صعدت إلى سيارة السرفيس قرب السائق، كان يشغل المقعد الخلفي راكبان، لم يلفتا نظري كثيراً ولم أنتبه لهما. توقف السائق قرب فندق متوسط ونزلا من السيارة: فتاة بصحبة شاب.
تململ السائق في مقعده، لديه رغبة بالكلام أو تعليق يريدني أن اسمعه، في الحقيقة لم أشجعه كثيراً لأني كنت مشغولة بالتفكير في موضوع معين وخاصة أني عائدة من اعتصام من أجل المؤرخ والصحافي سمير قصير الذي اغتيل وألغي كيانه الجسدي (طالما أن الجسد هو اهتمامنا) بسبب أفكاره. لكنه بدا مصراً على الكلام فأخبرني مستنكراً شاتماً (ليس بوقاحة) جيل الفتيات الجديد وأخبرني أن الفتاة التي كانت جالسة في الخلف أثارت حفيظته لجهة ابتذالها وتمايلها وتعليقاتها السافرة قليلة الحياء وتعلقها بمرافقها الشاب وملاطفته وملامسته وإثارة غيرته إثر تعليقاتها عبر زجاج السيارة على بعض شبان تصادف وجودهم على الطريق واصفة إياهم أنهم “حلوين..”..
واخيراً لم ينسا أن يخبرنيا أن هذا الشاب هو “صاحبها” وليس عليّ أن أظن أنه خطيبها..
علقت بشكل شبه محايد لكي لا أصده كثيرا- لأنني انا ايضاً لا أحبذ استعراض العواطف بطريقة مبتذلة – هذا إذا كان كلامه صحيحاً وهو بدا كذلك لشعوري بتوتره وعصبيته الحقيقيين.
قلت اكتفينا بهذه الجرعة اليوم، لكن كان صاحبنا لا يزال يحمل في جعبته أخباراً أخرى، فقال لي:” منذ حوالي الشهر ركبت معي فتاة، أوصلتهاإالى حي السلم (حي شعبي في الضاحية له طابع إسلامي متدين)، وأثناء الحديث سألتني هل آخذ طلبات تاكسي وأجبتها بالإيجاب فأخذت رقم هاتفي..اتصلت بي أمس لآخذها من الجامعة وبادلتني الحديث فأخبرتني أنها كانت على علاقة بشاب وتخاصما وسوف تعاقبه وتتركه. وأكمل أنها أخبرته في سياق الحديث أنها أقامت علاقة معه أي “خرجت معه” استفسر منها يعني “نمت معه؟” قالت أجل.
تطلّع اليّ مستنكرا باستغراب، محتاراً ومتوتراً يكاد لا يهدأ على كرسي القيادة: “تصوري تخبرنيأانها امرأة هكذا من دون أي ندم؟ مش فارقة معها؟ ما رأيك؟ وكربس لاعناً جيل هذه اأايام وتصرفاته مستغرباً وجود نماذج من الفتيات أمثالها..
خففت عنه واحترت ماذا أقول له؟ “طوّل بالك، ربما كانت تحاول مغازلتك!” لم ينتبه كثيرا لما قلتً، لم يكن في وارد أي نوع من علاقة معها. وأخبرني أنه لن يرد عليها إذا ما طلبته بعد الآن”.
* * *
هذا المشهد حصل في نفس اليوم الذي تلقيت فيه الدعوة للمشاركة في هذه الندوة.. وجعلني أفكر في الرقابة الاجتماعية التي لا تزال إحدى يومياتنا الأثيرة. هذا في نفس الوقت الذي يبدو فيه أن أعداداً متكاثرة من الفتيات بدأن يرفضن التقيد بها والتزامها. وإذا كان هذا الأمر معتاداً في الطبقات العليا الميسورة، إلا أن المستجد أن الكثير منهن على ما يبدو ينتمين إلى نفس الدائرة السوسيولوجية لتلك الفتاة: الطبقات الاجتماعية المتواضعة التي تتجاور مع ممثلي تيارات إسلامية متشددة..
ما الذي أزعج صاحبنا إلى حد الشكوى لعابرة مثلي؟ من الذي نصبه حامياً للأخلاق التي تستتبع استخدام تلك الفتاة لجسدها بحسب قواعده هو؟ ألا تملك حرية التصرف بنفسها وبهذا الجسد الملتصق بهذه النفس؟
إن تعليق السائق هو التجسيد الواقعي للنظرة التقليدية السائدة إلى الشخص كفرد والاعتقاد بحق الجماعة في فرض سلوك معين عليه وفي ضرورة خضوعه للقواعد المقبولة منها. إنها إيديولوجيا الإنسان التقليدي لما قبل بروز الفرد الحديث. الشخص هنا هو جزء من جماعة أو طائفة وعليه الخضوع لتقاليدها وممارساتها.
يدخلنا هذا المشهد في صلب الموضوع، فالمسألة كانت متعلقة دائما في هذا الحق في امتلاك الجسد والسيطرة عليه؟ لمن يعود هذا الحق للفرد أم للمجتمع والتقاليد؟ وطبعاً يتم هنا الخلط بين العادات الاجتماعية والتقاليد والدين.
ومن هذا المنظار يطرح عادة موضوع الجنس عبرالإشكالية التالية: لمن الحق في تقرير إقامة العلاقات الجنسية بين المرأة والرجل: الأفراد أنفسهم أم المجتمع؟ وهل يسمح بهذه العلاقات من دون غطاء شرعي مؤسسي، نعم أم لا؟ وما هو الهدف من الجنس؟ التناسل أم الاستمتاع؟ ومن يضبط عملية التناسل نفسها؟
ولقد عالجنا مسألة بروز الجسد الحديث هذه في فصل خاص.
الحق بالمتعة الجنسية لا تعني امتلاك الجسد
يجب التفريق هنا بين مسألة امتلاك الجسد وحرية التصرف فيه وبين الحق بالمتعة الجنسية فمن وجهة نظر الإسلام حق المتعة الجنسية محفوظ للمؤمنين، على عكس المسيحية التي تتجاهل الجسد.
وهنا نجد تلاقٍ وافتراق بين الحقبتين الحديثة أو العصرية من جهة وبين تعامل الأديان – خاصة بين الدين الاسلامي والدين المسيحي- تاريخياً من جهة أخرى. الدين المسيحي يتجاهل الجسد ويفضل عدم استخدامه للمتعة الجنسية، بينما نجد أن الدين الإسلامي يعطي الحق بالتمتع بالجسد والحق بالمتعة الجنسية فنجده يلتقي مع متطلبات الجسد الحديث من هذه الناحية لكنه يحتفظ لنفسه بتحديد القيود، ويقيّد حرية امتلاك الجسد بسلطة الفقيه. يعني الجسد حرّ تحت سياج رجل الدين.
لكن ماذا عن حرية استخدام الجسد في التراث الإسلامي؟
هنا نجد عدة التماسات وتفسيرات ومستويات منها ما يسمح بهذه الحرية ومنها ما يمنعها وذلك بحسب اختلاف المرجعية: هناك تقاليد متنوعة و تيارات دينية مختلفة. ويتغير الموقف بحسب أي اتجاه مرجعي تمت العودة إليه: اتجاه الاسلام البراغماتي المؤسسي أم الاتجاه العاطفي الديني أم الاخلاقي كما هو موجود في القرآن! فالإسلام يعترف بالحق بالمتعة الجنسية بمعزل عن التناسل بينما تمتنع المسيحية عن الاعتراف بهذه المتعة الجنسية كحق قائم بذاته، وتعتبرها وسيلة فقط من أجل تجديد النسل. ويظل تقشف الجسد تجاه المتعة هو هدفها السامي.
أما بالنسبة للحداثة والتقليد فهنا أيضا يوجد خط فاصل آخر، لم يمتلك الإنسان جسده وحرية التصرف فيه إلا حديثاً جداً ومع حقبة الحداثة إثر خروج المرأة إلى ميدان العمل ومساهتمها في الاقتصاد إثر الحرب العالمية الثانية خاصة، وفي الستينات بعد اكتشاف حبوب منع الحمل[2].
هذا بالإضافة الى وجود تناقض وتعارض بشكل دائم بين الممارسة في الواقع من جهة وبين الخطاب كحامل للإيديولوجيا من جهة اخرى. كما أن سلوك الناس في الحقبة الواحدة لايكون على نفس السوية بل هناك أنواع عديدة من السلوك تتعلق بالطبقة من ناحية وبالانتماء إلى الريف او المدينة من ناحية أخرى حتى في نفس المجتمع، كما أنها تتعلق بخصوصيات المجموعات الفرعية وبحسب الحقبة التاريخية أيضاً. وهكذا فإن الانسجام التام وتوحيد الرؤية هما في الواقع نموذج أو مثال بمعنى الباراديغم وقلما كان متجسداً حقيقة وفي الواقع كما في صورتنا عنه.
ظاهرة التقهقر
يشير عدد من الباحثين إلى أن الحب عند العرب كان موضع احترام وأن الكتب التي كتب عالجت مواضيع الحب متعدةة (وسنشير إليها لاحقاً بتوسع) ويكفي أن كتاب ألف ليلة وليلة يعد كتاباً من ضمن تراث الثقافة العربية – الإسلامية. كان هذا فيما مضى، وصارت تقام الدعاوى الآن من أجل حذف النصوص “المخلّة بالآداب في كتاب ألف ليلة وليلة التي ظل على شكله هذا مئات السنين.
ولقد سبق للجاحظ[3] أن ناقش هذا الاتجاه وانتقده “وبعض من يُظهرالنسك والتقشّف إذا ذُكر الحرّ والأير والنيك تقزّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلُ ليس معه من المعرفة والكرم، والنّبل والوقار، إلا بقدر هذا التصّنع”. وايضاً: “وإنما وُضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي إلاّ يُلفظ بها ما كان لأوّل كونها معنًى، ولكان في التّحريم والصّون للغة العرب أن تُرفع هذه الأسماءوالألفاظ منها”.
للأسف من الملاحظ أن المجتمع يتجه الآن أكثر فأكثر نحو التقييد ويعبّر عن رفضه للهيمنة الغربية بالعودة إلى الممارسات “السلفية” الانتقائية ومنها ظاهرة الحجاب والبرقع وجميع أشكال حجب جسد المرأة وتقييده المستعادة بقوة في محاولة للدفاع عن هوية يزداد الشعور بتهديدها. فهل حقيقة أن الثقافة الإسلامية هي مجحفة ومكبلة للمرأة كما يزعم البعض في الوضع الراهن؟
هل الحجاب إسلامي حصراً؟ هل قهر النساء شرقي الجذور فقط؟
بالرغم من جميع المظاهر السائدة حالياً والتفسيرات المجحفة للفهم المجتزأ للنصوص الإسلامية وعند عودتنا إلى التراث يمكن الاستنتاج مع بوحديبة أن الحضارة الإسلامية هي نسوية في جوهرها، وأن المسلم لا يمكن أن يكون كارهاً للمرأة. مع ذلك عرفت مكانة المرأة انحداراً كبيراً عبر العصور، وكل اتجاه نسوي في الوقت الراهن يعتبر كثورة مضادة للقرآن عند البعض[4]! ويرجع السبب في هذا التناقض إلى المكانة الاجتماعية والاقتصادية المتدنية للمرأة العربية خاصة وللإنسان العربي عامة.
وتناقش الدراسات الجندرية الحديثة الفكرة الشائعة والتي ترجع كل عادات القهر التي تمارس على المرأة إلى “التأثيرات الشرقية” كما تكتب ليلى أحمد[5] فتجدها غير دقيقة، فهناك حلقات تواصل بين المجتمعات القديمة التي مارست القمع بدرجات متقاربة واقتبست عن بعضها البعض مما يمكن القول معه أن العادات كانت في الغالب بدرجة ما مشتركة بين المراكز الحضرية الكبرى في منطقة شرق المتوسط في بداية العصر المسيحي، بما في ذلك تلك الواقعة في سوريا ومصر… والنقطة المنهجية المهمة التي تثيرها ليلى أحمد تعمد إلى إظهار أن اعتبار قهر النساء متأصل في المجتمعات غير الأوروبية يمثل أحد معوقات الفهم الصحيح لتاريخ المنطقة. أما عن الحجاب فهو أيضا كان ملازماً للمرأة في الكثير من الحضارات وخاصة المسيحية منها وهو ليس خاصية إسلامية، عدا عن أن البعض ينسب انتقاله إلى الإسلام عن الحضارة الفارسية. هذا ومن المفيد هنا الإشارة إلى المجتمع الإسلامي الطوارقي، كما تنقل بثينة شعبان، حيث يوجد نمط فريد من تحرير المرأة، مع أنه مجتمع يستمد أعرافه ومنطقه مباشرة من المصدر التاريخي نفسه الذي تنهل منه القوانين في جميع الدول العربية، أي القرآن والسنة. لكن حدث هناك، وعلى عكس الدول الإسلامية، أنه لم يسمح لهيمنة الذكور بتشويه وتحريف التعاليم والمبادئ التراثية القديمة لتنزل الضرر بالمرأة. تكتب شعبان: “لقد وجدت مجتمعا إسلاميا لا يعتبر المرأة جارية للرجل ولا دونه مرتبة”[6].
فيما يتعلق بالعالم العربي الاسلامي لقد حكم التصور الديني للمرأة والجندر منظوران مختلفان وظلت إشكالية “التوتر القائم بين المنظور الأخلاقي والمنظور البراغماتي قائمة، وكلاهما يمثل جانباً من جوانب الإسلام، يمكن الاستدلال عليهما في القرآن ذاته. كما كان لهما أثر على بعض الاحكام الرسمية الخاصة بالنساء والزواج التي تمت صياغتهما في فترات تالية”[7]. عندما يتم أخذ التعاليم الأخلاقية، التي جاء الإسلام في الأساس للتعبير عنها، بعين الاعتبار يصبح التصور الديني للمرأة والجنوسة أكثر التباسا عما يبدو للناظرين. إن الرؤية الاخلاقية الإسلامية هي رؤية قائمة على المساواة بما في ذلك المساواة بين الجنسين، بما يسمح بالقول بأنها تقوم بتقويض البناء التراتبي للزواج والذي تم تأسيسه من منطلق عملي براجماتي في المجتمع الإسلامي الاول[8].
فحتى عندما قام الإسلام بتأسيس الزواج بناء على تراتبية جنسية، أكد الصوت الاخلاقي- ذلك الصوت الذي يكاد لا يسمعه الحكام وواضعو القوانين – باستمرار على أهمية البعدين الروحي والأخلاقي في الفكر السياسي والقانوني الذي يكوّن جوانب الفهم العملي للإسلام. إلا أن الصوت الثاني لم يترك أثراً يذكر في التراث السياسي والقانوني للإسلام، رغم أن هذا الصوت هو الجانب الذي يقبله المسلمون والمسلمات ممن لا يعرفون التفاصيل الدقيقة للتراث القانوني الإسلامي. إن الوجود الواضح للمساواة الأخلاقية في الإسلام هو الذي يفسر تأكيد النساء المسلمات – في حديثهن مع غير المسلمين- على عدم وجود تحيز لجنس ضد آخر في الإسلام. فعند قراءة النص المقدس تسمع المرأة المسلمة رسالة مختلفة عما يقدمه مشرع وواضع تفسير الإسلام التقليدي المتحيز للرجل ..
بدايات المساواة حديثة العهد في الغرب
إذن لفترة طويلة جداً ظلت المرأة تابعة للرجل في عالم ما قبل- الحداثة، أليس العالم كله مبنياً على التراتبية؟ أغنياء / فقراء، حكام / محكومين، خاصة \ وعامة! كذلك هناك، وبحسب الطبيعة رجال / نساء وبشكل تراتبي أيضاً. فالمرأة التي تحبل بالطفل، لا تعطي سوى المادة بحسب أرسطو، أما الرجل فهو الذي يعطي الشكل. كما أن المرأة لا تملك النفس ذاتها كما الرجل بالنسبة إليه. مع أرسطو تنتفي قدرة الخلق عند الأم. وأفلاطون يعتبر أن حب الرجل للرجل هو الحب الحقيقي ويستحق هذا الإسم، فالمرأة للإنجاب وليس لشيء آخر.
لم تبدأ فكرة المساواة سوى مع الثورة الفرنسية، لكن هنا أيضاً كانت المساواة هي بين الـ Hommes وهي كلمة كما نعرف ملتبسة المعنى، فهي تعني رجل وإنسان في الوقت نفسه، وكان السؤال هل Hommes هذه تشمل النساء بشكل بديهي؟[9] لكن يبدو إن المجتمع الجديد المبني على المساواة والحرية، لم يشمل المرأة بشكل بديهي، كانت المساواة تقف عند حافة “الجنس الآخر” بحسب تسمية سيمون دو بوفوار.
من رجال الثورة الفرنسية من نادى بالمساواة التامة بين الجنسين مثل condorcet 1788، ومنهم، وكان له التأثير الأكثر فاعلية من نادى بإبعاد النساء عن الوظائف العامة، لأنها الوسيلة الوحيدة لحفظ سعادة الزوجين مثل Talleryrand، 1792، فقد عارضت الجمعية التأسيسية الفرنسية عام 1793 مشروعاً للمساواة المطلقة بين الزوجين وعارضت أن تقترع النساء ومنعت كل مشاركة لهن وأُرجعن إلى المنزل.
لم تحصل المرأة على المساواة أو بداياتها إلا في نهايات القرن التاسع عشر، فحصلت على حق الاقتراع لاول مرة في اميركا 1866 في ولاية Wyoming، وفي انكلترا عام 1918، في ألمانيا 1919، في فرنسا حتى العام 1944، بالمناسبة في لبنان عام 1953 وبنوع من المحاكاة. وانتظرت النساء بداية القرن العشرين كي تفتح أمامهن كل المهن نظرياً، ونهايته كي تفتح فعلياً، وكي نشهد تغيرات متسارعة وجذرية لم يكن يمكن أن يُحلم بها.
إذن حتى غداة الحرب العالمية الثانية، وبعد عودة الديموقراطية إلى أوروبا، لم تكن فكرة المساواة بين الجنسين قد أحرزت سوى نصف نجاح، فالمرأة تتمتع مبدئياً بحقوق الرجل نفسه، لكن في الممارسة يختلف الامر (كما هو الحال في المجتمعات التقليدية حالياً فعندما يطلب موافقة المرأة على الزواج من الرجل، يعني ذلك عملياً الموافقة على خضوعها له في الوقت نفسه). وظل مصير النساء يتشكل في المنزل وبواسطة الأمومة. لم تحدث تغيرات جذرية في العالم الغربي في العلاقات بين الرجل والمرأة إلا في السنوات الأربعين الاخيرة، والتي تميزت بانتصار نسائي مزدوج:
– السيطرة على الخصوبة: أي السيطرة على وظيفتها الطبيعية “التي حددت على أساسها عبر القرون، فهي عندما تسيطر على جسدها بالمعنى البيولوجي، وعبر وسائل منع الحمل، تختار عندها اختيارياً دورها البيولوجي الطبيعي ولا تعود الأمومة إلزامية أو صدفوية أو بديهية.
– اقتسام العالم الاقتصادي مع الرجل وحسب تحديده هو للاقتصاد: العمل المنتج خارج المنزل. ما يجعل العمل داخل المنزل خدمة وفاقدا لكرامته.
إشكالية الحداثة والتقليد وأثرهما على الأسرة والمرأة
في محاولة لفهم تاريخ الأسرة الشرقية وموقع المرأة فيها، تكثر الآن الدراسات التاريخية التي تعود إلى أرشيف المحاكم الشرعية في تتبع أوضاع الأسر والنساء وتشير أميرة سنبل[10] في هذا السياق إلى اختلاف الأحكام في طلاق النساء بين عامي 1857 و1959 بما يوضح التناقض في تفسير وتطبيق الشريعة قبل وبعد الإصلاحات التشريعية التي شهدها العالم الإسلامي. وذلك من أجل دحض الفكرة السائدة في دراسات المرأة في الشرق الأوسط بأن هذه الإصلاحات أحدثت تغييرات إيجابية. بينما تجد أن العكس هو صحيح[11].
فكرة أخرى شددت عليها الدراسات حول هذه الفترة هي فكرة أن الأنماط والممارسات الاجتماعية كانت في تضاد صارخ مع الصورة الرسمية التي تقدمها المصادر الرسمية الفقهية والدينية. وهذا يعني أن الحياة التي عاشتها النساء بالفعل قد دفعت الفقهاء إلى تفسير الشريعة بشكل أكثر محافظة: “فكلما جنحت النساء إلى التحرر كلما تشددت التفسيرات”. وقد بينت دراسة باربارا شتوفاسر كيف طوعت المجتمعات الإسلامية الشريعة لممارساتها الحياتية الفعلية بدلاً من قبول المثل العليا لأنماط التأويل التي اعتنقها المصلحون في العصور الوسطى.
ومن الواضح أن القوانين الحديثة المنبثقة في ظل الدولة القومية الحديثة قد أنشأت شكلاً جديداً من السلطة الذكورية في الأسرة يعطي الأفضلية للرجال من أعضاء المجتمع. وفيما ظلت قوانين الأحوال الشخصية معتمدة على الشريعة في تناقض مع الدساتير ذات الطابع الغربي للدول الإسلامية.
كما أن الصورة الجامدة المعطاة للشريعة هي نفسها قابلة للنقاش، وهذا ما فعله محمد عفيفي: “والشريعة ليست جسماً جامداً غير قابل للتغيير، الشريعة تعني القوانين المقبولة. وهي تتغير مع الزمن لأنها اجتهادات الفقهاء والقضاة”[12].
أما الشريعة التي ظهرت إلى الوجود بعد تحديث القوانين وإصلاحات المحاكم فتختلف عن سابقتها لأنها مصممة لمصلحة النظام المهيمن الجديد الذي وصل إلى السلطة كجزء من بناء الدولة القومية. ومن الخطأ الاعتقاد أن الشريعة المطبقة في صورتها القديمة هي وحدها السبب الحصري في قهر المرأة الحالي، بينما واقع الأمر أن سبب القهر يكمن في الإصلاحات الحديثة أيضاً وفي أسلوب التعامل مع قوانين الأحوال الشخصية. وهذا ما أوضحه مقال مادلين زلفي من أن الدولة القومية الحديثة شجعت الإصلاحات التشريعية التي زادت من سيطرة الدولة على الأسرة من خلال تضخيم سيطرة الرجل على المرأة (الزوجة والابنة) وعلى الأبناء القصر (بنات وبنين)، وكان ذلك من خلال سن القوانين التي أقرتها الدولة وتوحيد نظم تعليم القضاة، وإعادة هيكلة نظام المحاكم. وقد حدّت تلك الإصلاحات من قدرات المجتمع على الحركة، وهي القدرات التي كانت متاحة من قبل عندما كان في مقدور القضاة أن يختاروا من بين المذاهب الفقهية الإسلامية المتعددة والأعراف السائدة ما يروه مناسبا لأحكامهم.
وهذا ما تفصّله أميرة سنبل[13] في بحثها عن فكرة العلاقة بين نشأة الدولة القومية الحديثة وانحطاط دور المرأة وتعرضها للعنف على أنواعه، فتلخص:
1- توجد علاقة تبادلية بين القوانين الخاصة بالجنسين في العصر الحديث وبين نشأة نظام أبوي حديث كان آخذاً في الظهوركجزء من عملية بناء الدولة الوطنية. وبالرغم من تبني الأمة – لخطاب الحداثة، فإنها كانت في نفس الوقت تؤكد مجدداً على السيادة الذكورية وتقوم بالتعبئة العامة للرجال والنساء لخدمتها.
2- يعتمد الأسلوب المستخدم في صياغة قوانين الشريعة الحديثة على التلفيق بحيث يتم دمج شذرات وأجزاء من القوانين الغربية مع تفسيرات من المذاهب المختلفة كي يكوّنوا ما أصبح يعرف بقانون الأحوال الشخصية بالرغم من أن ما كان يتم وضعه هو نظام جديد، إلا أنه وُضع في إطار إسلامي “شرعي” وفكرة هذا النظام القانوني كقانون الأحوال الشخصية المنفصل لم يأخذ وضعاً محدداً في مصر قبل القرن العشرين فإن العمل به أثبت أنه ذو أهمية قصوى بالنسبة للنساء.
إشكالية السيطرة على الجسد في العالم العربي الإسلامي
إذا أخذنا الحمل / منع الحمل، كمثال للسيطرة على الجسد ويتم تتبع كيفية التعامل مع هذا الموضوع نكتشف مع ليلى أحمد[14] إلى أن العالمين الإسلامي والغربي قد ورثا معاً نفس النظريات الاغريقية حول الحمل لتتعامل معها كل من الحضارتين بطرائق مختلفة لها دلالتها المهمة. والتغاير بينهما في التعامل المختلف مع المواضيع نفسها يساعدنا على تفسير الكثير من الأمور. فهو يؤكد، من جهة، الحقيقة المتوقعة التي تشير إلى أن الحقائق “العلمية” تعكس في كثير من الأحوال المعتقدات الإيديولوجية والأهداف الاجتماعية للنظام البطريركي، ويكشف من جهة أخرى وبشكل مفاجئ، قدرة هذا النظام على استخدام حتى الأفكار ذات الطبيعة المساواتية البيولوجية لخدمة أغراضه ومراميه الخاصة في السيطرة.
ومثلما تبين دراسة مسلّم[15]، فقد سمحت معظم المذاهب الفقهية الإسلامية في العصور الوسيطة باللجوء إلى منع الحمل، رغم أن قلة قليلة لم توافق عليه. كما أباحت غالبيتها الإجهاض، بالرغم من وجود إجماع أقل علي هذه المسألة. وفيما يتعلق بمنع الحمل، فإن القضية الخلافية من الناحية الشرعية التي أفرزت معظم الجدل بين الفقهاء، لم تكن تدور حول ما إذا كان مباحا، بل حول ما إذا كان بمقدور الزوج ممارسته بدون موافقة الزوجة لأن لها الحق بالأمومة وهي من يقرر حصولها من عدمه. أما عن الزوجة فالنقاش كان يدور ليس حول حق المرأة بالامتناع عن الحمل بل هل من الواجب عليها أخذ موافقة الزوج أم لا؟ وأفتى معظمهم بعدم وجوب ذلك.
وعلى النقيض من الفقهاء الذين استمدوا أفكارهم عن بيولوجيا الحمل من القرآن والسنة، اعتمد الفلاسفة المسلمون أرسطو مرجعية رئيسية لهم، ورفضوا رأي الفقهاء حول الإسهام المتساوي للرجل والمرأة في عملية الحمل.
لتفسير الاختلاف في النظرة إلى الموضوع: تلاحظ ليلى أحمد وجود حقيقتين لافتتين تتعلقان بالنصوص الإسلامية ولأخذها بوجهة نظر النساء بالاعتبار. أولاهما أن الأحاديث النبوية التي صاغ على أساسها الفقهاء نظريتهم حول البيولوجيا تدمج معلومات مستخلصة من الأسئلة والملاحظات والتعليقات التي وجهتها النساء إلى النبي، وذلك حين قدمن إليه للشكوى من ممارسات زوج متبتل أو عنين، أو للاستفهام حول “الاحتلامات الليلية”. أي أنها تدمج المعلومات المتعلقة بالجسد الأنثوي والخبرة الأنثوية المستمدة من النساء أنفسهن- أو هكذا تبدو- واذا اعتبرنا هذا الجانب موثقا من الناحية التاريخية، فإن المجتمع الذي عكسته هذه الأحاديث قد اتصف بالحضور الواضح للنساء باعتبارهن محاورات يتمتعن بالحيوية والنشاط عند مناقشة المواضيع الجسدية والجنسية من بين سواها من المواضيع. ثانيهما أن العديد من رواة هذه الأحاديث كانوا من النساء في كثير من الأحوال (عن لسان عائشة سدس الأحاديث). ولهذا يمكن القول أن وجهة نظر النساء كانت حاضرة في النصوص الدينية والفقهية الإسلامية (بطريقة لا نجدها عند أرسطو).. وقد تكون هذه الحقيقة حول نصوص المصادر العربية هي التي تفسر الاختلاف البيّن بين النظرية العربية/الإسلامية الخاصة بالبيولوجيا البشرية بفكرتها عن المساهمة المتساوية لكلا الجنسين في الحمل وبين النظرة اليونانية القديمة.
ومثلما حصل في العالم المسيحي آنذاك، فإن الرجال المسلمون (ومعظمهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى) قاموا بتفسير النصوص الدينية المقدسة وحوّلوها إلى قوانين شرعية، تحابي الرجال بشكل واضح. ولم يفعلوا ذلك عمداً و لأنهم أرادوا أن يكونوا مجحفين بحق المرأة بل لأنهم اعتقدوا، صادقين لا بد، أن للذكر الأولوية في العالم الطبيعي وفي النظام الاجتماعي وأنها قضية مقدرة من لله…. وتحولت الأوامر والنواهي الأخلاقية التي تحابي الرجال إلى قوانين شرعية ملزمة، في حين أن تلك الأوامر التي تطالب بمعاملة النساء بالحسنى والترفق بهن أصبحت في أفضل الأحوال مجرد ممارسة موصى بها. ولهذا كان ذلك يعني بالضبط أن الأمر متروك لضمير الرجل ولا يشكل على وجه العموم مسالة قانونية.
ونلاحظ أن الاعتقاد الشعبي السائد حول أن المرأة خلقت لغرض وحيد هو الإنجاب، وان القرآن يقول إن الله لا ينتظر منهن شيئا آخر كي يجعل مثواهن الجنة، لا يجد مبرره في القرآن ولا في الشريعة اللذان لم يشيرا، كما رأينا، إلى شيء من هذا القبيل. إلا أن هذا الاعتقاد كان جزءاً من الثقافة الشفاهية كما هو واضح.
آليات السيطرة على الجسد: الصحة
أما كيف تم الانتقال من المثال القديم للتحكم في الجسد إلى المثال الجديد، تركز ميرفت حاتم[16] على دور الضبط الذي حصل بواسطة حرفنة الصحة – أي تمهينها- في فترة تحديث الدولة العربية.
وعلى خلاف النظرة التقليدية التي تمجد العلاقة بين الحداثة (ممثلة بالإجراءات والممارسات التعليمية والصحية الجديدة) والتحسن الذي طرأ على وضع المرأة المصرية في القرن التاسع عشر، تظهر مفارقة مربكة ومحيرة. فإذا كانت الدولة الحديثة، التي بدأت مع حكم محمد علي (1805-1848) قمعية (وحتى استبدادية)، كما تبين معظم الدراسات، فكيف يمكن لنا أن نوفق بين هذا النوع من الدولة وبين تبني وإدخال سياسات تعليمية وصحية حديثة وتوصف عموماً بأنها أفادت وحررت المرأة على وجه الخصوص؟ إن المنطقي أكثر من الناحية السياسية اعتبار هذه السياسات الحديثة بمثابة تعبير عن القمع الذي مارسته الدولة في الميدان الاجتماعي. إن الفصل النظري بين الطبيعة السياسية القمعية للدولة وبين مضمون سياساتها يمنع المرء من رؤية التعليم والصحة كليهما كأدوات ضبط صارمة يستخدمها الحكام، وكجزء لا يتجزأ من الحداثة كنظام جديد للسيطرة الاجتماعية. الفرضية التي تقدمها حاتم أن لدور الحداثة في عالمنا، مثلها مثل الدولة التي تتبناها، مضمونا استبداديا/قمعيا؛ لا بد أنه استطاع أن يظهر أن للتعليم والصحة ميراثا اجتماعيا وسياسيا محافظا. ولقد انشغل الخطاب الطبي الحديث الذي لقنته المدرسة (مدرسة التمريض الذي اشرف عليها الفرنسي كلوت بيه) بنقش أشكال جديدة من السلطة على جسد المرأة. وفي محاولة استئصال الخطابات والممارسات المحلية، تماهى الطب الحديث مع تطور رأي الطب الولادي حول صحة المرأة وإنكار حقها في/ وقدرتها على التحكم بطاقتها الانجابية. وستلعب الدولة دوراً جديداً ومهما في تحديد استخدامات مهارات النساء الإنجابية. أما النتيجة فكانت أنوثة مدجنة محليا تمجد وظائف المرأة الأمومية في نفس الوقت الذي تنكر فيه حقها في الاستقلال الذاتي. وفي مقابل ذلك، مجد الخطاب ذاته قداسة جسد الرجل واستقلاليته واستخدمه لتمييز الذكورة عن الانوثة.
في هذا الخطاب، خدمت عملية التهيئة الاجتماعية والتدريب لأجيال وأجيال من النساء المهنيات العاملات في مجال صحة المرأة، حث النساء على القبول بسلطة الرجال والدولة على أجسادهن وحياتهن. كما رسخت وحددت ضمناً صلات حديثة تربط بين المرأة والأمومة[17]، ومن خلالها العلاقة بين المرأة والدولة وكلتاهما مصممة لتحول النساء من مختلف الطبقات إضافة إلى خريجات هذه المدرسة إلى أدوات- بشكل رسمي أو غير رسمي- بيد الدولة[18]. أسهمت الخطابات المتعلقة بصحة المرأة بتوسيع سلطات الحكومة المهنية بحيث أنتجت أشكالاً مستمرة من النظام والحقيقة: علاقات جديدة للسلطة، أشكال جديدة من الوعي، أنماط من السلطة أصبحت قواعد مؤسسة لحكم الذات والآخرين.
وهكذا تمت عملية ضبط جسد المرأة والسيطرة عليه بواسطة عدم الاعتراف بمهارة الدايات التقليديات في التوليد وفي عمليات العقم والإجهاض واستٌبدلن بالمهنيات خريجات المدرسة الحديثة. وينتهي بذلك حق المرأة في ممارسة رقابة على وظائفها الجسدية والتي كانت موجودة عمليا وكانت تتم تقليديا عبر ممارسة منع الحمل لأسباب عديدة: لتفادي الصعوبات المادية والملازمة لإعالة عدد كبير من الأطفال وتأمين سلامة الممتلكات، وضمان تعليم الأطفال، وحماية المرأة من مخاطر الولادة (خصوصا حين تكون شابة او مريضة)، أو لمجرد الحفاظ على صحتها وجمالها، كذلك لتجنب زيادة عدد الأطفال الذين سيصبحون عبيداً..أو حتى لعدم تحمل مشقة الرضاعة ..
يوحي التوصيف السابق أن الرجال والنساء من مختلف الطبقات قد اعتبروا منع الحمل جزءاً من حكمهم للذات. ولقد تمتعت المتزوجات بحرية اتخاذ القرارات المتعلقة بتوقيت الحمل وعدد الاطفال. ففي حين أن الحق بعدم الإنجاب لم يكن مقبولا على الصعيد الاجتماعي، إلا أن النساء امتلكن سيطرة عملية معتبرة على طاقتهن الإنجابية. ومن خلال إجراء عمليات الختان قدمت الدايات المساعدة للمجتمع كي يتحكم بجنسانية المرأة. لكن ومن خلال العون الذي قدمنه في مجال الخصوبة والإجهاض، زودن النساء أيضا بالوسائل المناسبة لممارسة بعض القدر من الاستقلالية الجسدية الذاتية.
هذه الممارسات المحلية وهي التي كانت قد عززت قوة النساء، هي التي هاجمها كلوت بيه واستخدمها كأساس لمطالبته باستبدال الدايات بالقابلات القانونيات المتعلمات ضمن منظومة مختلفة من آداب مهنة وظيفتها فرض وتطبيق سيطرة المجتمع على أجساد النساء.
إن فقدان الحكم الذاتي الجسدي حدد المكانة الخاضعة لبعض الجماعات ضمن العائلة: البنات والصبيان والرجال البالغون من الطبقة العاملة والنساء ضمن الأسرة.
أدّى المثال الجديد الذي اعتمد تبعا لمنهاج الدراسة الجديد إلى جعل جسم المرأة جزءاً من دورة الحياة الطبيعية. فالمرأة إما أن تكون حاملا او في طريقها الى انجاب الأطفال بشكل آمن ومن ثم المطلوب تقديم الرعاية الصحية لها. …
هناك صمت لافت على أية تمنيات أو حاجات أو رغبات قد تكون لدى النساء لكي تقطع هذه الدورات الحياتية. من الناحية الاجتماعية تعيد هذه الآراء التوكيد على الأمومة باعتبارها الوظيفة الرئيسية للمرأة في المجتمع (المثال المسيحي الذي عززه فرويد ما دعّم تغييب المرأة النشطة المغوية أو المثال الشرقي في هذا النموذج). فتعريف الخطاب للمثال الجديد للأمومة مؤسس على افتراض فقدان المرأة للتحكم بقرار الإنجاب والتحول إلى أم حصراً.
إذن أسهمت القابلات الجديدات في وضع أجساد النساء في خدمة حاجات الدولة، فنتج عن ذلك ليس مزيداً من حرية المرأة بل أنوثة جديدة وحديثة ومدجنة محلياً. ولم يكتف الخطاب الطبي باعطاء قيمة مثالية للامومة والحياة المنزلية، لكنه قدم كلا منهما كجزء طبيعي من دورة الحياة. علاوة على ذلك سعى إلى السيطرة على الإدارة الفردية للنساء فيما يتعلق بنشاطهن الإنجابي وذلك من خلال تجريم الخيارات التي تسمح لهن بالنجاة والتخلص من الحمل غير المرغوب.
نظرة الحداثة ونظرة التقليد إلى الجسد وكيفية التعامل معه
تشير شهلا حائري إلى خطاب رفسنجاني – قبيل غزو صدام للكويت- الذي شكل اعترافاً واضحاً لا لبس فيه بجنسانية المرأة وطالب أن تشعر المرأة بالأمان والطمأنينة للمبادرة بإقامة علاقات اجتماعية حين يشعرن بالحاجة إلى ذلك. المجتمع الإسلامي المعافى برأيه يتطلب عدم الامتناع عن تحقيق الرغبات الجنسية. ويتابع “أوجدنا بأنفسنا مدركات ثقافية خاطئة سكنت رؤوسنا، ونحن نفترض (خطأ) أن العلاقة الجنسية عار على الجميع”[19]. واقترح رفسنجاني حلاً، ترك الناس على ما يبدو في حالة من التشوش والارتباك والنزاع مع القيم الأخلاقية والتوقعات الثقافية التي تشبثوا بها طويلا من الزمن، وذلك من خلال تأييد وتدعيم فاعلية العقود الخاصة والشفاهية على هذا المستوى. وأبرز رفسنجاني بشكل مؤثرالقضايا المتعلقة بسلطة الأبوين والعذرية، لينتهك بذلك الحدود الثقافية المحرمة.
تتساءل شهلا حائري[20]: كيف يجري تصوير قضية عذرية المرأة، التي تعتبر واحدة من أقدس المحرمات الثقافية في هذه الصيغة من العلاقات الجندرية؟ هل تتناقض تعليقاته مع التراث الإسلامي عموما والتراث الشيعي خصوصا؟ هل يقدم تفسيرا تأويليا جديداً لمؤسسة زواج المتعة، أم يتبع ببساطة تراثاً اسلامياً شيعياً راسخ الجذور لكنه غير مفهوم؟ ويتمحور عملها على دعم تعليقات رفسنجاني التي لا تمثل قطيعة راديكالية مع التراث الإسلامي الشيعي، بالرغم من أنها تبدو مفاجئة، نظراً للصورة الطهرانية المتزمتة التي أرستها الدولة الحديثة.
هناك سيرورة معينة هي التي سمحت بتغير النظرة إلى العلاقات الجنسية وإلى العذرية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ترافقت مع انتقال المجتمعات الإسلامية من نظام الحكم الإسلامي في ظل الأمبراطورية العثمانية الى الدولة الحديثة المقلدة للدولة- الأمة الأوروبية. تتابع حائري ما حصل على الصعيد الإيراني، لكني أجد أن هذا التحليل ينطبق على مجمل المنطقة العربية الاسلامية ولو مع تفاوتات بحسب خصوصيات كل بلد، تشير حائري[21] إلى بروز خطابان حداثي وإسلامي ضمن إطار من التوتر الجدلي في إيران، فلقد قاوم كل منهما ما تبناه الآخر من استراتيجيات وما صاغه وما طبقه من سياسات. ومن خلال لغته البلاغية المنمقة على الصعد الدينية، والسياسية، الفكرية، قام كل منهما بتعريف وإعادة تعريف ذاته إزاء الآخر، وصياغة المعاني الدلالية والكوابح التي يشتغل ضمنها. وخلال القرن العشرين أصبح خطاب الحداثة هو المهيمن، الأمر الذي أجبر الخطاب الإسلامي على التواري والاختباء ليغدو في نهاية المطاف “خطابا مضادا”. لكن بعد ثورة الإيرانية عام 1979، استعاد الخطاب الإسلامي سيطرته…
تسارعت خطى التحديث بدعم من نظام حكم أسرة بهلوي (1925-1979) التي حاولت غربنة المجتمع وعلمنة مؤسساته القانونية والتعليمية وإلغاء الحجاب بدءاً من العام 1936، حين أقرت الدولة قانونا لإلغاء الحجاب استفادت النساء وظهرن سافرات.. لكن الملاحظ أن الصمت خيم في نفس الوقت على موضوع رغبة المرأة. وفي حين تزايد الاختلاط في الجامعات والمدارس في مجتمع يحرّم الاتصال الاجتماعي بين الجنسين فيما عدا حدود صلات القربى الضيقة..تُرك الرجال والنساء من دون أدوار نموذجية ومشروعة ثقافياً أي من دون ظهور براديغم جديد واضح لاتباعه.. فالعذرية كانت (وما زالت) على درجة من الأهمية بحيث أن الفتاة تعرّض فرصتها للزواج للخطر إذا فقدت عذريتها.. وعلى الرغم من التسامح الظاهري ظل هناك تياراً خفياً من الاستياء والاستهجان والرفض لما يجري.. وغدا موضوع نقاش زواج المتعة بعد الثورة الإسلامية موضوع استهجان الطبقة الوسطى الذين تربوا على لغة لا- جنسية مستعارة من الخطاب الفيكتوري المحافظ الغربي للقرن التاسع عشر[22].
تشير حائري إلى أنه برغم إقرار العلماء الدين الشيعة بمتع الجسد، إلا أنهم يعتبرونها خطراً كامناً يهدد النظام الاجتماعي؛ لذلك ينبغي تقييدها قانونيا وتوجيهها أخلاقيا. في إيران، مثل الكثير من البلدان الإسلامية، تشكل قواعد الفصل بين الجنسين مبادئ أساسية وجوهرية بالنسبة للتنظيم الاجتماعي لذا لا ينبغي ابتكار قواعد وعادات وأعراف صارمة للفصل بين الجنسين فقط، بل يتوجب استخدام العوائق والقيود الخارجية من الحجاب إلى الجدار للتأثير على سلوك الجنسين لإبقائهما منفصلين، وبالتالي تحت السيطرة[23].
يقدم علماء الشيعة حسنات زواج المتعة في دفاعهم عنه، إلا أنه بالرغم من ادائه وظيفة جنسية مشابهة للمساكنة، فهو يؤكد على الخضوع والطاعة للقانون والنظام الاجتماعيين.
ويتضح عبره دور المؤسسات الدينية والاجتماعية في عملية إخضاع الفرد وجسده للسيطرة. الفرد لا يمتلك حق التصرف بجسده من دون رقابة السلطات الدينية هنا أو الدولتية هناك. لكن المفارقة أن السلطة الدولتية كشفت الجسد وأسكتته بينما اعترفت به السلطة الدينية وفرضت عليه القيود.
نساء سافرات، جنسانية محجبة: خطاب الحداثة
تعيد شهلا حائري بروز الموقف الجديد من الجنسانية إلى عمليات تحديث الدولة وعصرنتها وكجزء من سياسة الغربنة حين أصدر الشاه قانون السفور الإجباري للعام 1936 مما أفرز صعوبات كبيرة لمعظم النسوة اللواتي لم يرغبن بمغادرة المنزل سافرات. إضافة إلى الرجال الذين لم يرغبوا بسفور زوجاتهم. كان أمرا لا سابق له وغير مفهوم. في هذه الأثناء ظل زواج المتعة شائعاً بين الشابات المطلقات من الطبقات الاجتماعية الدنيا من المجتمع، لكن النساء من الطبقة الوسطى يلجأن إليه فقط في بعض الأحيان. لكن الشاه الابن عاد وسمح بالسفور الاختياري عام 1941[24] فاستمرالعديد من نساء الطبقة الوسطى بالسفور في حين عادت نساء “البازار” إلى الحجاب لكن ليس بالصرامة السابقة نفسها.
وبما أن التغيير الذي يحدث بأوامر من فوق ولتقليد ما يحصل في مجتمعات أخرى دون أن يترافق أو أن تكون قد سببته التغيرات الذهنية الملائمة التي أحدثته يظل سطحياً وقابلاً للانقلاب. لذلك لم تحدث التطورات الموازية للتكيف مع هذا الترتيب الجديد لموضعة الرجل والمرأة في الحيز الاجتماعي. وبالتالي لم يحدث أي تغيير في الادراك العام للمرأة وللجنسانية. وبسبب ظهور النساء سافرات في المجال العام تحديداً، تطورت نزعة تعويضية لقمع أي خطاب عام حول الجنسانية، بما في ذلك ما يتعلق بزواج المتعة. فالحجاب لا يغطي هدف الرغبة فقط بل يحمي الرجال من خلال إخفاء هذا الهدف عن أنظارهم ويضع النساء تحت السيطرة كما هو مفترض ويتم الحفاظ على النظام الاجتماعي. التحدي الذي واجهه صنّاع القرار السياسي في إيران تحت الحكم البهلوي تمثل في الحفاظ على التوازن بين متطلبات الحداثة (السفور) واحترام الايديولوجية الدينية ومعتقدات ومشاعر المؤسسة الدينية. لذا تطلب هذا التوازن تغيير التصور العام للمرأة باعتبارها هدفا جنسياً من خلال عدم التوكيد (او الصمت) إزاء الجنسانية ذاتها. وبذلك عمل الصمت الذي تفرضه الدولة حول الجنسانية كحجاب لحماية النساء السافرات. يمكن تفسير هذه السياسة أيضا بوصفها ردة فعل من جانب الدولة والمرأة على الموقف السلبي الذي عبرت عنه المؤسسة الدينية تجاه السفور. فمن أجل مواجهة الاتهامات المحتملة من جانب المؤسسة الدينية للنساء السافرات ب “الدعارة والانحلال”، تبنت نساء الطبقة الوسطى السافرات أسلوب المبالغة في الاحتشام، والتشديد على العفة والسلوك اللائق في الأماكن العامة.
إذن مع خلع الحجاب الذي يحمي الرجال من الغواية توجب اختراع وسائل حماية أخرى، وسائل تعتبر على المستوى الوطني أكثر تساوقا مع متطلبات العصر الحديث. فالاحترام لم يعد يرتبط بشكل آلي مع الحجاب، كما لم تعد تسبغ على الحجاب بصورة شمولية تلك القيمة الأخلاقية السامية التي تمتع يها من قبل. أعيد إذن ترتيب وتنظيم المفاهيم المتعلقة بالأخلاق والفضيلة والاحترام، وتوجب “تذويتها” والحفاظ عليها في غياب الحجاب. واعتبرت العفة درعا خفياً باعتبار السافرة رمزاً دالاً على الجنسانية، وتوجب تلقينها كيفية التصرف بشكل لائق أمام الناس ومنع هؤلاء من الخوض بالجنسانية بشكل علني. وشكّل التعليم العلماني، في تميزه عن التعليم الديني التقليدي، وسيلة فاعلة ومؤثرة يمكن من خلالها تهيئة الصبيان والبنات اجتماعيا لممارسة ضبط النفس وكبح جماح الذات[25].
خلاصة
ليست هناك إذن نظرة واحدة أو ممارسة موحدة تجاه المواضيع المتعلقة بالجسد وامتداداته وما يعنيه ذلك من المحاولات الدؤوبة في السيطرة عليه وضبطه.
*
فهرس القسم الجديد من كتاب فخ الجسد
القسم الثاني: الطيبون للطيبات، جنة الجسد ونعيمه
الفصل الأول: الجنس في الإسلام
كتاب بوحديبة
الثنائية – الزواج
الطهارة\ النجاسة والحلال\ الحرام
الأنثى الأزلية
الطهارة – امتلاك الجسد
وظيفة إبليس والجان في الحضارة الإسلامية
اللذة اللامتناهية
الإسلام بين النص والممارسة
الفصل الثاني: زواج المتعة
عندما يفرض الواقع نفسه على النص
الزواج عقد تبادل
المرأة شيء وشخص في نفس الوقت
التفاوض مضمون في الشريعة
الإسلام وفرويد
أسطورة زواج المتعة
ثمن الطلاق: استقلالية وصراع مع المحيط
ارتياح الرجال لكونهم هدفاً لرغبات النساء
المتعة أو مأساة العلاقة بين الجنسين
الفصل الثالث:الجسد كمركز للإزدواجية بين الخطاب والممارسة
الحق بالمتعة الجنسية لا تعني امتلاك الجسد
ظاهرة التقهقر
هل الحجاب إسلامي حصراً؟ هل قهر النساء شرقي الجذور فقط؟
بدايات المساواة حديثة العهد في الغرب
إشكالية الحداثة والتقليد وأثرهما على الأسرة والمرأة
إشكالية السيطرة على الجسد في العالم العربي الإسلامي
آليات السيطرة على الجسد: الصحة
نظرة الحداثة ونظرة التقليد إلى الجسد
نساء سافرات، جنسانية محجبة: خطاب الحداثة
خلاصة
الجسد كمركز للازدواجية بين الخطاب والممارسة: الإسلاميين وأثر الحداثةالإسلام نظام أسرة. البيت في اعتباره مثابة وسكن، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل. ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال، ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .. «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» .. فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل. وإن الإنسان… قراءة المزيد ..