على ضوء المتغيرات الجديدة الآخذة في التشكل في مرحلة ما بعد أواخر العام 2010 (الحراك الثوري العربي وتداعياته) وبناء على تفاقم الوضع في سوريا وانتكاسات المراحل الانتقالية من تونس إلى مصر مروراً بليبيا واليمن، تكتسح العواصف «الربيع العربي» ويكثر الكلام عن إعادة رسم الخرائط وعن تجاذبات أو ترتيبات دولية جديدة.
في مصر والمغرب العربي تبرز صراعات إيديولوجية وقبلية
T+ | T-
لكن مقابل عدم تبلور صورة المشهد الإقليمي ومصير وحدة الكيانات في مستقبل منظور، نلحظ استمرار تحطيم الدول المركزية استناداً إلى مخاطر امتداد النزاع السنّي ـ الشيعي في المشرق والمعطوف على صراع في سوريا وحولها متصل بمصالح إيران وإسرائيل وتركيا وغيرها من أطراف لعبة الأمم. أما في مصر والمغرب العربي فتبرز الصراعات الإيديولوجية والقبلية والجهوية لتترك آثارها السلبية على وحدة المجتمعات.
كل ذلك يطرح تساؤلاً رئيسياً حول السيناريو الأكثر ترجيحاً بالنسبة إلى مستقبل نموذج الدولة القومية عبر نهايته أو تأقلمه وتحوله دولة مختلطة تعددية لا مركزية تسمح بتلبية مطالب المجموعات الاثنية والمكونات الأقلية، مما يتيح لاحقاً تحديد السمات الرئيسية للنظام العربي بشكل فيديرالي خصوصاً في المشرق.
تاريخياً، تعتبر الدولة ظاهرة القرن العشرين بامتياز وفيه تصاعد عدد الدول من 20 دولة إلى 195 دولة بعد نهاية الحرب الباردة. ولم يشذّ العالم العربي عن القاعدة العامة، إذ أن دوله نشأت في القرن المنصرم كنتاج لتفكيك الدولة العثمانية ونزع الاستعمار الأوروبي لاحقاً.
وفي السياق التاريخي يمكننا القول إنّ “الصحوة العربية” المنطلقة من تونس هي ثالث محاولة نهضوية للتخلص من الانحطاط والاستبداد وبناء أنموذج سلفي أو تغييري او حداثي جديد تبعاً لطروحات هذا التيار الفكري او ذاك.
كانت المحاولة النهضوية العربية الاولى في أواخر القرن التاسع عشر وكانت ردة فعل على الاستبداد العثماني، وكانت المحاولة الثانية مع التيار القومي العربي الذي بلوَر مشروعاً نهضوياً كرد على النكبة في فلسطين، لكنّ هزيمة حزيران 1967 وانعدام الحريات الأساسية قوّضا هذا المسعى.
وما المحاولة الجارية حالياً إلا نتاج حراك غير إيديولوجي رداً على مأزق عدم وجود ديناميكيات قادرة على التغيير والخلاص من الدولة البوليسية العربية التي كانت النموذج الاكثر رواجا للدول الوطنية في عهدة السلطويين و المؤسسات العسكرية والأمنية.
ومن الملفت للنظر أن الانتفاضات العربية اندلعت في نطاق الكيانات، ولم تكن لها في البداية اطروحات فوق قومية أو دينية. وبدا عامل العدوى طبيعياً ومنتظراً على رغم تحرك قوى الثورة المضادة من قوى اقليمية ودولية أو من قوى إيديولوجية استعجلت قطف الثمار لبناء مثالاتها في “الدولة الاسلامية” أو في الخشية على “دولة القانون” (او دولة الحق المدنية والعلمانية الطابع)، مما زاد في احتدام الصراع بين التيار الديني والتيار المدني.
وقد لاحظ الكاتب زاكروس عثمان أن “الربيع العربي كان ثورة فريدة سبقت العالم إلى إعلان انتهاء عصر الدولة، فهو ليس مجرّد تمرّد على أنظمة حكم استبدادية فاسدة، بل ثورة على الدولة الفاشلة، وقفزة نحو المستقبل لإيجاد تنظيم أوسع من الدولة التي أصبحت في حدّ ذاتها مشكلة عالمية”.
في هذه المقاربة حسم مبكر لنتائج مخاض لن تظهر نتائجه حالاً، لكن المراقبة للمشهد العالمي تبين بالفعل انه بعد مرحلة صعود وتضخم للدول بعد نهاية الحرب الباردة وبالتزامن مع العولمة الشمولية، نعيش مرحلة انحدار الدولة عالمياً.
مع بدايات القرن الحادي والعشرين، نستنتج تراجعاً مع زيادة المناطق الرمادية (اللا دولة) وتأكد تفكك الدول من الصومال إلى كوسوفو وتيمور الشرقية والعراق والسودان… ناهيك عن حالات تفكك ممكنة في قلب أوروبا بالذات من كاتالونيا الاسبانية إلى بلجيكا واسكتلندا وايطاليا.
وهكذا في مواجهة العولمة والتجمعات الكبرى، يعمل تيار ليبرالي من اجل خصخصة وظائف الدولة السيادية (الامن والجيش) أو من اجل تذويبها نقدياً كما في حال منطقة اليورو. وهناك ايضاً تيارات قومية او دينية تعمل لمزيد من الانكماش وضرب أنموذج الدولة القومية الغربي المنشأ وغير الملائم حسب وجهة نظرها للتطور التاريخي الحالي.
هكذا بدل تباشير تحول عربي إيجابي كانت تلوح في افق 2011، يبرز اليوم واقع سياسي معقد ربما يجعل مفهوم الدولة القومية متضارباً مع العالم العربي الجديد الناشئ. لذا لا بد من مشروع ديموقراطي عربي ينهل من التراث العريق ويتأقلم مع متطلبات الشمولية في عالم تسوده التجمعات الكبرى، وخصوصاً أن الحلول للأزمات ضمن إطار الكيانات لم تكن ناجعة.
إن الشرعية الدينية ليست كافية لوحدها ولا يجوز أن تطغى ايديولوجيتها على عناصر الدولة القومية الناجحة: الشورى الديموقراطية، الاستقلال الاقتصادي ،النمو المدعوم ذاتياً، والأمن السياسي داخل الحدود الوطنية.
khattarwahid@yahoo.fr
جريدة الجمهورية