تنظر ليلى الى مرآتها، تحدّق طويلا في ملامحها، لعلّها تجد فيها جواباً على سؤالها: “هل أنا طائفية؟ مذهبية…؟”. جلّ من حولها أصيب بهذه اللوثة، تخشى أن لا تكون “واعية” تماماً من انها… هي أيضاً قد بلغتها العدوى. “أنا إبنة جيل آخر”، تحاول أن تقول لنفسها. “انا أصلاً شيوعية وكبرت على فكرة العلمانية…”. ولكن، تتابع لنفسها، أليس بين اليساريين والشيوعيين من التحق بالمدّ الديني-الطائفي؟ ليس تعاطفا فحسب، أو تضامناً أو نصرةً، إنما أيضا إلتزاماً واستشهاداً أحياناً؟ ماذا عن هؤلاء اذاً؟ ألم يكبروا معي على العلمانية؟.
حجتها هذه لا تكفي، عليها البحث عن حماية أخرى، عن برهان آخر؛ تجده في طبيعة انتماء والديها الى الطائفتين المتصارعتين الآن: “لا! لا يمكن ان أكون طائفية… مع هذه او تلك من الطوائف المتصارعة، طالما أمي كيت وأبي كذا…!”. أيضاً، بعد حين قليل، يظهر ضعف هذا المتراس. فهي تنفي طائفيتها بسبب وقوعها، وبالولادة، ومن دون أي خيار منها، بين الطائفتين نفسهما. فلو كانت مثلا صافية الانتماء إلى هذه الطائفة أو تلك، هل ستكون، حسب هذا المنطق الطائفي، البريء ظاهرياً، مع طائفتها أو ضدها؟.
لديها ملاذ أخير، أن تردّد لنفسها بأن أصحابها وزملاءها وأصدقاءها هم من طوائف متنوعة: “عندي أصحاب وأصدقاء من كل الطوائف…” كم هي مستهلكة، هذه الجملة… ما من لبناني إلا ونطق بها يوماً ما في حياته… فوق ذلك، تعلم ليلى، في سريرتها، بأن أولئك الأصحاب والأصدقاء لا يشكلون “بيئة”، لكي لا نقول “مجتمعا” أو “تياراً”؛ هم متناثرون هنا وهناك؛ واذا اجتمعوا فضمن شلل ضيقة منغلقة، نادراً ما تصمد أمام المزاج الطائفي الجبار… لا، لا تنفع أيضا حجة “عندي أصدقاء وأصحاب…”، لكي تنفي عن نفسها صفة الطائفية، التي تشك بأنها قد أصيبت بها، من دون أن تميز وجهات هذه الإصابة…
الأهم من كل ذلك، ، انها عندما تنتهي من طرح هذه التساؤلات على نفسها، وهي تقوم بذلك كل يوم، تجدها في حالة من الغربة التامة. لا تعرف هي ان هذه الغربة بالذات، قد تكون درعها الأخير ضد الوباء الطائفي، البالغ ذروة جديدة. أن تستقر ليلى، ولو مؤقتاً، على هذه النتيجة، يحمي روحها من الإنزلاق الى الجحيم. فهي، أي النتيجة، تعني بأن ليلى تنتمي الى عصر آخر. أو أن غربتها عن الصراع الطائفي ناجمة عن انتمائه هو الى عصر آخر: برموزه وشعاراته و”برنامجه” وسردياته وشخصياته، وطقوسه الدينية… وبأن هذه الغربة تعود إلى نفي صفتها، وصفة المواطنين الذين يقاسمونها الوطن نفسه، كفرد أو أفراد أحرار باختيار اصطفافاتهم وانحيازاتهم السياسية؛ فلا لا يندرجون مع هذه الطائفة أو تلك بمجرد حكم الولادة، وحسب. لا مكان في هذا الصراع للإرادة الحرّة الراشدة الناقدة المقررة مصيرها بنفسها؛ إنما لإرادة عليا تملي عدد قتلاها والخسائر الأخرى من دون رمشة جفن… وهذه الحرب، من القوة والحيوية بحيث انها وضعت ليلى وأمثالها أمام المرآة ليطرحوا على انفسهم سؤال من عصر آخر، من مناخ آخر، من إرادات وتصورات أخرى، عماده “الغريزة” الطائفية، وهي اليوم في أزهى عصورها.
كيف انزلقنا الى قاع طائفي أعمق مما نعهده؟ كيف تمكنّا من إصابة عرب ما بعد الثورات بعدوانا الطائفية؟ كيف قبلنا على انفسنا هذا “الدور” التاريخي غير المشرف؟ والذي لا يملك من التاريخ إلا العودة لعصور لم تكن تفهم معنى إرادة الفرد الحرة وخياراته؟
ليس “النموذج” السياسي اللبناني وحده مسؤول عن تعميم الشر الطائفي في منطقتنا. فلنتذكر، أول طائفيي العصر الجديد كانوا العراقيين ما بعد سقوط صدام. تلاهم المصريون بعد سقوط مبارك وإحلال الاخوان مكانه، ثم كانت سوريا، المفترض انها “علمانية”… ثم المنطقة بأكملها، بجيوبها ودويلاتها ومدربيها ومسلحيها. وكبارها أصوليتان مذهبيتان داخلتان على معارك دموية شرسة، في دوامة تتسع دائرتها شيئاً فشيئاً؛ تتسع وتنغلق في آن، بحيث لا تبقي لغيرها أدواراً أو ديناميكيات. ولأن الطرفان يستمدان طاقتهما من الله والدين والقرآن والحديث، فان الصراع بينهما سوف يكون أتوناً، هو الأكثر دموية في تاريخنا المعاصر، وربما القديم، أو هو في سبيله الى ذلك… وبصورة حتمية. إذ لن يجد أمامه ما يوقفه، أو يخيفه أو يهدده.
أصوليتان تتحاربان وتجنّدان كل من ولدته أمه من هذه الطائفة أو تلك. مع مجريات صراعهما هذا، سوف يكبر “الملاذ” التي يؤمنه أبناء الطائفة، وسوف يزداد بالتالي أعداد الخائضين في حروبهما، حماية لأنفسهم على ما يعتقدون، أو رفعا لعزّة طائفتهم المهددة دوماً من الطائفة الأخرى. وهكذا إلى أن يعمّ الخراب ديارنا، من دون أن تكون في دنيا هذه البلاد أي قوة، أي طاقة توقف الأصوليتين عن التذابح والتقاتل. أي قوة، “وسطية”، “حوارية”، “معتدلة”، قد تفرمل هذه الإندفاعة نحو الموت، قد تزينها أحيانا، قد تحقق “هدنة”… ولكنها في الصميم لن تصيب. ربما لأن ديناميكية الصراع الطائفي لم تستنزف كل طاقتها بعد، أو لأن ثمة وثبة آتية من عمق التاريخ، لا يوقفها “عقل” ولا “مصالح”، ولا، بطبيعة الحال، الكيانات الوطنية التي لا تعترف لها بحدود. وثبة، قادرة على سحق “الإنجازات” الحداثية والحدود الوطنية بضربة قرار، بلا أية مقاومة حية تذكر… مع أن الأفق الذي يقترحه علينا هذا الصراع لا يشي بغير الموت والخراب.
اعتدنا على القول بأن التيارات الدينية تمكّنت اخيراً من إيجاد حلبتها على مسرحنا، بعدما خذلنا “الليبراليون واليساريون والعلمانيون والقوميون…. الخ”؛ وذلك بتفرقهم وتذررهم وتشتتهم وعجزهم التام على الاتفاق في ما بينهم. بهذه الحجة رفعنا المسؤولية الفكرية عن هذه التيارات “المدنية”، وأحلنا الموضوع كله الى تعقيدات نفسية شخصية تنافسية تصدّ مجرد التنسيق بين مختلف أجنحتها… كلها حقيقية، لكنها قد لا تكون سبباً جوهرياً لتفوّق المناخ الديني وتنظيماته على ما عداها، إنما نتيجة فقر الفكر “المدني” وضعفه. وهذا طبيعي، نسبياً، إذ لم ينمُ هذا الفكر بالتفاعل مع تجاربه الحية المعيوشة، إنما من خارجها؛ بالنقاشات والسجالات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات التي لا تفيد إلا “الأنا” الخاصة لنجومها.
ما يجعل الصراع الطائفي من الأمور الحتمية، الذي لا يعطله شيء غير الضجر، أو التعب، من القتل… هذا ما علينا انتظاره من المدى القريب والمتوسط لأيامنا: صراع دموي مرير وفظيع، سوف يجتاح حياواتنا، سوف نحتمي منه بحيطان غرفنا المظلمة… وينتهي في هزيمة الطرفين، أو بالأحرى هزيمة “جيوشهما”. وبعد ذلك، وعلى أنقاض هذه الهزيمة، سوف يكون ممكناً البدء بتنفيذ وعود الثورات العربية، بعدما تكون خاضت الأمرّين من أجل البقاء نائمةً؛ نائمة لكي لا تموت، مقاوِمةَ من أجل البقاء…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل