“لماذا الاضطراب والقلق المفاجئ؟
”
“ (يا لكم أصبحت وجوه الناس متجهمة)،
”
“ولماذا تخلو الشوارع والميادين بهذه السرعة/
”
«ويعود الكل إلى بيته غارقاً في أفكاره؟
»
«لأن الليل هبط ولم يأت البرابرة/
»
“ويقول بعض الذين عادوا للتو من الحدود
”
“لم يعد ثمة من برابرة هناك،
”
“والآن، ما الذي سيحدث لنا دون برابرة/
”
“ فقد كان، هؤلاء، نوعاً من الحل.
”
هذا مقطعٌ من قصيدة ذائعة الصيت للشاعر اليوناني ـ المصري كفافي بعنوان “في انتظار البرابرة”. وهذا المقطع وثيق الصلة بموضوعنا، ليس لأن جون ماكسويل كويتزي، الروائي الجنوب أفريقي الحائز على جائزة نوبل للآداب (2003) اختاره عنواناً لرواية من أهم رواياته، ولكن لأن ترجمة أحد الأعمال البيوغرافية الأخيرة لكويتزي إلى العبرية “زمن الصيف” في الآونة الأخيرة، دفعت الناقدة الإسرائيلية نيريت بن آري للقول: “من المستحيل قراءة زمن الصيف، وحتى أعمال كويتزي كلها، دون التفكير في الإسرائيليين”.
يكتب كويتزي: “في تلك الأيام (زمن الأبارتهايد) أحب البيض في جنوب أفريقيا التفكير في أنفسهم باعتبارهم يهود أفريقيا، أو على الأقل كأسرائيلييها، فهم: ماكرون، بلا ضمير، مرنون، يجيدون حماية أنفسهم، وموضع كراهية وحسد القبائل التي يحكمونها”. وفي تعقيبها عليه تقول بن آري: “يشعر الإنسان بعدم الارتياح، لأن الثقافة السياسية لبيض جنوب أفريقيا تشبه إلى حد الألم ثقافتنا السياسية المحلية”. وهذا، بدوره، ينشئ في ذهنها صلات للقربى بين هؤلاء وأولئك فهم: “عديمو الحساسية، مبتذلون، يرون أنفسهم ضحايا، ودائماً على حق”.
نشرت بن آري مقالتها المذكورة في السابع عشر من يناير الجاري في جريدة هآرتس. وبعد أسبوع نشر إيتان هابر في جريدة يديعوت أحرونوت مقالة في معمعة الكلام عن انتخابات الكنيست يقول فيها: “حتى الحكيم في هذه المنطقة لا يستطيع التنبؤ بالمستقبل، لذا يجب أن نكون مستعدين دائما للأسوأ، العالم الإسلامي حولنا سيتغلّب على نزاعاته الداخلية، وينهض ضد دولة إسرائيل، التي يراها شوكة في الحلق، رعناء وغير ضرورية. يتاخم هذا التوّقع حد التصوّرات القيامية، ولكننا لا نملك رفاهية الإيمان بقدوم المخلّص”.
هابر، الذي كان مديرا لمكتب اسحق رابين، معتدل بشكل عام. ومع ذلك في كلماته تلك ما يعيدنا إلى البرابرة في قصيدة كفافي، وإلى سؤال ما إذا كانوا، بالفعل، نوعاً من الحل. ولن نجد صعوبة، بالتأكيد، في اكتشاف صلات للقربى بين هذه التوقعات القيامية، والتداعيات التي أثارتها قراءة “زمن الصيف” في ذهن بن آري.
المفارقة أن أحداً من الفلسطينيين لن يتمكن من قراءة كويتزي، وقبله كفافي، دون التفكير في الإسرائيليين. نحن، وهم، نقرأ الأشياء نفسها بطريقة مشابهة، وتجول في أذهاننا التداعيات نفسها، ولكن من موقعين على طرفي نقيض.
نحن “البرابرة” وهم سكّان المستوطنة البيضاء، وفي حالات بعينها عندما نفكر في تجليات الاحتلال والمسألة الفلسطينية، وتحوّلات المنطقة، في دعايتهم الانتخابية، يهبط علينا سؤال كفافي كما لو كان نوعاً من الإلهام المفاجئ، ونصادق بلا تردد، وبقدر صريح من التشفي، على عبارة من نوع: “عديمو الحساسية، مبتذلون، يرون أنفسهم ضحايا، ودائماً على حق”. ومع هذا، وقبله، وبعده، لا نتوقع لأشخاص كهؤلاء مصيراً أفضل من مصير نظام البيض في جنوب أفريقيا.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بانتخابات الكنيست الأخيرة، فإن تجليات عدم الحساسية، والابتذال، وارتداء قناع الضحية، والإصرار على الصواب الذاتي، كانت كلها في صدارة المشهد. ولستُ، هنا، بصدد تحليل نتائج الانتخابات، بل إبداء ملاحظة سريعة بشأن حزب “يوجد مستقبل”، الحصان الأسود، الذي كان مفاجأة للجميع.
وهذه الملاحظة تتعلّق باسم الحزب. فعندما نقول لأحد “يوجد” مستقبل، ينطوي هذا القول ضمنياً: على اعتراف بوجود إشكالية تخص فكرة المستقبل، وبالتالي على محاولة للتدليل على وجوده. والمهم، في هذا الشأن، اقتران المستقبل بفعل الوجود. وهذا ما لا يمكن فهمه بطريقة صحيحة خارج الحقل السياسي الإسرائيلي، أو “الثقافة السياسية المحلية” بتعبير بن آري.
توجد في كل بلدان العالم أحزاب تحاول الاستعانة بالمستقبل، وتتقنّع بقناعه، لتجنيد الناخبين والفوز بأصواتهم. بيد أن لاقتران فعل الوجود بفكرة المستقبل في الحالة الإسرائيلية خصوصية تستحق التأمل. كل ما في الأمر أن اقتران فعل الوجود بفكرة المستقبل تجلى في سياق إعادة تموضع للقوى الاجتماعية لاقتسام العبء بالتساوي في انتظار البرابرة. فلا يجوز، مثلاً، أن يحظى المتدينون بالهبات المالية الحكومية، والإعفاء من الخدمة العسكرية، بينما تزداد الضرائب على الطبقة الوسطى المدينية والمعلمنة، وتتقلص معها مكانتها وامتيازاتها الاجتماعية، رغم إسهامها الكبير. وبالتالي أصبح من الضروري إعادة النظر في عقدها التقليدي القديم مع الدولة.
كان عالم الاجتماع الإسرائيلي، ييغال ليفي، أوّل من اكتشف انفراط العقد القديم بين الطبقة الوسطى والدولة (وهو بالمناسبة أفضل مَنْ حلل دور الجيش في المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة). وربما في نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة ما يضفي مزيداً من المصداقية على فرضياته في هذا الشأن.
إذاً، يقترن فعل الوجود بالمستقبل في سياق البحث عن صيغة لتعديل العقد القديم، وإعادة تموضع للقوى الاجتماعية. هذا كل ما في الأمر. يحدث هذا في ظل إيمان يتاخم حد العمى لدى الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين بأنهم “لا يملكون رفاهية انتظار المخلّص”. أما البرابرة، فقد كان هؤلاء، دائما، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمستوطنة البيضاء، نوعاً من الحل.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني