أقرأ باللغتين العربية والإنكليزية كل ما تقع عليه يدي من كتب عن ربيع الشعوب العربية. أغلب ما يكتبه العرب يتمثل في مذكرات وشهادات شخصية. ومن أطرف ما قرأت، مؤخراً، كتاب “أسرار وحقائق من زمن القذافي“، الصادر عن “المجموعة الدولية للنشر والتوزيع” (2013) الذي كتبه وزير سابق للتعليم في عهد القذافي، واسمه عقيل حسين عقيل، وقد أضاف إلى الاسم صفة الأستاذ الدكتور على صفحة الغلاف. وهي إضافة لا تبشر بالخير، إذ يستنكف الأساتذة “عن جد” عن وضع صفات كهذه على مؤلفاتهم إلا إذا كانت نصوصاً مقررة على الطلاب.
على أية حال، يتكون الكتاب من خمسمائة صفحة بالتمام والكمال، وهذا حجم هائل لا يمكن تبريره إلا بوجود الكثير من الأسرار والحقائق، وما يوازيها من التحليل. ومن المؤسف أن الكتاب لا يضم أسراراً ولا حقائق، بل يتجلى في صورة مرافعة طويلة ومُرهقة من جانب شخص يريد التدليل على نصاعة تاريخه الشخصي، وعلاقته المتينة بمعارضي القذافي، على الرغم من حقيقة أنه كان في وقت ما جزءاً من النظام، وأن علاقات قوية، حتى اللحظة الأخيرة، ربطت بينه وبين أركان في النظام مثل عبد الله السنوسي. واللافت للنظر، حرصه على تأكيد العلاقة الخاصة والمتينة بينه وبين قيادات إسلامية في المعارضة الليبية، قبل الثورة، وفي الثورة، وبعدها.
ويمكن، بطبيعة الحال، غض الطرف عن هذا وذاك. بيد أن ما يستحق التدبير والتفكير يتجلى في الأخطاء اللغوية والإملائية، وركاكة التعبير، والانتقال غير المبرر من موضوع إلى آخر، وسرد النوادر على طريقة “كليلة ودمنة” للتدليل على هذه “الفكرة” أو تلك، وهذا كله في إطار معادلة “فلسفية” غامضة أطلق عليها تسمية المتوقع واللامتوقع، وأعترف بأنني لم أفهم منها شيئاً، وهي على الأرجح بقايا أركيولوجية من ثقافة “الجماهيرية”.
لم يقل أحد إن من شروط الرياسة والسياسة أن يكون هذا صاحب المنصب العام أو ذاك ماهراً في التعبير والإنشاء، وفي فنون النحو والصرف والإملاء. ومع ذلك، تتجلى أهمية مهارات كهذه إذا أصر المعني على امتهان الكتابة. وفي السيرة التي ذيل بها الأستاذ الدكتور كتابه نجد أنه أصدر خمسة وسبعين “كتاباً”، ومنها ما ذكره في ثنايا الكتاب.
مهما يكن من أمر، وحتى مع عدم وجود أسرار وحقائق يعتد بها، ومع المرافعة الشخصية، التي يصعب التحقق من دقة تفاصيلها، إلا أن الكتاب يمكّن القارئ من استراق النظر إلى بعض خصائص “النظام” الجماهيري، الذي أنشأه العقيد، وإلى الشخصيات الرئيسة التي احتلت المشهد العام في ليبيا على مدار عقود طويلة، في الحقل السياسي والثقافي.
تتجلى في الكتاب، ودون إرادة الكاتب الذي لم يلتفت إلى أهمية أمر كهذا، حقيقة أن البنية الأساسية للنظام، وللعاملين في الحقل السياسي والثقافي، استندت إلى شبكة العلاقات العائلية، وإلى النسب القبلي الحقيقي، أو المُفتعل. ويمكن بقليل من التفكير الوصول إلى خلاصات من نوع أن صعود هذا الشخص أو ذاك، ومدة البقاء في هذا المنصب أو ذاك، اعتمدت على ما تشهده شبكات كهذه من قرب أو بعد عن شخص القذافي وأولاده.
وفي هذا السياق يبدو أن الكاتب كان قريباً من سيف الإسلام القذافي، بدليل ما يذكره في ثنايا الكتاب من لقاء مع المذكور بعيد اندلاع الثورة الليبية، حين عرض عليه الانقلاب على أبيه، وتولي مقاليد الحكم. وبالقدر نفسه يبدو أن الصلة الوثيقة بعبد الله السنوسي، الركن الأمني للنظام، اعتمدت على علاقات عائلية وقبلية قديمة ومتجددة.
ومع كل ما قيل عن الكاتب والكتاب إلا أن بعض الطرائف تستحق الذكر، وفيها ما يهم المؤرخ، وعلماء الاجتماع والنفس، والفنان المولع بالفنتازيا. من الطرائف التي يذكرها الكاتب سفر البغدادي المحمودي، رئيس وزراء القذافي،، وبطلب منه، إلى موسكو بعيد اندلاع الثورة، لمقابلة فلاديمير بوتين، رجل روسيا القوي، وطلب يد كريمته زوجة لسيف الإسلام. وفي ذلك اللقاء، كان المحمودي حريصاً على إفهام بوتين بأن موافقته على الزواج تعزز العلاقة بين عائلته وعائلة القذافي، كما وتعزز العلاقة بين الشعبين الليبي والروسي، ما يفتح الباب واسعاً أمام الشركات والاستثمارات الروسية، ناهيك طبعاً عن الهدايا المالية المصاحبة لطقوس الزواج حسب “التقاليد” العربية. المهم أن البغدادي عاد خائب الرجاء.
طرفة ثانية تتعلّق بمهارات العقيد التفاوضية، والشروط التي طرحها على معارضيه للخروج من الأزمة بعيد اندلاع الثورة، أنه اقترح على لسان مبعوثيه إعلانه إمبراطوراً على ليبيا، مقابل التنازل عن صلاحياته لابنه سيف الإسلام، وبرر هذا الاقتراح بالقول إن اليابان دولة متقدمة وعلى رأسها إمبراطور، فما الذي يمنع وجود إمبراطور في ليبيا.
لا أعرف ما إذا كانت الطرائف المذكورة صحيحة أم من نسج الخيال. ولكن، حتى وإن كانت من نسج الخيال، فإن في سيرة العقيد القذافي، وولعه بالألقاب، وشطحاته الكثيرة، ما يجعل من مهمة تكذيبها أمراً بالغ الصعوبة.
أخيراً، كل ما في الأمر أن خمسمائة صفحة من النوادر والقصص على طريقة كليلة ودمنة، لم تحقق مبدأ الإمتاع والمؤانسة، ولم تكن شهادة على عهد زاد عن أربعة عقود، بقدر ما كانت مرافعة شخصية للخروج من زمن والدخول في زمن آخر. وما عدا ذلك يحتاج إلى قراءة أكثر جدية لمأساة عربية وليبية مسكونة بالكوميديا السوداء اسمها معمر القذافي. المهم، الآن، أن القذافي لم يصبح إمبراطوراً، وأن بوتين لم يُزوِّج ابنته لسيف الإسلام.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
بوتين لم يُزوِّج ابنته لسيف الإسلام..!!
الشيء الذي يُحزن القارىء العربي عندما يقرأ لأي كاتب عربي أنه يرى الكاتب يتحدث عن بلد ما وعن رئيس ما وعن عادات وتقاليد شعب ما وكأنه أحد أفراد هذا الشعب، أنا عشت جزء من حياتي في ليبيا، فلا الكتاب يُعبر عن ليبيا ولا كاتب هذا الموضوع نجح في سرد ولو معلومة واحدة لها صدقية على أرض الواقع….
الله يعين هالأمة على جهلها…..