في أحد اللقاءات مع المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي في العام 2000 قال رحمه الله: “إنّ انجاز التحرير هو افضل اسلوب لتلميع صورة التشيع في فضاء المسلمين السنة في العالمين العربي والاسلامي”.
يمكن تطبيق هذا القول على حرب العام 2006، رغم ما احاط بهذه الحرب من انقسامات على المستوى اللبناني الداخلي. ذلك ان صدى ما حققه حزب الله عربيا واسلاميا كان كبيرا الى حد ان شيعية حزب الله لم تكن عائقا امام عموم الجمهور السني العربي وغير العربي في الاحتفاء بصمود حزب الله والمقاومة ذات الهوية الاسلامية الشيعية.
حتى يوم 7 ايار 2008 الشهير، الذي عمّق الانقسام اللبناني بسبب استخدام قوة المقاومة العسكرية في ميزان الصراع السياسي الداخلي، تمكّن حزب الله من ان يحيّد جزءا اساسيا من هذا الجمهور العربي والاسلامي عن الانقلاب عليه، وبقي هذا الامر متاحا له الى حد كبير حتى بعد اقصاء سعد الحريري عن رئاسة الحكومة في نهاية العام 2010. وربما نجح في لجم الخسائر، لأنه كان قادرا على اظهار واقناع الكثيرين في خطابه ان سلوكه هذا يصطدم بنظام مصالح سياسي تمثله اطراف اقليمية ودولية، وليس مع وجدان عربي واسلامي سني.
رغم كل هذه المحطات الاشكالية في الحسابات السياسية والطائفية اللبنانية الداخلية، لم يتأثر عمق حزب الله الفلسطيني وظل “الحزب” محافظا الى حد كبير على علاقاته في الساحة الفلسطينية، لا بل تعزز حضوره الخاص والمباشر اكثر مما كان عليه الحال قبل العام 2006. وبقي محافظا على صدى مقاومته عربيا، باستثناء ما مثله آنذاك نظام المصالح الاقليمي (الرياض – القاهرة) الذي اصطدم به الى حد القطيعة، خصوصا بعد تقويض دورهما في معادلة السلطة في لبنان.
لكن من مصر الى الخليج الى المغرب العربي فضلا عن عموم بلاد الشام، بقي الوجدان العربي – السني خارج سياق هذه المواجهة، لا يجد نفسه مجروحا منها، وان كان بدأ يضبط تعاطفه وتأييده لحزب الله وموقفه من الشيعة والتشيع ببعض الأسئلة والشكوك الموضوعية حينا، مترافقة مع أحكام تاريخ الفتن المذهبية الملتبس في كثير من الاحيان.
اليوم حزب الله في عملية اصطدام بالوجدان العربي بشكل مباشر. فمنذ انطلقت الثورات العربية بدأت ايران، وحزب الله خلفها، يسارعان الى محاولة إسقاط المبنى الايديولوجي الذي تتبناه القيادة الايرانية على هذه الثورات. فهي حينا وصفتها بانها انقلاب على اتفاقية كامب ديفيد، ثم عادت لتقول انها صحوة اسلامية وثمرة ولو متأخرة لثورة الامام الخميني في العام 1979.
وفي اللحظة السورية انفجر الصدام، بعدما انكشف ان منطق اسقاط الايديولوجيا الاسلامية الايرانية على التحولات الجارية اصطدم بالواقع، وعبّر عن نظرة قاصرة عن فهم التحولات، نظرة عاجزة او لا تريد فهم الواقع على حقيقته، بل تتمسك بالمبنى الايديولوجي الذي انتقل من رفض ضمني لهذه الثورة، تمظهر بداية باعتبارها احتجاجات محدودة، الى القول انها حرب اهلية، وصولا الى طي كل هذه الاسئلة والقول انها مؤامرة اميركية اسرائيلية وغربية، ومؤامرة “القاعدة” و”جبهة النصرة” على المقاومة والشيعة وتراث آل البيت ومقاماتهم المقدسة من العراق الى سورية وبالعكس.
تمكن حزب الله الى حد كبير من ان يُسوِق هذا الموقف داخل الطائفة الشيعية في لبنان ولدى جمهوره، عبر التعبئة الايديولوجية، واستغلال النزعة الاقلوية فيها، باثارة المخاوف والحساسيات المذهبية، والعمل على اعادة انتاج موقف يضمن التفاف الناس حوله.
لكن إحدى ابرز ثمار هذا “الانجاز” وهذا النمط من الثقافة والسلوك، هو عزل هذه الطائفة عن محيطها أولاً، ثم نقلها اليوم الى مرحلة الانفصال عن بيئتها. ومن معالم هذا الانفصال تفشي داخل هذه البيئة مفهوم ان العرب شيء آخر غيرنا. وهذا ما يؤكد ان ايديولوجية حزب الله في تبرير دعمه النظام السوري احدثت قطيعة مع الوجدان السني. قطيعة لم يعد قادرا على احالتها الى مؤامرة كونية، بل الى التعامي عن حقيقة ان في سورية شعب مظلوم ونظام ظالم.
لم يكتف الحزب بهذا ولم يقف على الحياد، ولم يعبر عن مخاوفه من مسارات التحول من موقع الناقد والحريص على ارادة الشعوب، بل وقف الى جانب النظام وانخرط في القتال الى جانبه. وبادل العصبية السنية لدى البعض بعصبية شيعية، وبادل التيارات السلفية بمزيد من تظهير الخصوصية الشيعية.
مهما حقق حزب الله للنظام السوري من عمر اضافي، فهذا لن يوقف عملية انكشاف مأزق حزب الله، الذي انتقل من ايديولوجي يتصل بمشروعه الى شيعي عموما: وهل يظنّن عاقل ان فلسطين ستحرر بغير الفلسطينيين، وسورية ستقوم بغير شعبها؟
سوريا هي الفاتورة الأعلى التي سيدفعها. لأنّ سورية ليست ممرّ أسلحة، بقدر ما هي ممرّ تاريخ جديد للمنطقة.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد