدة بالدين، علاقة أخرى، لا هي تلك العائدة الى الزمن التقليدي، مادة حنيننا بامتياز… ولا هي منزوعة المعنى التاريخي كما قادنا اليه الإسلام السياسي. إنما هي علاقة خاصة جديدة، ترسم ملامح العلمانية المعاصرة بكل ما تزخر به من تجارب وتنظيرات. هل يكون زمن هذا الاختراع بعيدا؟ ليس كثيراً…. فاذا حسبنا الوقت القياسي الذي احتاجته تجربة الاسلام السياسي لكي تسقط، خلصنا الى تواتر سريع للزمن، بالكاد نلتقط أنفاسنا فيه. ولكن بشرط… أن لا تسقط التجربة “المدنية” في غواية السلطة، كما سقطت التجربة الاخوانية… فالمعروف ان الذين ربحوا من الثورة على محمد مرسي أربعة أطراف، أولهم، حزب “النور” السلفي، الذي بكّر في لعبة الغواية هذه، ضد الثلاثة الباقين، أي “الفلول” والثوار والجيش… ونحن ما زلنا في البداية، أو في فصل من فصول الثورة الطويل جداً، وعنوانه الأعم إسلام غير اسلامي…
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل
نحو إسلام غير “إسلامي”البون شاسع ما بين الصحافة والفلسفة وما بين الشفافية والتسويق. بداية, اعتقد انّ قراءة الإنقلاب العسكري في مصر كمؤشر النهاية لتيار الإسلام السياسي في المنطقة لا يعدو عن كونه محاولة ساذجة تسعى الى “مطّ الحقيقة” وتحميل الواقع ما لا يحتمله. بداية، لا اعتقد ان حركة الإخوان المسلمين تمتلك صندوقاً مقفلاً يوجد بداخله ذلك الشيء الذي نسميه “الإسلام”… هي حركة سياسية اصيلة في محيطها الحاضن مثلها مثل الأحزاب الدمقاطية المسيحية في المانيا وايطاليا وغيرها، وعلى الأغلب لن تختفي ولن ينقل جمهورها هواه بالسرعة التي يتمناها غرماؤهم، بل اراهم في مرحلة ما يتنقلون مثل غيرهم ما بين الحكم والمعارضة.… قراءة المزيد ..