(خاص بشفاف الشرق الأوسط)
بذكاء ملحوظ ومشهود أقدم ممثل المهمشين اليمنيين في مؤتمر الحوار الوطني النائب الثاني لرئيس فريق الحقوق والحريات نعمان الحذيفي، على تشكيل “جماعة أخدام الله” تحت شعار “الله أكبر والعزة والحرية للاخدام”، وأشهر عن ذلك ليثير الكثير من الصخب واللغط والغلط في بيئة سجالية عقيمة صدمها أن يتجرأ واحد من المهمشين على إعلان نفسه كناطق باسم الله شأن غيره من النبّاحين المتقاتلين على الله والمتنازعين على النطق باسمه وتأميمه.
اللافت انه بدا كمن تكبد عناء اجتراح مهمة جسيمة بما يتجاوز حدود التماهي الابتدائي مع “جماعة أنصار الله” التي تتسربل بشعار “الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل”. فهو تميز بشعار يلامس نبض وفضاء أشواق داخلية دفينة، ويغازل فضول الأنظار الغربية والأمريكية التي تلتفت، غالباً، لمعظم ما يحدث في هذه البلاد بعيون الدهشة الاستشراقية الاستغرابية لما يحدث في بلاد تقيم خارج الزمن واسمها اليمن!
لعلها تفاعلات الحضور والمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني ومهرجان الأضواء واللقاءات الثنائية الحميمة والجماعية اللئيمة، والتواصل مع رموز شتى الأطياف والأطراف –إن جاز التعبير- واللقاء بالأجانب من الخبراء والسفراء الذين صاروا يزورونه في مكتبه الخاص بتحرير السود ويستدعونه إلى مقار سفاراتهم وبيوتهم ليشاركهم الاحتفاء بالأعياد الوطنية لبلدانهم، بما فيهم صاحبه جيرالد.. نعم جيرالد وفقط وهو يتبسط على هذا النحو حينما يتحدث عن صاحبه جيرالد فايرستاين سفير واشنطن بصنعاء الذي يبدو انه يستعجل انتصار تحرير الزنوج في اليمن من بوابة نعمان مارثن كنج الحذيفي على الطريقة الأمريكية المسلوقة في دمقرطة وتحرير الشعوب وزجها في أتون التذرر والهباء من غير حسبان لواقع أن صاحبنا –نعمان- هو أذكى كونه يختزن الكثير من الدهاء والحيلة والخبرة المتراكمة عبر قرون طويلة من الاسترقاق والانسحاق ومن تاريخ دام لم يقرأ اليانكي الغبي عنوان صفحته الأولى.
من غير المستبعد أن يكون مؤسس وقائد جماعة أخدام الله استلهم فكرة هذا “المشروع” من خلال تواصله ومتابعته للطابع الدراماتيكي العنفواني الذي اتسم به أداء “جماعة أنصار الله”.
ومن غير المستبعد أنه توقف مليا أمام إصرار جماعة الحوثي على الاستئثار بسلطة نقطة أثيرة وخطيرة اسمها: نقطة نظام.. فهي نقطة تتداخل مع كل الحدود وتخرج عنها، تجعلك سلطة وتنأى بك عنها، تمكنك من أن تقول ما تشاء وأن تستثمرها إلى آخر نقطة.. وهي نقطة بحجم المؤتمر الوطني كله ومنها يبدأ النظام كما لا يقوم.. ترى من ابتكر هذه النقطة ومن هو الأجدر والأقدر على استثمارها حتى يكون هو النظام و..الوطن!
وهو، من غير شك، شاهد المراسيم الجنائزية المهيبة وغير المسبوقة لزعيم الحركة الحوثية، القائد، الرمز والمؤسس حسين الحوثي، وكيف جاءت تتويجا لمسيرات كربلائية راجلة وصاهلة قصدت “صعدة” من قبل كافة أولئك الذين ابتغوا أجر الله وحسناته، وانتظموا في صفوف طويلة ليصلّوا خلف “السيد” عبد الملك الحوثي الشقيق الأصغر للقائد الحركي المؤسس –ليس في الأمر وراثة- الذي كان لا بد من استكمال طقوس ترميزه وتكريسه من قبل حشود مليونية معفرة بالغبار تقاطرت إلى ميدان تأثث لتأييده وتعميده رمزا ومزارا ضمن إطار صناعة مستأنفة لا تزدهر، في العادة، إلا في أزمنة الموات والبوار والادقاع والجهالة والتبطل والتخريف والانعدام، وحينما يتساوى كل شيء باللاشيء، ويصير الواقع غير واقعي بجنون لا شخصية له.
من حقك يا نعمان أن تشيع بجنازة مهيبة والى مقبرة معلنة وان تكون رمزا في بلاد تنكر على “الأخدام” حقهم في الموت الكريم وحقهم في امتلاك مقبرة!
في هكذا وضع تكون اللحظة خلابة وذات جاذبية لا مركز لها ومتاحة لالتقاط من ينطوي على “كاريزما” غائرة، متحفزة، قلقة، ومتحرقة للإفصاح عن نفسها في لحظة مشهدية عابرة لليومي.
وبعد إمعان في متابعة التفاصيل الدقيقة التي كانت تستعرضها فضائية أنصار الله (المسيرة) بما في ذلك أذان الصلاة بالتوقيت المحلي لمدينة “صعدة” اكتملت معالم الخارطة!
وتحت تأثير المسيرات الكربلائية والحركات المارشالية لحملة النعش وأخبار وتعليقات ضيوف “المسيرة” الذين تحدثوا عن مشاركة مليونين في تشييع جثمان مؤسس جماعة أنصار الله تسوروا بحماية أمنية خاصة نهض بها نحو ثلاثين ألف من جند جماعة أنصار الله.
وبعد أن تيقن من أن الذي كان لم يكن في لبنان أو في إيران، تلامحت الصورة الملونة للفكرة في ذهن نعمان وارتسمت صورة الإعلان ومفردات إشهار “جماعة أخدام الله”.
وورد في التصريحات الأولى الصادرة عن مؤسس الجماعة أن حجم القوام التنظيمي والقاعدي لحركته يتجاوز الثلاثة ملايين!
انه التواضع فهو لم يرفع عدد اتباعه عن عدد المشيعين لقائد الجماعة الحوثية إلا بمقدار مليون فقط!
وقبل أن يجف حبر التصريحات الأولى لقائد “جماعة أخدام الله” كان واحد من أكبر وأخطر الجنرالات المحترفين لتفريخ الأحزاب أو اختطافها قد تمكن من التقاط “المشروع” وسارع لاحتضانه بإرسال الخلصاء من جلسائه ومستشاريه ليباركوا لنعمان إطلاقه لهذه الحركة التي جاءت في وقتها، ما يشير إلى حكمة وحنكة قائدها ونفاذ بصيرته و….
وبما أن هذا الجنرال قد كان على رأس حربة الأعداء الذين قاولوا بمقاتلة الحوثيين على مدار ستة حروب فقد استمزج فكرة احتضان المشروع الجديد واستلذها وعرض الملايين على قائد “جماعة أخدام الله”، وعرض عليه تجنيد 200 شاب من أتباعه كدفعة أولى وعلى طريق تأسيس جيش لجماعته.
احتفت بعض المواقع الالكترونية والصحافة بالوليمة الجديدة والتفت إليه العديد من الخبراء والسفراء والأشقاء والأجانب، وتقبل نعمان شتى مظاهر الاحتفاء ببساطة أصحاب الرسالات الكبرى وهم في مقتبل المشوار، وكان متواضعا وصريحا عندما أفشى لأقرب أصدقائه بأن هذه الفرصة قد جاءت في وقتها وسوف تعينه على تغطية التكاليف وبالأحرى المصاريف الكثيرة التي ينفقها على أتباعه ثمنا لوضعه الكاريزمي ودوره كممثل للمهمشين.
من يعرفونه عن قرب يصدقونه ويذهب بعضهم إلى التلميح بالعوائد التي سوف يحصدها ويقولون إن ذلك من حقه وليس من حق أحد أن يستكثر أو يستنكر على نعمان ممارسة هذا الحق والخوض في غمار هذه التجربة المثيرة على غرار كثيرين أسسوا أحزاباً وجبهات حتى إن أحدهم كان مؤسسا لثلاثة أحزاب في وقت واحد وقد اعترفت به السلطة دونما أي قدر من الخجل.
وقطعاً للاستطراد عادت بي الذاكرة إلى حديث كنت سمعته من الصديق العزيز والكاتب القدير الدكتور عمر عبد العزيز عن انفجار الوضع في الصومال مطلع تسعينيات القرن الماضي, وكيف أن أمراء وجنرالات الحرب استعانوا بـ”الباربون” وهم جماعة سكانية تناثرت وتكاثرت في هوامش المدن والحواضر وكانت في غاية الرثاثة جراء ما أحاق بها من عنف التهميش والإقصاء؛ إلى أن احتدمت أوار الحرب بين الأسياد من الجنرالات الكبار في المركز الذين تقاتلوا بأبشع ما يكون عليه التقاتل وبعد أن تقطعت أنفاسهم وأوصالهم لاذوا بالهوامش واستنجدوا بالمنسيين المحكومين بالإلغاء المؤبد.
ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى صار هؤلاء في الصدارة وكانوا الأكثر شجاعة وإقداما في سوح الوغى وفي جندلة الأعداء ثم الحلفاء، وما أكثر أولئك الجنرالات الذين لمعوا في زمن وسياق سابق وتحولوا إلى رهائن لمقاتلي “الباربون” الذين تصدروا المشهد وأصبحوا جنرالات تلهبهم المغامرة ولا يترددون عن المقامرة برؤوسهم بمجون وجنون وعبثية واندفاع عاصف من قبل من يعلم انه لن يخسر أي شيء فهو كالخارج من القبر الذي يمكن أن يحتل عرش القصر على سبيل الصدفة والظروف الاعتراضية، ويمكن أن يخرج إلى القبر في هامشه من غير أن يذرف ذرة ندم.
بالمناسبة، ثمة شيء بل وأشياء كثيرة تسترعي الانتباه فيما خص اليمن إبان احتدام أوار الأزمة السياسية واندلاع أمواج الاحتراب الصارخة والصامتة بين الفرقاء في مراكز السلطة والمدن بما في ذلك عدن وتعز وغيرهما، حيث هرع أصحاب القصور الباذخة والسيارات الفارهة إلى الاستنجاد بسكنة الصفيح والعشش وأكواخ القش من المهمشين (الأخدام) ووزعوا عليهم الكثير من الأسلحة والقليل من أكياس القمح وتزلفوهم بأوصاف وألقاب غير معهودة وأعادوا تذكيرهم بـ”عنترة العبسي” و”ابرهة” و….
وكان على المهمشين أن يلتقطوا جمرة الفرصة بشهية وشراهة وشراسة ويخرجوا إلى الميدان بطاقة قتالية انتقامية ومتحفزة ومن غبن قرون مديدة من الإذلال والتحقير والطمس ومن العيش في الموت.
هكذا صار من كان مقدرا له أن يموت قبل أن تحمل به أمه أو من يولد لينسحق ويقتل ثم يرحل إلى مقبرة ليس لها عنوان.
هكذا قدر لـ”الخادم” أن ينتقل من دور المهمش المؤبد والقتيل في أي لحظة وفي كل آن إلى قاتل ضمن لعبة جهنمية وصلت إلى آخر فصولها الماحقة بين القتلة من “السادة” والقبائل المتنازعين على تفاحة السلطة والثروة ولم يكن في واردهم أن يلوذوا بالهامش والمهمشين إلا بعد أن خارت قواهم واستنفدت طاقاتهم واستنفدوا معها كافة الوسائل القذرة في إلغاء وتصفية بعضهم ولم يلجأوا إلى “الخادم” إلا بعد أن احتلك ظلامهم بهم ومن قبيل الانجراف مع غواية مداواة القتل بالقتل.
العجيب أن البعض يستنكرون أو يستكثرون، بل ويضحكون من هذا التشكيل الذي ظهر اسمه على السطح: “جماعة أخدام الله”، مع أن البلاد لم تعد تعرف غير هذا النوع من الاستثمار، فهي تستنقع في زمن ميليشاوي بامتياز وصار الكثير من أرجائها تحت هيمنة ميليشيات مسلحة وجنرالات حرب.
وفي كل الأحوال، ما كان لهذا المسخ أن يطل علينا –أقصد الميليشيات- إلا من ذلك الرحم المظلم وهو رحم السلطة العصابية الانقسامية التي تربعت العرش بحرابها واختطفت البلاد والعباد بحروبها واعتمدت سياسات انقسامية تمزيقية أفضت إلى كل هذا الخراب وولدت الكثير من الرايات والخنادق والجبهات والجنرالات.
لعله مكر التاريخ الذي صارت بموجبه الصومال أذكى وقوة “طليعية” بالنسبة لليمن لأنها حققت السبق في اجتياز الكثير من جداول الشوك والنار قبل أن تبلغ مشارف التوافق على تدوير مخلفاتها وتوزيع أوصالها بحكم الإنهاك وأخطار الهلاك الشامل.
هامش:
* الاخدام: فئة اجتماعية مهمشة واسعة الانتشار وعظيمة التكاثر في هوامش المدن والحواضر والمناطق العشوائية في اليمن، ويسكنون أكواخ القش وعلب الصفيح والمخيمات المتهرئة، وهم من اليمنيين السود الذين يمتهنون العمل في البلديات كعمال نظافة للشوارع وغير ذلك من المهن المحتقرة في نظام التراتب الاجتماعي الإقصائي.
ثمة روايات كثيرة تقول بأن أصلهم يرجع إلى الحبشة وأن أجدادهم كانوا من الغزاة الأحباش لليمن قبل الإسلام، ثم كانت لهم دولة في اليمن بعد الإسلام: دولة بني نجاح.
وهنالك رواية أخرى قوية الحضور لدى معظم اليمنيين من غير الأخدام ومفادها أنهم لا يقبرون موتاهم والشاهد على ذلك أنه لا توجد لهم مقبرة معلومة وتلك رواية مرتبطة بصميم الثقافة العنصرية الانقسامية السائدة في المجتمع.