هي جلسة عادية جمعته بأشخاص تعرّف عليهم في بلاد الغربة، بعضهم من ابناء البلد وبعضهم الاخر قد يكونوا اخوة له في السلاح الذي هجره لأسباب شخصية لم يرد التطرق لها على الإطلاق. يتقن فن الخطابة والإصغاء الى الغير، محدث من الطراز الرفيع يجعلك رغماً عنك تنصت إلى أدق التفاصيل التي يسردها بطريقة تجعلك تقتنع بكل كلمة تخرج عنه حتى أنه يُشعرك وكأنك امام شخص عاصر أهم وأدق الاحداث والتفاصيل التي مرّت بها مقاومة “حزب الله”.
الهارب من القرى الحدودية
يبدأ حديثه عن ذكريات ماضي يتاكد لك انه اليم وموجع حتى من دون ان يخوض في تفاصيله، يوم كان مقاوماً على جبهة الجنوب… نعم كنت في “حزب الله”، أحد الجالسين بقربه تبدو عليه حشرية الصحافة يسأله: ماذا لو أردت يوماً أن اكتب عنك أو عن هذا اللقاء فبأي اسم أدعوك؟، يسرح لثوان قليلة مع نفسه ليعود بعدها ويقول: ادعوني بالهارب من القرى الحدودية.. لتبدا من هنا القصة الكاملة لأمور غابت عن كثيرين في هذا العالم.
هي معلومات عديدة وخرائط تفصيلية تتضمن مواقع لمنشئات عسكرية ومدنية في الداخل الإسرائيلي تُعطى لجهة امنية محددة في “حزب الله” مقابل كميات كبيرة من المخدرات، الامر ليس بجديد إذ أن التقارير الغربية المتعددة والمتنوعة جميعها تؤكد أن للحزب يداً طولى في ترويج المخدرات في الخارج وخصوصاً في دول اميركا اللاتينية على يد اشخاص ينتمون اليه.
صفقات متبادلة
هكذا يبدأ الهارب من القرى الحدودية في جنوب لبنان كما احب ان يسمي نفسه حديثه عن التعاون بين جماعة الامن في “حزب الله” وبين عدد من الضباط والجنود الإسرائيليين: منذ أعوام بعيدة والحزب يعمد إلى شراء معلومات عسكرية تتعلق بإسرائيل وجيشها عبر بعض الضباط والجنود الإسرائيليين مقابل كميات كبيرة من المخدرات التي يتم زرعها وتصنيعها في منطقة البقاع، معقل الحزب والقيادة العامة، تحت إشراف ضباط من الحرس الثوري الايراني.”
إكتشاف جندي مدمن
يحدثك عن عالم يجعلك متاكداً أنه في يوم من الايام كان واحداً منهم او اقله عايشهم في كل مراحلهم إلى ان قرر هجرهم. للمخدرات في عالم الحزب مكان واسع ونشط. فعلى الرغم من ان زراعة المخدرات في البقاع قديمة لكنها نشطت بين العام 1998 و1999 يومها اكتشف “حزب الله عن طريق الصدفة نقطة الضعف عند بعض الضباط والجنود الاسرئيليين المتمثلة بتعاطيهم المواد المخدّرة وإدمانهم عليها. هذا الاكتشاف جاء على يد جندي اسرائيلي كان الحزب أسره في إحدى المعارك، ليتبيّن لاحقاً انه يعاني بسبب إدمان المخدرات حيث تمت معالجته في “مستشفى الرسول الاعظم” التابع للحزب. واستغلّ الحزب هذه النقطة ليصبح لاحقاً المموّل الاول لهؤلاء الضباط والجنود الذين يخدمون على الجبهة الشمالية على الحدود اللبنانية. حينها استطاع الحزب أن يجنّد عدداً كبيراً من العسكريين الاسرائيليين وبعض اللبنانيين الذين يتعاملون معهم. ومن أهم هؤلاء “رمزي نهرا” من “إبل السقي” الجنوبية الذي كان يعمل مع المخابرات الاسرائيلية قبل ان يجنده “حزب الله” ليصبح في ما بعد الموزع الاول لمخدرات الحزب في الداخل الاسرائيلي، إلى أن تمّ اكتشافه من قبل المخابرات الاسرائيلية التي قتلته بواسطة سيارة مفخخة في جنوب لبنان، ليعلن الحزب لاحقاً ان “نهرا” هو من القادة في المقاومة الاسرائيلية.
تننباوم من ضابط إلى تاجر مخدرات
إنه العام 2000 هو يوم عاشورائي، لا يزال محفوراً في ذاكرة إبن القرى الحدودية جيداً، ففي ذلك اليوم أعلن الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أثناء تكريم للرئيس السابق سليم الحص: أن المقاومة تمكنت وبطريقة معقدة من إستدراج ضابط رفيع في الموساد الإسرائيلي إلى لبنان”، لكن في ما بعد تبين ان الرجل لم يكن سوى تاجر مخدرات لديه تاريخ حافل في ترويجها داخل إحدى الدول العربية يُدعى “الحنان ننباوم”،، سبق ان خدم كاحتياطي في الجيش الإسرائيلي.
يبدو أن لإبن القرى الحدودية معلومات وأسرار يحتاج سردها الى أيام بلياليها، وهو يعلم تماماً أن الجهة التي يتحدث عنها سوف تتعرف عليه من خلال المعلومات التي يفصح عنها. ومع هذا فهو يقول: “فليأتوا إلى هذه البلاد وعندها لكل حادث حديث”. ويتابع: لـ “حزب الله” شبكات واسعة ومتعددة في تجارة المخدرات تنتشر في العديد من الدول لكنها اقل إنتشاراً في الدول الاوروبية. مركزها الرئيسي في فنزويلا يرأسها شخص أصوله عربية من “آل عبيد” لكنه يحمل الجنسية الاسرائيلية وهو متوار عن الأنظار منذ سنوات عديدة، ويُقال أيضاً إنّه اختلس من “حزب الله” أموالا لا تُعد ولا تُحصى من تجارة المخدرات”.
مخدرات داخل كرة القدم
وعلى حد قوله فأن تجار المخدرات التابعين للحزب يخصصون كميات كبيرة من تجارتهم لإغراق الداخل الإسرائيلي من خلال بعض أزلامهم داخل ما يعرف بأراضي الـ 68، أما الجنود على الجبهة مع لبنان فأن مجموعات الامن في الحزب كانت تضعها بالقرب من السياج لتمّر وتأخذها في ما بعد الدورية المحددة وتضع مكانها وثائق وخرائط أو حتى أسلحة غالباً ما كانت تفتقد من المخازن الإسرائيلية، وذلك بطلب من جماعة الامن في الحزب والتي تسمى بـ”الامن المضاد”، ولكن بعد ان تم اكتشاف هذه الخطة، فقد استبدلت بأخرى وضعها القائد السابق للمقاومة في جنوب لبنان”.
ويقول الهارب هذا ” تركزت الخطة الجديدة على الشكل التالي: تُقسم المجموعة الأمنية التابع للحزب والمرابطة بالقرب من السياج الحدودي الى قسمين بهدف ممارسة لعبة كرة القدم، وأثناء اللعب يقوم أحد هؤلاء العناصر بقذف الكرة إلى ما وراء السياج الحدودي اي إلى داخل الأراضي الإسرائيلية بعد أن يتم حشوها بكمية من المخدرات او الاموال. وبعد أقل من دقيقة واحدة تُعاود العناصر الإسرائيلية برد الكرة إلى الجانب اللبناني بعد أن يوضع بداخلها كل ما هو مطلوب منهم، وأحياناً كان هؤلاء يعمدون إلى إنقاص كمية المعلومات المطلوبة من أجل كسب المزيد من المخدرات في المرّات اللاحقة”.
العملية التي تسببت بحرب تموز
الحالة المتكررة هذه بين “حزب الله” وبعض الجنود الإسرائيليين زرعت نوعاً من الثقة بينهم على هذه الجبهة، وهي بقيت كذلك لفترة طويلة الى أن جاء وقت وضُربت بلحظة “غباء” سورية كما وصفها قائد المقاومة في وقتها، والقصة بدأت عندما استطاع الحزب إقناع الاسرائيليين المتعاونين معه بأن يسلموه معلومات وخرائط هامة تتعلق بمعسكرات تدريب ومطارات السرية على أن يسلمهم بالمقابل أكبر كمية من المخدرات”.
يصل الهارب في حديثه إلى لحظة حاسمة ومع هذا فهو لا يتردد في سرد ما تختزنه ذاكرته من امور خطيرة قد تهز قادة ومسؤولين وجنودا عاديين، كل الحاضرين ينصتون إلى لحظة الحسم كما اوحى لهم الحديث. تغيرت ملامح الهارب وكأن بالمجتمعين يسمعون طرقات قلبه، ينظر إلى الصحافي بإطمئنان وكأنه يقول له اكتب كل ما تريد وأذكر ما شئت، لكن إياك ان تمكث بالعهد الذي قطعناه حول عدم ذكر الأسماء.
ويقول: الساعة كانت تشير إلى التاسعة من صبيحة الثاني عشر من تموز العام 2006، المكان بالقرب من السياج الحدودي الطقس يميل إلى البرودة نوعاً ما، لا شىء يدل على ان هناك امرا ما من شأنه ان يعكر الأجواء هنا، الشبان يلهون بلعبة كرة القدم. وحده صراخ حناجرهم المطالب بتمرير الكرة يحتل المكان ويردده صداه… وإذ بإنفجار قوي يتبعه رشقات نارية غزيرة وصرخات.. الله اكبر، ليتحول معها المكان إلى ساحة غبار سرعان ما انجلت عن خطف جنديين إسرائيليين لتبدأ بعدها “حرب تموز. وهنا يشدد على أن “حزب الله” كان قد هيأ نفسه لهذه العملية الفائقة الحساسية لاكثر من شهرين قبل أن يأتي قرار سوري فارضاً عملية نوعية تفضي إلى أسر جندي إسرائيلي يجعله ورقة تفاوض بيده، فأتت هذه العملية لتقضي على كل ما بناه “حزب الله” خلال سنوات مع هذه الأطراف الإسرائيلية. فيومها اقتربت دورية إسرائيلية مؤلفة من شاحنتين أحداها من نوع “هامر” بداخلها بعض الأسلحة والوثائق المنوي تسليمها للحزب، لكن قرار الإختطاف كان قد اتخذ مسبقاً فأنتهت العملية بحرب لم يكن الحزب يتوقع حجم نتائجها وما كلمة نصرالله الشهيرة ” لو كنت اعلم” إلا خير دليل على ان الامر لم يكن في يده ولا القرار قراه”.
حتى الإسرائيلي فقد الثقة بنا
ويختم الهارب من القرى الحدودية حديثه بعد أن ارتسمت على وجهه علامات الخوف من أيام مقبلة لا يدري ماذا ستحمل له بعد ان تجرأ وافصح او بالاحرى فضح وكشف عن خطط ودراسات تنشر لاول مرّة: لا تزال كلمات قائد المقاومة السابق والتي رددها اكثر من قيادي في الحزب تُسمع في أذاني حتى اليوم “ربما تكون هذه العملية هي الاخيرة على جبهة الجنوب، فالسوريون جعلونا نفقد صدقيتنا حتى مع الاسرائيلي”.
مقاوم سابق: حزب تموز قرار فرضته دمشق على حزب اللهخلط الحق بالباطل لا يجعل من الأخير حقاً وخلط بعض الحقيقة كثير من الكذب لا يجعله حقيقة. كما أن القصة بسيطة التركيب وركيكة كل استخبارات العالم تستخدم المخدرات لإسقاط عملاء جدد أو الحصول على المعلومات. الشاهد “الهارب” فاته أمرٌ حساس جدّاً يقلب قصته المختلقة على عقبها: بعد اسر الجنديين وإخراجهما من السيارة المصفحة استولى فريق من المجموعة المهاجمة على كلّ الخرائط والبيانات المخبأة في مكان سرّي في مصفحة “هامر” دون مقايضتها بالمخدرات “المزعومة” وتم إضرام النار بالسيارة حتى يظن المحققون الإسرائيليون أن الخرائط احترقت ولم تقع في قبضة الحزب! إسرائيل فقدت… قراءة المزيد ..