من مخيم اليرموك، وفي طريقها الى القاهرة، مكثت أم ابراهيم ثلاثة أيام في بيروت. كانت هاربة، هي وبناتها وحفيداتها، من المخيم حيث اشتعلت نيران الصراع وباتت تهدّد أخضره ويابسه. بالكثير من الحنين تروي أم ابراهم قصة هروبها الأول، من قريتها الفلسطينية… ترتسم الابتسامة على وجهها التعِب، تقول: “رزق الله على تلك الأيام…. قريتنا، القريبة من حدود بلادكم، هاجمتها عصابة صهيونية وقتلت ثمانية عشر رجلاً منها. لم يتحمل الناجون البقاء لحظة واحدة فيها. حملنا مفاتيحنا وصررنا والقليل من ذهبنا وسافرنا الى لبنان… استقبلنا أقاربنا البعيدون، أولاد أولاد عمة أمي. كانوا مرحّبين وكرماء… يسكنون في الشمال، بالقرب من طرابلس. كان لبنان جميلاً. نظيفا، مرتباً، أخضر… عشتُ هناك ثمانية أشهر. وبعد ذلك انتقلنا الى مخيم كان استحدث في البقاع لإيوائنا. ولم تمضِ اسابيع حتى تعرّفت الى شاب له أقارب في سوريا. كان من نصيبي… تزوجنا هناك وانتقلنا الى دمشق حيث عشت في مخيم اليرموك حتى هذه اللحظة…”.
تقول كل هذا بالكثير من الحنين، كأن النكبة الأولى كانت نزهة، ذكرى جميلة، تقيسها بما شاهدته، ما عاشته، ما سمعت عنه، هي وحدها، مع بناتها وحفيداتها. ذلك ان أم ابراهيم يمكن اعتبارها، ولو نسبياً، من اللاجئين الممتازين مقارنةً بما يقاسيه السواد الأعظم من السوريين، وأكثر منهم الفلسطينيين، من النكبة الجديدة التي لم تَعُد تحتاج حتى أن ترتسم في الأفق.
ليس القصد هنا مجرّد مقارنة بين الوحشيتين، الصهيونية والبعثية؛ إنما الاعتماد على النكبة التي تسبّبت بها الأولى، لتقدير الحجم غير المتخَّيل حتى الآن، للنكبة الثانية التي أحدثتها الوحشية البعثية.
الأوجه الواضحة لهذه النكبة الجديدة، حتى هذه اللحظة، من دمار للحياة والروح، للحياة العامة والعائلية والشخصية، للإقتصاد والبيئة والعمران والبنى التحتية. دمار للأرواح بازهاقها أو جرحها أو إماتتها وهي حية، بعمق ندوبها، بانتشار مآسيها، بانتقال عدواها إلى ما بعد حدودها، بانخراط من هم خلف هذه الحدود في حربها، خصوصا العراق ولبنان. بتهديدها لديموغرافيات هذه البلدان، بانتشار عنفها المنظَّم ضد النساء، بالزيجات الرهيبة مع نازحات قاصرات وغير قاصرات، بالاغتصابات، بالابتزازات، بالتداخلات، بانهيار منظومات بعينها، القيم، العمل، الصحة.
واذا لم يفضِ كل هذا الى حرب عالمية ثالثة، كما يتوقع البعض، يمكننا استحضار مصائب سفر برلك، قبل نكبة فلسطين… لنتصور كيف تكون الحروب في أفضل أحوالها… اذا لم ينتهِ الأتون، أو يعود بزخم أقوى…. اذا سقط بشار الأسد، وتحقق المطلب المحوري لكل المعارضات السورية، فان العقل يملي علينا بعدم توقع إلا المزيد من الصراع، وإن مختلفاً: على جبهة الانقاذ الانساني، سوف يتلوّع السوريون من الممولين الذين وعدوهم بالمبالغ. هذا اذا لم يكن الفساد قد أهدر معظم الأموال “الواصلة”، أو اختفت أخرى…
السوريون صاروا الآن أقسى، لما قاسوه. وهذه جبهة نفسية جماعية، لن تعالجها إنجازات سريعة، يراها كل طرف مختلفة عن الأخرى. فالانقسام بين الذين سوف يتولون الأمر بعد بشار واضح من الآن، ومتعدد المشارب والتوجهات: بين مسلحين إسلاميين وآخرين غير إسلاميين، بين مسلحين إسلاميين أنفسهم، بينهم كلهم وبين “القيادة السياسية” الموزعة، على الأقل على أربعة أطراف رئيسية؛ لا نعرف الكثير عن الأطراف “الفرعية”، ربما تكون مضاعفة… عن الصراع بين الطوائف، الذي لن يكون متكافئاً، عن الثارات، عن “التسويات”، عن تصفية الحسابات. وما يؤججها، من أسلمة. لا يدخل التأسلم مكاناً إلا وصعدت معه العصبيات الطائفية-المذهبية.
صراعات مركّبة، عشوائية، شغوفة، مقنّعة، مرمّزة بالهوية والتاريخ، بخيوط عريضة أو دقيقة. تجري في نهر الحرية المتوحشة، تديرها الفوضى الجديدة، التي لم تكن قد ألغت القديمة منها. فوضى مضاعفة، لها قوة القفز عن حدودها وتجيير مصير جيرانها لصالحها. فوضى غامضة، توقظ، بالخوف الذي تبثّه، طاقات العنف النائمة.
لا يقصد كل هذا القول تثبيط همم الثوار السوريين، أو المتعاطفين معهم. إذ ما زالت الثورة السورية ثورة، انطلقت كثورة. أي كفعل إرادي حرّ. وما زال هناك ثوار سوريون. لكن حظوظ تاريخية وأقدار استثنائية مكّنت بشار من تحويلها الى نكبة. من دون نفي مسؤوليات الانزلاقات، هنا شيء يشبه الحتمية في هذا التحول. شيء يستدعي التاريخ، والجغرافيا، ويستنفر قدرتنا على الفهم.
أولى النقاط التي تثيرها كل هذه الملاحظات تعيد النكبة الأولى الى الأذهان. عندما كانت أم ابراهيم تتذكر الثمانية أشهر الممتعة التي قضتها في لبنان إثر تهجيرها من فلسطين… كانت تصف، أيضاً، عصراً ومناخاً مختلفين عن عصرنا. كانت البيوت أوسع، والقرابات أرحب؛ وشيء من النظافة كانت تتنشّقه أم ابراهيم في الهواء. وعندما عادت الى لبنان ثانية، منذ بضعة أشهر، كان لبنان مجرد محطة محطمة، ومنها الى القاهرة، التي لا تقلّ خراباً. فهي حتى الآن لم تنل، لا هي، ولا بناتها ولا حفيداتها، أوراق الإقامة في مصر؛ عوملت هناك كفلسطينية… تحمل على اكتافها الهرمة ندوب النكبة الاولى.
أما النكبة الجديدة، فتغنيها تماما عن الكلام. لا تعرف ماذا تقول، ماذا تعّدد، ماذا تشكو، عن أبناء توزعوا في انحاء المعمورة كلها… عن بيتها في اليرموك… عن قتلى المخيم، عن جيرانها. وهي بعد كل ذلك محظوظة. فوق رأسها سقف، وعلى جوانبها حيطان، ولا ينقصها الحرامات أو السكر أو الطحين أو دواء السكّري… لم تفقد أبناءها أو أهلها أو عقلها أو حتى قدرتها على الابتسام… عندما تتذكر لبنان عام 1948، عام النكبة.
النكبة لم تعد حكراً على الفلسطينيين. بات لزاما علينا، عندما ننطقها، ان نضيف اليها الصفة؛ القديمة أم الجديدة، الفلسطينية أم السورية. والنكبة السورية، فضلاً عن عصرها، أقل رحمة، أقل بساطة، أقل تموْضعاً… من النكبة الفلسطينية.
رحيل بشار، أو “تسوية” سوف تغلق مرحلة من الصراع، أو نوع من الصراع. من بعده، صراعات شتى. معطوفة على مصائب ليست معروفة حتى الآن دقة هولها. ولا مدى توطن بعضها خارج سوريا. لا يهمّ أن نبدي تفاؤلاً أو تشاؤماً بهذا الخصوص. انه تفاؤل باندلاع صراعات كان يجب ان تُخاض منذ عقود. ولم يكن ممكناً للدولة الأسدية ان تظل ممسكة بأقفالها. انه تشاؤم بالتكلفة الزمنية والبشرية والانسانية التي سنتكبّدها، نتيجة تلك الصراعات. والتي لم يعد من الممكن تفاديها أو التغاضي عنها.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل