تبنت قيادة “تيار المستقبل” خطاباً عابراً للطوائف لكن الخشية هي في امكان التراجع عنه اذا لم يحسم امر قاعدته الشعبية: مدنية ام اقرب الى السلفية؟
الأحزاب اللبنانية هي أحزاب طوائف وذات هوية دينية ومذهبية، من حزب الكتائب إلى القوات اللبنانية الى الحزب التقدمي الاشتراكي الى حركة أمل إلى “حزب الله”… الى التيار الوطني الحر الذي تحول من تيار مدني من المفترض أنه غير طائفي الى أكثر الأحزاب دفاعاً عن “المسيحيين” الى حد تبني قانون الانتخاب المسمّى الأرثوذكسي والذي يلغي فكرة المواطنية نفسها ويقضي على لبنان – البلد العربي الوحيد حيث رئيس جمهوريته مسيحي!!- من حيث هو دولة مدنية في تعريفه، ويحول الناخبين الى منتمين لمذاهب لا غير، في نكوص مذهل عن مفهوم “مواطن” تحت غطاء “تمثيل مسيحي حقيقي”!!
شكّل “المستقبل” تياراً سياسياً سنياً فضفاضاً ولم يتحول الى حزب إلا اخيراً وبسبب اغتيال الشهيد رفيق الحريري الذي كان في الممارسة أقل مذهبية من غيره، بمعنى ان المؤسسات التي أرساها كانت منفتحة على توظيف مواطنين مختلطين تماماً مثل المنح المدرسية التي طاولت مختلف الاديان والطوائف.
مع ذلك كان “المستقبل” يمثل السنية السياسية كتيار له أضخم كتلة من النواب السنة في البرلمان حتى التطورات الأخيرة التي أبرزت التيارات السلفية المرشحة لأن يجعلها مجرى الأحداث في سوريا الأقوى على الساحة.
لكن يبدو أن القيادة “المستقبلية” قد حسمت امرها، وهي تجهد ولو متأخرة لأن تكون عابرة للطوائف، فهي مع دولة مدنية مواطنية “انتي”– عنف، و”انتي” تعصب مذهبي، و”انتي” سلفية. أهمية هذا الخيار أنه اتخذ في اللحظة التي يتصاعد فيها الصراع السني – الشيعي على طول المنطقة وعرضها وينذر بالانفجار في لبنان بسبب الأحداث السورية وفي الوقت الذي تأخذنا فيه الأحزاب الطائفية إلى دائرتي التشرذم والانغلاق مضخّمة هواجسها ومخاوفها؛ ومتى؟ في زمن الثورات العربية، التي ستتمخض آجلاً أو عاجلاً عن مواطن عربي مدني بامتياز. وبدل أن نساهم في تقديم النموذج الديموقراطي المطلوب من بلد متنوع وتعددي كلبنان نجده يؤخذ نحو المزيد من التعصب والتطرف.
في هذا الوقت أعلن سعد الحريري أنه مع الدولة اللبنانية المدنية والمواطنية الحديثة التي تعترف بحقوق النساء ومع حق الانتخاب لمن بلغوا الثامنة عشرة، قابلاً للنسبية وللامركزية الادارية مغلباً الاعتدال على التطرف السائد دون أن ينسى النهوض بالاقتصاد. جعل من حزبه حزباً لبنانياً “أولاً” مدنياً ومنفتحاً غير متمسك سوى بالسيادة والاستقلال وبالحفاظ على الحريات.
وفي ظل غياب “البرامج” عن طروحات الاحزاب ونضالهم لتحقيق مصالح “مذاهبهم” نجد أن الحريري قدم نوعاً من برنامج عمل لمرشح لرئاسة الحكومة. وهو أفضل ما حصل عليه المواطن اللبناني حتى الآن.
ما يجعل السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل لا يزال تصنيف “المستقبل” كحزب مذهبي ساري المفعول بعد المواقف المواطنية الشجاعة التي اتخذها سعد الحريري في إطلالاته الأخيرة؟
وبغض النظر عن توقيت هذه الخطوات التي ربما كان من الأفضل لو أنه تم تبنيها منذ انتفاضة الاستقلال فإن هذا لا يمنع انها صارت الخيار السياسي لهذا التكتل، مع خشية بالطبع من إمكان التراجع عن هذا الخطاب إذا لم يحسم امره أي قاعدة يريد: القاعدة المدنية أم القاعدة الأقرب الى السلفية؟
لكن اللافت أن هذا الاعتدال قوبل بالمزيد من التطرف من الأفرقاء الآخرين والمزيد من “شيطنة” صوت الاعتدال السني الوحيد. بينما في المقابل يمعن “حزب الله”، الذي يعاني من فائض ثقة بقدراته، بمزيد من الانخراط في الصراع السوري الداخلي الأمر الذي ينذر بعواقب وخيمة، وما قد يدفع بالسلفية السنية نحو احتمال خيارات عنفية تأخذ لبنان الى دوامة عنف جديدة.
وبدل أن تلتفت الحكومة إلى حماية حياد لبنان عن الأحداث السورية والالتفات الى حاجات الناس ومطالبهم ومصالحهم المهددة على أكثر من صعيد، نجدها تنخرط في نقاش قانون انتخاب سوف يؤدي في أحسن الاحوال الى تأجيل الانتخابات، متجاهلة تماماً للمكوّن الأساسي ألا وهو “المواطن” الذي وصلت درجة احتماله الى الصفر الأمر الذي تنبئ عنه حركة الاعتراض الآخذة في التصاعد.
الغريب حقاً أن لا يتم تذكر نقاش قانون الانتخاب، المتغير باستمرار ومع كل انتخابات جديدة، سوى قبيل الانتخابات لوضع البلد والشعب تحت سلطة الأمر الواقع ما يسمح للنواب بالتجديد لأنفسهم. إن ما يجري هو نتيجة لمصالح انتخابية ضيقة كي يتم التجديد لطبقة سياسية خائفة من نتيجة الانتخابات نفسها.
وإذا كان “المستقبل” قد حدد خياراته فإن هذا لا يفضح فقط الأحزاب المذهبية الحاكمة بل يطرح التحدي أيضاً على مكونات المجتمع المدني الذي عليه أن يدافع عن مصالحه الحيوية بدل التفرج بصمت على ما يجري تحت أقدامه. إن الديكتاتوريات لم تقم إلا بفضل جبن الجماهير وخوفها. وفي بلادنا أيضاً يقال: ان الساكت عن الحق شيطان اخرس.
ليس هناك سوى الاعتماد على حراك الرأي العام والصحافة والقوى الاجتماعية المتضررة والوسطيين في السلطة وعلى الجيل الشاب الذي دافع عن الزواج المدني وعلى جمهور 14 آذار الاستقلالي لمقاومة هذا القانون الذي ينقل الصراع الى داخل الطوائف! لجعل الهيمنة للأقوى فيها وللمتطرف . الضغط يجب أن يتم من اجل إجراء الانتخابات في موعدها باعتماد مشروع القانون الذي اقترحته لجنة فؤاد بطرس، فهو أكثر المشاريع تعبيراً عن التوافقية.فهل يكون موعدنا في ذكرى 14 آذار للعودة الى المطالب السيادية الجامعة والمطالبة بالعمل على إجراء الانتخابات في موعدها والعمل على تطبيق الطائف والمطالبة بالدولة المدنية التي يعد تسجيل الزواج المدني أول الغيث للتوصل اليها، والمطالبة بحقوق المواطنين بالعيش الكريم؟
من المعيب أن نرضى بهذه المهازل التي تحصل تحت أعيننا دون أن نتمكن من عمل شيء، المواطنون المدنيون ليس لديهم حزب، لكن لديهم وسائط الاتصال الحديثة ولا عذر لمن يصمت لأنه سيكون مساهماً في الذهاب الى التفتيت.
monafayad@hotmail.com
جامعية لبنانية
نُشِر في “قضايا النهار”