ليس لأن الولايات المتحدة عبّرت عن تخوفها من “جبهة النصرة” ووضعتها على لائحة “المنظمات الارهابية”، وُجب علينا نحن أن نصمت عنها؛ عملاّ بمبدأ استقلالية مزعومة بالرأي.
أيضاً، ليس لأن الائتلاف الوطني السوري المعارض رفض التخوّف الأميركي، فأنزل شعار “لا إرهاب إلا إرهاب أميركا” في التظاهرات السورية الداخلية، التي باتت قليلة، أو لأن عدداً من المثقفين المعارضين لنظام الأسد أبعدوا هذا الكأس المرّة عن تناولهم، أو خفّفوا من خطورتها. أو لأن تعليقات من نوع “كل العمليات المزلزلة قامت بها النصرة”، أو “وضعوا أرواحهم على كفهم من أجلنا”، أو “من ينكر فضل النصرة كمن ينكر شعاع الشمس”، أو “فجأة صار 80 بالمئة من الكلام عن النصرة!”، أو “الاسلاميون مليون مرة ولا النظام الفارسي الطائفي”، أو “الوقت ليس للصراعات الجانبية”… وهي كلها تأتي ردّاً على من يحاول، من خلال الفايسبوك، خصوصاً، أن يطرح موضوع “جبهة النصرة” بشيء من النقد.
ليست لهكذا أسباب وجاهة، أو جدارة، لإسكات الأصوات، السورية خصوصاً، التي تحاول أن تنقل إلى العلن ما يخلتج عقلها من قلق على مصير الثورة. أولاً، لأنه بات من واجبنا التخلص من ذاك “التقليد الفكري” الصبياني الذي يملي الإسراع، وتلقائياً، في نقض أي موقف أو إعلان…. يصدر من طرف جهة قوية، خصوصاً إذا كانت أميركية. تقليد بالٍ، أضعف نظر أصحابه. فصوّر أميركا ثابتة، لا يتغير من سياستها إلا الوجوه.
السبب الثاني للسكوت، أي مواقف المعارضة السورية ومثقفيها الموحية به، أو الداعية إليه، فإن رداً واحداً من لبنان نحسبه كافياً: ان لبنان معلّق، وما زال، بالسلاح الذي “حرّره من العدو الاسرائيلي”، ورجال، هم ايضاً “وضعوا أرواحهم على كفهم”، وقاموا بـ”عمليات مزلزلة”… الخ. والنتيجة، كما يلاحظ الجميع، ان الذين لم يستشهدوا من بين الحاملين لـ”أكفانهم فوق أكتافهم”، يعيثون الآن خراباً بلبنان، ويجرّون الذين لم يتسلحوا ولم يزلزلوا، إلى التسلح والإعداد لبراميل البارود… المسلحون الذين “يحرّورنا”، مهما كانت صفتهم، سوف يستعبدوننا بعد ذلك. حتى لو كانوا علمانيين ليبراليين يساريين…
فما بالك لو كان المعني بالموضوع تنظيم “جبهة النصرة”؟
ما نعرفه حتى الآن عن هذه المجموعة المسلحة المنخرطة في حرب ضد النظام السوري: نشأة “شامية” عراقية، قريبة من تنظيم “القاعدة” بأشخاصه وباستراتيجيته، مع شيء من التعديل في “تكتيكه”. بعض شبابها من السوريين المنخرطين معها قالوا انها جذبتهم بانضباطيتها، بمواردها المالية والعسكرية، وبشجاعة مقاتليها الفائقة. في شريط على اليوتيوب منذ شهرين، أعلنت “جبهة النصرة” عن برنامجها بإقامة دولة إسلامية في “بلاد الشام”، وتطبيق الشريعة الاسلامية. أما لغتها وأناشيدها، فمفعمة بالتعابير “القاعدية” الكلاسيكية: هلك الشبيحة، الشياطين الكفار، الباطل والحق، إعلان النفير، تنصيب “الأمراء”… ولا كلمة واحدة عن الديموقراطية؛ هي لا تحارب من أجلها، إنما من أجل إسقاط بشار “الكافر النصيري”، كما يقول أحد بياناتها، من أجل “إعلاء كلمة السنّة والجماعة”. طائفيتها لا تحتاج الى بلاغ، وهي معمّمة: هي تقاتل الروافض والنصارى بعد النصيريين. انها هنا واضحة كعين الشمس. بلغ إسفافها الطائفي حداً أن البعض اعتقد، في بداية ظهورها، انها من صنع المخابرات السورية… قد تكون هكذا سابقاً، أما الآن…؟ تفجيراتها الغالب عليها الطابع الارهابي “القاعدي” مصوبة ضد شبيحة النظام، وإن كانت لا تبالي، كما عهدت منظمتها الأم، بالضحايا الأبرياء الواقعين في طرق مسيرتها الملحمية نحو إقامة الدولة الاسلامية (ما حصل مؤخراً في بلدة السَلَمية).
جبهة النصرة صنفها الأميركيون “منظمة إرهابية”. فصار هذا التصنيف سبباً أو ذرايعة لعدم إيفائهم بوعودهم السابقة بتسليح المعارضة السورية. من أين أتوا بهذا الموقف؟ من تجربة الخريف الماضي، عندما قادت إحدى المجموعات المسلحة الليبية عملية إحراق السفارة الأميركية وقتل السفير وموظفين آخرين، إحتجاجا على “الفيلم المسيء للرسول”… يومها طلعت الكثير من التعليقات الأميركية الرسمية المشكّكة بجدوى تزويد المعارضات العربية بالسلاح… طالما انها ستبقى على قديمها من العداء السطحي، العنيد، ضد أميركا.
لكن الأهم، هو ما حصل مؤخراً، بعد الحرب الفرنسية في مالي ضد منظمتين “جهاديتين” قاعديتين، والتي أصدرت “جبهة النصرة” شريطاً تدعمهما في “جهادهما” ضد “الصليبيين”. على الفور، كانت الحكومة الفرنسية تغيّر لهجتها تجاه الثورة السورية ومعارضتها: تتحفظ، وتؤجل، وتغير أولوياتها الدولية. بكلام آخر، “جبهة النصرة” تؤخّر التقدم السياسي للمعارضة السياسية. هذا لكي لا نتكلم عن حجب الدعم العسكري لها، الممدِّد لحرب النظام على السوريين ولعذاباتهم.
حتى هذه اللحظة، النظام الأسدي يكسب على مستويين: المعنوي أولاً. فكلما برزت “جبهة النصرة” بعملية انتحارية، أو إعلانات جهادية أو قصص عن توليها تنظيم شؤون الذين تحت سيطرتها حسب “الشريعة الاسلامية”… بدا “صدق” النظام في علمانيته المزعومة. هو يجرّ البلاد نحو الطائفية والجهاديين، ثم يصرخ للعالم: “ألم نقل لكم؟ اننا نحارب الطائفيين المتعصبين الظلاميين، مفجرّي السيارات المفخخة…؟” الخ. المستوى العسكري ثانياً نعرفه… وفي هذه الأثناء، تتوسع “جبهة النصرة” وتراكم “الانتصارات” الانتحارية.
أما لبنان، فلا ينقصه شيء ليصاب بالعدوى. “جبهة النصرة” وضعته ضمن الأراضي التي سوف تضمها، بـ”جهادها” الى خلافتها الاسلامية العتيدة. واحدة من طوائف لبنان الكبرى، الشيعية، خطفها “تصدير الثورة الإيرانية الى العالم”، فسبقت الطوائف الأخرى في الأصولية، ولو الملبْننة. وها هي طائفة أخرى كبرى، السنّية، تستعد لإستقبال بركات مجاهدي النصرة؛ وبعض بؤرها الطرابلسية واضحة الملامح القاعدية. فالسلفيين والجهاديين مثل الأواني المستطرقة؛ تتداخل فيما بينهم الحياة عبر خيوط مائية ليس من السهل فرزها للعين المجرّدة…
قضية جبهة النصرة تحتاج إلى أكثر من تناول.
فبعد التجربة المصرية، وظهور الإخوان المسلمين، “الوسطيين”، “المسالمين” من بين الإسلاميين الآخرين، بوجوه غير تلك الملائكية التي طبعوا بها طوال معارضتهم للحكم العسكري. وبعد “تمكنهم” من الحكم، صار من الضروري مراجعة الفكرة، الشعبوية، القائلة باحتمال إيجاد أرض تفاهم معهم. هذا عن الإخوان المسلمين؛ فما بالك، ثانيةً، بالجهاديين التكفيريين المسلحين؟ ما يفتح الباب أمام قراءة أخرى لبرنامج الإخوان السوريين، الذي يضج، كما نظيرهم المصري، بعبارات المواطنة ودولة القانون والتعددية والمدنية الخ.
“أكثر من تناول واحد”، أيضاً: لأن الحرب ضد بشار الأسد ليست قصيرة، كما تصورنا في بداية الثورة السورية. وهناك، بالتالي، ما يكفي من الوقت لرسم سياسة أخرى. فيما مرحلة ما بعد بشار لن تكون الجنة، حتى لو لم يكن هناك من “جبهة النصرة” أو أخواتها. والصراع الذي سوف يليها لن يكون أقل شراسة من القتال العسكري، إن لم يرافقه، كما في ليبيا الآن. ويجب، من أجله، صياغة تصور، ولو أولي، لمكوناته.
أخيراً، ولأن الفصل بين الصراع “الرئيسي” والصراع “الثانوي” على الطريقة البولشيفية-الماوية لم يفلح إلا في تكديس المشاكل، وإستعصاء حلولها بالتالي؛ كما هو حاصل اليوم مع الثورات العربية، التي فجرّت مرة واحدة كل هذه المشكلات، من دون أن يكون لأي واحدة منها تعبير إلا العنف العاري والتجمعات الهادرة.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“المستقبل”
“جبهة النصرة”… نصرها ربي
نسأل الله عزوجل ام ينصر جبهة النصرة ..وان تقام دولة للإسلام علي ارض الشام الحبيبة … وليسقط الإئتلاف الفرنسي ..