من يتذكّر أنه، في العام 1996، قال المفتي محمد رشيد قباني ما يشبه قوله، هذه السنة، عن الزواج المدني؟ يومها، ردّ المفتي على مشروع رئيس الجمهورية، الياس الهرواي، بأن الزواج المدني هو “خروج عن الشريعة الإسلامية”.
صحيح أن ما أفتى به قباني اليوم حول المسألة نفسها أكثر حدّة مما صرح به منذ سبعة عشر عاماً. إذ ألصق صفة “الردّة” على كل من يوافق، من “المسؤولين” المسلمين، على مشروع هذا الزواج؛ وفصّل قليلاً في واحدة من أحكام الردّة، والقاضية بحرمان هؤلاء المسؤولين من طقوس الموت الدينية: “لا يُغسل ولا يُكفن ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين”. لكن الحدّة هذه، هي ابنة المناخ الإسلامي الآخذ طريقه الى قلوب وعقول أبناء رعيته. وهي، على العموم، ليست إلا حدّة شكلية. فالشريعة الإسلامية، وفقاً لما أعلنه المفتي عام 1996، تملي هكذا عقوبات، وأكثر…
ولكن الفارق الأساسي، بين الأعوام الخوالي وبين الآن، هو في الوتيرة فقط؛ منذ ما يقل عن عقدين، دامت الحملة المدنية والسياسية من أجل مشروع الزواج المدني، أكثر من ثمانية أشهر؛ فيما الحملة الآن في طريقها الى التجميد، أو الاحتجاب، قبل أن تبلغ الأسبوعين من الحياة.
فلنتأمل قليلاً بما سبق الزواج المدني من قضايا، ما ترافق معها، وما ينذر بأنه سوف يلحقها: الموقوفون الاسلاميون، المخطوفون في سوريا، باب التبابة وبعل محسن، سلسلة الرواتب والأجور، الكهرباء… طبعاً، ومعها المشروع الأرثوذكسي، الأبنية المتساقطة، جورج ابراهيم عبدالله، العنف المتصاعد ضد النساء، عنصرية اللبنانيين، الاغتيالات السياسية، الأدوية واللحوم الفاسدة، إسرائيل، الخطف مقابل فدية، “الشيخ” أحمد الأسير في الثلج أو في طرابلس، عشيرة آل المقداد، حزب الله وبلغاريا، عرسال…. المضاعفات، الإنسانية والاستراتيجية والسياسية للثورة السورية، وتفاصيلها المتوالدة….
في خضم السجال حول مشروع الزواج المدني، كانت أكثر الأصوات لفتاً للانتباه هي تلك التي تتساءل عن “التوقيت” و”الأولويات”. وتتلخّص بصرخة أحدهم، وهو مؤيد للزواج المدني، إن كان المهم الآن ذاك الزواج أو “تأمين الكهرباء”… آخر لم يعجبه الطرح “في هذا الوقت بالذات”، حيث “تتربص الأخطار الإقليمية”….
كل هذا للقول، وبصرف النظر عن تأييد مشروع الزواج المدني أو رفضه، بأن مرض النسيان تفاقم على الخشبة اللبنانية. الموضوع، “الحيوي” دائماً، “المزمن” أبداً، يظهر فجأة على خشبته، يحدث ضجة وصخباً ونقاشات وحملات وعواطف ودراسات وإحصاءات واستطلاعات رأي، وفايس بوك… غالبها قديم مجدّد، أو جديد ركب على قديم. وكلها أكثر استفحالاً وتعقداً مما سبق…
التمرين الذهني الوحيد للاحاطة بهذا التكرار للظهور، هو إحالة الذاكرة على شيء من الماضي، للمقارنة ربما، أو لمجرد التذكّر؛ ولكن ما أن يكون العقل قد باشر تمريناته، حتى يظهر موضوع جديد- قديم، ينافسه، يزاحمه، يحجبه، ينفيه، يجمّده، ينوّمه…
والنتيجة حالة سياسية لا تجدها ربما في أي بقعة في العالم، حتى في أكثرها اشتعالاً أو تذرراً. وقوام هذه الحالة: الهامش الواسع بين كل قضية مطروحة، بحيويتها وخطورتها، بل “نجوميتها”، من جهة، وبين سرعة “معالجتها”، التي تكاد تكون مخطوفة، فضلاً عن انعدام التراكم حولها، ثم انطفاؤها بسرعة بزوغها نفسها. بعدما يكون أطراف الانقسام الوطني صادروا ما يناسبهم، في هذه اللحظة فقط، من القضايا، وعادوا فأطفؤها، أو نثروا عليها التراب، بناء لاعتبارات نصف مباح عنها. كانت تعيش القضية سنوات، وبعد ذلك أشهر. والآن، صار معدل الوسطي لعمرها أسبوع أو إثنين. الآن، اندفعت وتيرة الزمن، واستفحلت القضايا التي تراكمت، المزمن منها أكثر من الجديد، أو بقدره. طريقة تناولها تشبه شرائط الكليب الغنائية، حيث لا ترى ملامح بطلته إلا خطفاً كالبرق، ولا تسمع من المعاني المغناة غير السطحي… عند هذه الحدود يتوقف الشبه.
أما الباقي، فهو طبقات من القضايا، كل طبقة بزمن، بعقدة، بمعضلة؛ ثم وطبقات من الملفات والاستعصاءات لكل قضية. بعضها يعود الى تأسيس لبنان، والبعض الآخر الى الحرب الأهلية، وما تلاها… ولا واحدة منها قُطع من أجلها خيط، ولا واحدة منها أخذت طريقها الى التبلور، أو الفهم، أو التخطيط، أو التحرّك أو التفاعل… إلا قضية واحدة ما زالت حيّة: ذاك الانقسام الوطني الواضح، الحاد، الديناميكي، الذي لا ينام ولا يموت…
من ينظر الينا من بعيد، يقول إننا شعب “غير منهجي”، لا يعرف معنى الأولويات. من بعيد، يرى أننا غائصون في قلب مستنقع من الكلمات والشعارات والملفات غير المبتوتة. لا يفهمون المسرح اللبناني. تعقيدات فائضة، يقولون. ويعودون فيصفون “دورة” القضايا، من مهدها وحتى أفولها، ويتعجبون….
السبب؟ هل من سبب جوهري، غير إرادة اللبنانيين و”منهجهم”؟ سبب موضوعي يعطي بعض المعنى لهذا الفشل السياسي اللبناني الذريع؟ والمتمثل في العجز عن تناول حقيقي للقضايا التي تعنيهم، حتى المعيشية، أو “البلدية” منها؟ خصوصاً أن هذه القضايا تراودهم بحملاتها، كل قضية ببرهة؟
“البوصلة السورية”، قد تكون وجه من الجواب: بفقدانها، أو باحتضارها، زاد عدد القضايا، جديدها ومزمنها، واستفحلت خصوصاً مسألة الأولويات. في ظل الوصاية السورية كان للقضايا خيط، ديماغوجي، اقتصادي، “ممانع”… الى ما شئت من أصناف. وكان “منهج” القضايا أقل عشوائية. كان منهجا “مسؤولاً”. بخروجها من لبنان وبثورة شعبها ضدها، اهتزت البوصلة السورية، ومعها لبنان، وبدا اللبنانيون كأن الوصاية كانت لاجمة لجنوحاتهم المجنونة.
جنوا لأنهم ليسوا ملك أنفسهم. لا يعرفون كيف يديرون بلادهم بمفردهم. “ارتباطاتهم الخارجية”؟ طبيعة النظام؟ الطائفي المكروه ليلاً ونهاراً؟ الذي يلعنه الجميع بلا استثناء… مسؤولون ومواطنون؟ كأنهم يفسرون الماء بالماء؟ لاحظ أنها أم القضايا هذه، قضية النظام السياسي المعتمد، والذي تكوَّن لبنان واللبنانيون على أساسه. ومع ذلك…
وما يزيد جنونهم هو تلك المواكبة الغريبة للثورات العربية؛ الكفيلة بمضاعفة عدد الملفات، من دون التمعّن بها، ولا الالتفات إليها… إلا وقت قفزها على الخشبة. فتكون شحنات الغضب الكهربائية تلك، التي تفوّر الدنيا، تسيل لعاب أبطال الملفات، فيشنّون الحملات ويكتبون المقالات ويقطعون الطرق ويهددون ويرعبون ويحرقون الدواليب ويملأون الشاشات ويعتصمون. أحياناً يضربون أو يتظاهرون، وأحياناً أخرى يطلقون النار، يشتبكون. ثم بلمحة بصر يلوذون الى الظل، مفسحين المكان لقضية أخرى وأبطال آخرين….
إنه المسرح اللبناني. لا صفة العبث تحيط بتفاصيله، ولا صفة السوريالية، ولا التراجيدي ولا الكوميدي… إنه شيء من كل هؤلاء. إنه مسرح الخفّة التي لا تُحتمل.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل