خاص بـ”الشفاف”- صنعاء
رغم أن حكاية تخليص المعلمة السويسرية سيلفا ابراهاردن التي اختطفت قبل عام من قبل مسلّحين قاموا ببيعها لتنظيم القاعدة، تتحدى الخيال والسينما إلا أنها لا تنتمي إلى جنس أدب الواقعية السحرية المرتبط بأمريكا اللاتينية؛ فهي نسجت من لحمة الوقائع الصرفة وسداها، ومُهِرت بتوقيع دولة قطر التي لعبت دور البطولة في الحكاية لتشهر عن جنس جديد من السرد تحت عنوان “قضاء وقطر”، وهو عنوان يكتنف، إلى حد بعيد، المرحلة الراهنة التي تمر بها اليمن والمنطقة.
“سيلفا ابراهاردن” معلمة سويسرية (36 عاماً) اختطفت من منزلها في مدينة “الحُديدة” غرب اليمن، حيث كانت تعمل في معهد اللغات العالمية، في 14 مارس 2012 ونُقلت إلى جنوب شرق اليمن في محافظة “شبوة”. وتزامن ذلك مع ازدهار عمليات الاتجار بالمختطفين الأجانب وقيام بعض الجماعات القبلية والأهلية المسلحة باختطافهم لبيعهم بأسعار متواضعة لتنظيم “القاعدة” الذي يحتجزهم ليفاوض السلطات أو الجهات الأجنبية عبر وساطات قبلية على تسليمهم مقابل مبالغ طائلة.
صباح الأربعاء 27 فبراير الماضي تفاجأ برج المراقبة في مطار “صنعاء” باتصال من طائرة قطرية خاصة تطلب الإذن بالهبوط دون سابق إعلام وتنسيق! غير أن اتصالات فورية مرتبة تكفلت بإعطاء إذن هبوط للطائرة التي كانت تقل سبعة من ضباط المخابرات القطرية قدموا أنفسهم على أنهم “رجال أعمال قطريين” كانوا يحملون سبع حقائب دبلوماسية يرجح أنها كانت تحوي مبلغ الفدية التي تم دفعها لـ”القاعدة” والوسطاء.
أقلتهم السيارات الخاصة التي كانت في انتظارهم من المطار إلى مكان مجهول داخل العاصمة صنعاء.
مساء اليوم نفسه (الأربعاء) عاد الرجال السبعة، “رجال الأعمال”، إلى المطار ودخلوا صالة المغادرة برفقة السفير القطري بصنعاء الذي أراد توديعهم شخصيا، وكان لافتا أنهم اصطحبوا معهم امرأة أجنبية. وقد أرادوا –هكذا- تخطي كافة الحواجز والإجراءات الروتينية والتوجه نحو الطائرة دون تقديم أية معلومات أو تفسيرات لرجال الأمن والموظفين المختصين في صالة المغادرة.
ببساطة، أرادوا إخراج المواطنة السويسرية بـ”التهريب” دونما مساءلة أو اعتراض، وكان واضحا أن السلطات الأمنية والرسمية الرفيعة في البلاد لم تكن على إطلاع بالأمر بحسب الوقائع اللاحقة!
لم يسمح السفير القطري بصنعاء لموظفي الجوازات بالمطار بحق الاندهاش والتفاجؤ مما يحدث أمامهم، واشتط غضبا من إعاقتهم واعتراضهم الخجول على ما بدا اختطافا لامرأة أجنبية كانت صلاحية جوازها قد انتهت قبل عام.
احتد السفير في وجوه الموظفين وانهال عليهم بالتقريع والتعريض والتحقير الجارح، مستنكرا تجرؤهم على اعتراض موكبه.
لم يكتفِ بتوبيخ الموظفين بالمطار والمنّ عليهم بتذكيرهم بما تقدمه دولته من مساعدات وأموال لليمن و…..الخ.
وراح يسترضيهم بـ(….) ورفضوا؛ ما أثاره أكثر ودفعه إلى إجراء اتصالات بالمراجع العليا في الدولة والأمن القومي.. إلى أن تدخلت جهات أمنية رفيعة وتفاجأت هي الأخرى، بالواقعة وبدا أنها لم تكن على علم مسبق بتحرير الرهينة السويسرية التي يُراد تهريبها وإخراجها من المطار بتلك الصورة.
استجابت الجهات المعنية، وهرع إلى المطار بعض النافذين ليسهلوا ترحيل السبعة ومعهم المعلمة السويسرية. وكان السفير القطري يعاتبهم ويلومهم على تأخير الوفد نحو ثلاث ساعات أو أقل، وقضي الأمر في دقائق معدودات؛ أقلعت بعدها الطائرة القطرية في رحلة محفوفة بالالتباس والغموض والكتمان الشديد.
وبدا واضحا أن القطريين صاروا يتعاطون مع اليمن كحديقة خلفية ويقيمون علاقات واتصالات وتواصلات خفية ومباشرة مع وسطاء قبليين وعسكريين نافذين، ومع “القاعدة”، ويديرون صفقات بما فيها صفقة إطلاق سراح “سيلفا” في مقابل 20 مليون دولار ذهبت منها 15 مليون إلى خزينة تنظيم “القاعدة” لتعينه على إعادة ترتيب أوراقه وأوضاعه المالية والتنظيمية فيما ذهبت الخمسة إلى جيوب الوسطاء، وقيل إن “أنصار الشريعة” المرتبطين بتنظيم القاعدة هم الذين تسلموا الفدية.
مصادر محدودة قللت من مبلغ (الفدية) وذكرت بأنه لا يزيد على 200 مليون ريال يمني.
… الواضح أن نجاح المساعي القطرية في الإفراج عن “سيلفا” جاء على خلفية فشل مساعي السلطات اليمنية، وقد جاء هذا النجاح بعد أن لجأت الحكومة السويسرية لدولة قطر التي دخلت على خط الوساطة واستعانت بوجاهات قبلية وعسكرية محلية من خلف ظهر الحكومة اليمنية قبل عدة أشهر.
في ليل الأربعاء 27 فبراير، وبالأحرى في الساعات الأولى من فجر الخميس 28 فبراير، كانت السلطات القطرية قد تهيأت لاستقبال المواطنة السويسرية بوليمة إعلامية في مطار الدولة بعد أن ضمنت ترحيلها من صنعاء بتكتم شديد.
كان وضع السلطات اليمنية أسوأ من وضع الزوج المخدوع حين يكون آخر من يعلم.
صناعة الاختطاف
في مطار الدوحة كان مساعد وزير الشؤون الخارجية القطري “علي بن فهد الهاجري”، ومعه سفير سويسرا غير المقيم لدى قطر، في استقبال المعلمة السويسرية. وفي المؤتمر الصحفي قال الهاجري للصحفيين: “إن الرهينة المحررة هي اليوم في قطر وبين أهلها حتى تعود إلى أهلها ووطنها”. ولم ينس المسؤول القطري التوجه بالشكر إلى وفد الوساطة القطرية الذي اشتغل بعزم وحكمة حتى تحققت هذه النتيجة الطيبة، وفي الأخير كانت له لفتة كريمة تجاه الحكومة اليمنية التي شكرها على جهودها وإعطاء هذه الفرصة من أجل مغادرة الرهينة المحررة”!
وفيما تضاربت المعلومات بشأن مبلغ الفدية التي دُفعت لتنظيم القاعدة؛ فقد أجمعت الكثير من المصادر على أن هذا الفعل يندرج في إطار ما يمكن أن يطلق عليه تطوير “صناعة الاختطاف”؛ خاصة وأن هذا المبلغ يصب في نطاق تغذية خزينة القاعدة ودعم شبكة الوسطاء من وجهاء القبائل والعسكريين النافذين الذين يستثمرون في مجال اختطاف الأجانب؛ وقد ازدهر الاستثمار في هذا المجال في الأعوام الأخيرة مع اختطاف مئات الأجانب وعلى خلفية ضعف السلطات المركزية بصنعاء وتزايد حضور “القاعدة” في جنوب البلاد وشرقها.
فيما خص الرهينة السويسرية كانت وزارة الخارجية السويسرية والحكومة السويسرية قد بذلت “جهوداً استثنائية” مع أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وولي العهد تميم بن حمد آل ثاني؛ بعد أن كانت شكلت خلية أزمة بإشراف الخارجية لهذه الغاية وأخفقت مساعيها مع الحكومة اليمنية في إطلاق الرهينة.
على صعيد متصل، تأخرت الحكومة اليمنية بضعة أيام قبل أن تتوجه بالشكر لدولة قطر؛ ولعل ذلك يرجع إلى أنها لم تستطع امتصاص صدمة المباغتة وجلافة التجاهل القطري الذي تقصّد عدم وضعها في صورة تدخله لإطلاق الرهينة، وبدا كما لو أنه يخشى من أن تدخل الحكومة اليمنية على خط الابتزاز على غرار الوسطاء من وجهاء القبائل والنافذين العسكريين.
في كل الأحوال تلقي حكاية “سيلفا ابراهاردن” ضوءا كاشفاً على الحالة اليمنية برمتها. فالقبائل وجنرالات الحرب يستقوون بهشاشة الحكومة وغياب الدولة ليرتزقوا من الخارج، والأحزاب والحكومة وكافة الفرقاء يستدعون الخارج ويتوسلونه ويعقدون الرهان على دوره وتدخله ويفتقرون إلى أية بدائل أو اقتراحات أو مبادرات تستهدف صياغة المجال العام وشكل الدولة بإرادة مستقلة.
إن هذا الحضور القوي للعامل الخارجي الذي فسح المجال لسفير واشنطن ليجعل منه الرجل الأول وجعل دولة قطر تسرح في الساحات والميادين وتعقد الصفقات مع “الثائرين والثائرات” ومع الوجاهات القبلية والرموز الدينية، وأتاح لإيران بأن تكون صاحبة صولات وجولات ومزار ومقصد لعشرات اليمنيين من أقصى شمال البلاد إلى أقصى جنوبها.
إن هذا الحضور القوي والكاسح للعامل الخارجي المتمثل في ارتهان معظم عناصر النخبة للسعودية التي تقوم بصرف مرتبات شهرية لأبرز القيادات الحزبية الكبيرة وعلى أكبر مشايخ القبائل وعشرات الصحفيين والدبلوماسيين والسياسيين والعسكريين، يقطع برخاوة الحالة السياسية اليمنية، ويؤشر إلى أن عناصر هذه الحالة ينتمون إلى فصيلة الرخويات فليس ثمة عمود فقري أو مفاصل وحلقات يمكن القبض عليها أو الإطلال منها لقراءة المشهد السياسي المضبب في هذه البلاد التي تتصارع فيها القبائل وتتقاتل وتبتز الداخل والخارج، وعلى غرارها تسير غالبية أشكال وألوان الطيف السياسي المتداخلة.
معظم الأشياء هنا تدخل في باب السلب والنهب والاختطاف بما في ذلك استحقاق الحوار الوطني، بل مؤتمر الحوار الوطني المرتقب في 18 مارس، فالجميع يتكالبون على مائدة الحوار بما هي مائدة لتقاسم الأسلاب والغنائم، ومائدة للوجبات الدسمة وإعادة تدوير اقتصاد الوجاهة وغسل الوجوه الكالحة وأصحاب السوابق.
المؤسف أن اليمن تفتقر حتى الآن إلى المراكز والمؤسسات التي ينبغي أن تبحث في أسباب كل هذا الحضور الخارجي المتغول، وفي العطالة السياسية المتطاولة، وفي سر أن يكون السفير الأمريكي هو الأصل، وفي أن تكون ثورة (الربيع اليمني) “قضاء وقطراً”، وفي البنية والتاريخ والثقافة واللغة التي تستحضر الخارج قبل أي شيء آخر.
mansoorhael@yahoo.com
منصور هائل هو رئيس تحرير صحيفة “التجمّع” في صنعاء
“سيلفا” السويسرية تلقي ضوءاً كاشفاً على الحالة اليمنية: قضاء وقطر
http://www.barakish.net/news.aspx?cat=12&sub=11&id=46475