تصاعدت وتيرة تناولات ومداولات موضوع التصالح والتسامح هذه الأيام لتحتل مركز الصدارة في اهتمامات الشارع العام وشارع السياسة والمنتديات الثقافية والسياسية وكافة مكونات وفعاليات الحراك الجنوبي في عدن وغيرها من المحافظات الجنوبية.
وازدانت شوارع وجدران مدينة عدن بشعارات وأعلام دولة الجنوب سابقاً، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي توحدت مع الجمهورية العربية اليمنية في 22 مايو 1990م. واكتسى موضوع التصالح والتسامح هذا العام طابعا خاصا، ولونا مختلفا عمَّا كان عليه عند الإعلان عن أول لقاء للتصالح والتسامح بين فرقاء الجنوب مطلع العام 2006.
هذا العام كان المهرجان الشعبي الحاشد للتصالح في عدن 13 يناير مناسبة لرفع شعار فك الارتباط واستعادة دولة الجنوب.
ليس البحث في ثقافة التصالح والتسامح وإشكالياتها وضرورتها وأهمية إرساء مفاهيمها وقيمها هو موضوع الساعة ولا مكان لأسئلة الفكر والسياسة مع طوفان المشاعر الملتهبة إلى الحدود القصوى بسبب السياسات والممارسات الإقصائية، وبإذكاء من التصريحات المتطايرة الصادرة عن زعامات جنوبية كثيرة في الداخل والخارج وهي زعامات تتسابق على مسايرة الشارع وخواطره الهائجة، ولا تتورع عن اطلاق تصريحات جريئة على شاكلة ما يأتي من الضاحية الجنوبية ببيروت حيث يقيم المعارض الجنوبي الاشتراكي السابق علي سالم البيض الذي ارتفع منسوب وعوده لـ»الجماهير» عن قرب ساعة الظفر
باستعادة الدولة والانعتاق من ربقة «الاحتلال اليمني»!
الواضح أن الفعاليات والسجالات الانفعالية المحتدمة هذه الأيام، والمترامية في أرجاء المشهد العام في الجنوب، خصوصاً، تحت مظلة «التصالح والتسامح» لا تعول على «مؤتمر الحوار الوطني اليمني» فحسب، بل صارت تتأفف وتستنكر الحديث عن هذا المؤتمر الذي تأجل، غير مرة، ويبدو أنه لن ينعقد في الأيام القليلة القادمة لأن معظم ملفاته لم تحسم بما في ذلك الملف الأهم: ملف القضية الجنوبية التي تحتل المرتبة رقم (1). وتجمع كافة الأطراف والأطياف، شمالا وجنوبا، على أن البت في بقية الملفات لن يتم إذا لم يتبلور شكل مقاربة ملف «القضية الجنوبية»، وتتحدد وتستخلص مفرداتها!
وتمثيلاتها بتوافق كافة الأطراف الجنوبية أو معظمها، على الأقل، بالمشاركة في مؤتمر الحوار المقر بموجب «المبادرة الخليجية» وتحت رعاية ومتابعة مجلس الأمن الدولي والدول العشر الراعية للمبادرة.
في الأثناء يبدو أن الكثير من الشواهد والوقائع تسير في منحى معاكس تماما للمسار المرسوم في ضوء «المبادرة» وخاصة تلك الوقائع العنيدة التي يشهدها الشارع الجنوبي، وهي محكومة بإيقاع حركة الحشود ومزاجها، ولا تقبل بأقل من تفاوض بين جنوب وشمال ينعقد لمعالجة موضوع فك الارتباط واستعادة الدولة فقط.
اعتبارا من يوم 13 يناير الجاري الذي شهدت فيه عدن مهرجانا صاخبا للتصالح والتسامح شارك فيه مئات الآلاف من الجنوبيين بمسيرات راجلة حملت رايات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية صار شعار «تحرير الجنوب» واستعادة دولته يتصدر غيره من الشعارات.
على هذا الشعار وفي مناخات تعبوية متطرفة توحد الجنوبيون بإبهار، خطف الأنظار على المستوى اليمني والإقليمي والخارجي، ما أثار هواجس الدوائر الدبلوماسية والسياسية والإقليمية تجاه شعار «التصالح والتسامح» ودفعها الى التحذير من اقتصار التصالح والتسامح على فئة دون غيرها، والدعوة لأن يشمل اليمن بأكمله، فهو يحتاج لمثل هذه الفضيلة بصدق وليس من أجل تمرير مشاريع سياسية يعود الجميع بعدها إلى ممارسة هواياتهم في استمرار الصراع والاقتتال اللذين يهددان بتمزيق اليمن، بحسب ما ورد في افتتاحية صحيفة «الخليج» وغيرها من الصحف الخليجية في الأيام الماضية.
وبالنسبة للجنوبيين فإن لسان حال معظمهم يقول بأنهم توحدوا هذه المرة كما كانوا قد توحدوا في مواجهة المستعمر البريطاني، وثمة من يقول إن خوض حرب التحرير من الاستبداد الخارجي لا يختلف عن خوض معركة التحرر من الاستبداد الداخلي؛ مع الإشارة إلى أن الأخير أكثر ضراوة وبدائية وهمجية.
المفارقة أن قطاعات واسعة من هذا الشارع صارت تحن إلى المستعمر الأجنبي وتتغزل بأيام بريطانيا علنا، وتحلم بعودة ذلكم الزمن ولا تأبه لعقابيل التورط في مصيدة الحب من طرف واحد!
في كل الأحوال كان المنتظر أن ينعقد مهرجان التصالح والتسامح لترميم أوضاع الجنوب ورأب صدوعه وتجديد كيانه وعافيته وبلورة تعبيراته وسياساته وتمثيلاته بوضوح وليس بقصد تأليب «عصبية جنوبية» لمواجهة «عصبية شمالية».
وكان المأمول أن ينعقد المهرجان من أجل تدارس سبل الانعتاق والتحرر من براثن الاستيلائيين والناهبين للجنوب واستعادة الجنوب الذي حولته مراكز القوى في صنعاء إلى غنيمة، أرضا وسكانا، وحولت ممتلكاته العامة إلى مزارع وإقطاعيات خاصة بزعماء الحرب والنافذين، وحولت عماله وموظفيه إلى عمالة فائضة عبر ممارسات العقاب الجماعي بالتسريح القسري الذي راح ضحيته أكثر من مائة ألف من جيش وأمن الجنوب، وأكثر من مائة وخمسين ألف من موظفي دولة الجنوب بالتوازي مع تدمير ونهب أكثر من مئة وثلاثين مؤسسة اقتصادية وصناعية وتجارية، وثلاثة وعشرين مزرعة تعاونية، وتزييف عقود ملكية الأراضي والمساكن والعقارات وإصدار عقود ملكية لا أساس لها، وتدمير ذاكرة المدينة –عدن بالذات-والتاريخ والتراث الثقافي والوطني للجنوب، وتغيير أسماء الشوارع والمدارس والحدائق والمكتبات والأحياء والمتاحف، وإغلاق الشواطئ والمنافذ والمتنفسات، ونهب البحر والبر، وتقاسم مصائد الأسماك وآبار وحقول النفط وعوائده ومزارع القطن، والاستغراق في تدمير ما هو مدمر في الجنوب بضراوة لا مثيل لها ولا حدود.
كان الأجدر بمهرجان التصالح والتسامح أن يقارب هذه الانتهاكات والجرائم الجسيمة ومعها موروث الانتهاكات والتعديات المريعة السابقة لهدي الناس إلى عتبة الخلاص من جحيم الإقامة على الانتهاك وفيه، وكان من الأفضل الابتداء بتوصيف الجريمة وتحديد وتسمية الجناة والقراصنة والقتلة، لأن تسمية الجاني تشل حركته، حسب سارتر، بدلا من الوقوع في خطأ تعويم وتعميم التهمة على الشمال بعمومه والانحشار في شرنقة الخطاب التعبوي العصبوي الذهاني الذي لن يفضي إلا إلى المزيد من الكوارث.
كان المأمول أن يذهب مهرجان التصالح إلى أبعد من شعار «دم الجنوبي على الجنوبي حرام» وأن لا يهوى إلى هاوية اعتبار «الآخر» هو الجحيم والشيطان الرجيم.
13 يناير.. مطحنة الرؤوس
وفي المنحى ليس ثمة ما يمنع من نقد العنف وثقافته المهلكة عبر اعتماد قراءة عقلانية نقدية لكوارثنا المتسلسلة والفظيعة، بما في ذلك كارثة 13 يناير التي قصمت ظهر الجنوب ووضعته في مهب تناهش مخالب وأنياب النافذين من قبائل الشمال.
ذلك أن المواجهات الدموية المأسوية المروعة التي اندلعت في عدن بين «الرفاق الأعداء» وضربت كافة أرجاء الجنوب في 13 يناير 1986م، مثّلت مستوى الذروة في دورات العنف التي شهدتها “عدن” وكانت السلطة، دائما، هي مدار وحلبة ذلك الصراع العاري والمتوحش.
كانت السلطة هي مدار صراع الضواري من اليوم الذي اقتربت فيه ساعة رحيل الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، ومن لحظة ظهور التباشير والإشارات الأولى عن رحيل بريطانيا من قبل السلطات الاستعمارية التي أطلقت إشاراتها الأولى بالرحيل مع منتصف ستينيات القرن الماضي لتنطلق معها وبفعلها، إلى حد بعيد، شرارة الحرب الأهلية والمعارك العنيفة بين رفاق السلاح من “جبهة التحرير” و”الجبهة القومية”، وفي زمن قياسي أسفرت المعارك بين «الفدائيين» اليمنيين عن أعدادٍ لا حصر لها من القتلى، فاقت بما لا يقاس عدد من استشهدوا في معارك حرب التحرير ضد المستعمر الأجنبي.
وفي طور ثان نشب الصراع بين أجنحة “الجبهة القومية” بعد أن هزمت “جبهة التحرير” وظفرت بسلطة دولة الاستقلال، وتغلف هذا الطور من التقاتل بعناوين (اليمين) و(اليسار) وما ترتب على ذلك من ملاحقات وتصفيات قطفت معظم رؤوس قادة «التجربة الثورية» وقادة معارك التحرر من الاستعمار البريطاني الذي انتهى الأمر بهم إلى: الإعدام والقتل، الاعتقال والنفي.
ذلك ما كان عليه مصير أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بعد الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، “قحطان محمد الشعبي“، الذي لم يستقر على كرسي الرئاسة أكثر من سنة وبضعة أشهر لأنه تعرض للاعتقال حتى الموت فهو لم يخرج من السجن إلا إلى القبر عشية إعلان وحدة 22 مايو 1990م بين صنعاء وعدن.
وباعتقال الرئيس قحطان واعتقال أول رئيس لوزراء حكومة الاستقلال، “فيصل عبد اللطيف الشعبي”، ثم قتله بزعم أنه كان يحاول الفرار من السجن، اندفعت نافورة الدم، وبعدها تدافعت نواعير الدماء في الشوارع والأرجاء ولم تتوقف.
ففي 26 يونيو 1978 أعدم الرئيس الثاني “سالم ربيع علي” (“سالمين”) بتهمة أنه من «اليسار الانتهازي»، وبزعم ارتباطه بـ»مؤامرة انقلابية نسجت خيوطها من قبل الدوائر الرجعية والامبريالية العالمية». والى جانب إعدام (سالمين)، شهدت البلاد مجازر فظيعة وملاحقات واعتقالات لا حدود لها طاولت المحسوبين عليه. ولم تتوقف عجلة الموت والتقتيل بعد الإعلان عن القضاء على «اليمين الرجعي» ثم الإعلان عن القضاء على «اليسار الانتهازي»، بقدر ما تزايدت شراهة تلك العجلة في طحن الرؤوس وراحت تلحس وتأكل العشرات.
إلى نفس المصير انتهى الرئيس الثالث “عبدالفتاح إسماعيل”. فبعد أن كان هُدد بالقتل إذا أصر على البقاء في كرسي الرئاسة وأمانة الحزب، وبعد أن كان نجا بأعجوبة بخروجه إلى المنفى في موسكو في ابريل 1980، عاد ليُقتل في 13 يناير 1986 وجاءت عودته بإلحاح من أولئك الذين كانوا هددوا بقتله ثم عادوا واعترفوا له بـ»الخطأ»، وطلبوا منه العودة ليسندهم في مواجهة «جناح انتهازي» جديد وهو جناح «مرتبط بخيوط الدوائر الرجعية الامبريالية» يتزعمه الأمين العام الجديد الرئيس علي ناصر محمد!
وقُتل عبدالفتاح إسماعيل (مؤسس الحزب الاشتراكي) بعد انفجار أحداث 13 يناير 1986م وحينما كان سخام الحرائق والدخان يغطي السماء، وأصوات الرصاص والمدافع وقاذفات الصواريخ والدبابات تلعلع في الأرجاء، ولم يعثر لجثته أي أثر حتى الآن.
في العموم كانت محطات الاستراحة أو الهدنة بين كل دورة عنف وأخرى لا تخلو من وجبة قتل معتبَرة، على شاكلة ما حدث لطائرة الدبلوماسيين التي تفجرت في سماء جزيرة “سقطرى” في 1972م وفيها حوالي 40 من ألمع الدبلوماسيين والقادة الجنوبيين، وعلى شاكلة ما حدث للسياسي والدبلوماسي البارز “محمد صالح مطيع”.
بالمناسبة ترددت بعد مأساة الطائرة، همهمات وأقاويل كثيرة عن أنهم كانوا من المحسوبين على «اليمين الرجعي» وكان السبيل الأمثل لتصفيتهم هو دعوتهم إلى حضور مؤتمر للدبلوماسيين الجنوبيين في عدن، ثم تنضيدهم في طائرات تجوب بهم المحافظات ليتعرفوا على أرض وطنهم الحبيب الذي تعرف عليهم كأشلاء وأوصال متطايرة بعد أن انفجرت بهم الطائرة قبل أن يتعرفوا عليه.
وتبعا لمنطق آلة القتل وهذا التسلسل؛ تراكمت وكبرت عناصر وأسباب الاحتقان والاضطغان والتقاتل. ولم تتوقف بومة الثأر والانتقام عن التحويم والنعيق في الأرجاء حتى بعد الكارثة القاصمة في 13 يناير التي أجهزت على معظم قيادات الصف الأول والثاني في الحزب والدولة الجنوبية وقضوا ما بين قتيل وشريد، وأسفرت عن آلاف الجرحى والقتلى خلال بضعة أيام من التقتيل في قاعات الاجتماعات والمعسكرات والشوارع على السلطة، وعلى الهوية، ما أسفر عن دمار معظم المؤسسات والوزارات وحرق ودمار منازل القيادات البارزة في الحزب والدولة، ثم نهب ومصادرة منازل القيادات التي انهزمت
ولاذت بصنعاء التي كانت الحاضن الأكبر والمستفيد الأول من اقتتال «الرفاق» في عدن، والمستثمر البارع للدمار وخراب الديار في الجنوب.
.. في حرب صيف 1994م التي أطلق عليها النظام في صنعاء حرب «الردة والانفصال» وخاضها من أجل تعميد «الوحدة بالدم»، تخندق الطرف الجنوبي المندحر على إثر مأساة 13 يناير 1986م مع التحالف العسكري القبلي الأصولي في صنعاء، ولعب دور رأس الحربة في الدخول إلى الجنوب. وحينها عُين الرئيس الحالي للجمهورية اليمنية عبد ربه منصور هادي، وهو قائد عسكري مؤهل ومحترف، وزيرا للدفاع في صنعاء.
وأفلحت جحافل الجيش المتدافعة من صنعاء ومعها جحافل القبائل والجهاديين العائدين من أفغانستان في استباحة عدن والجنوب، وكان الذهاب إلى البيوت التي كانت قيادات الطرف الظافر في 13 يناير قد استولت عليها على رأس أهداف الذين دخلوا من الجنوبيين العسكريين مع الجيش الغازي لعلي علي عبدالله صالح، وتمكن هؤلاء القادة من إعادة الاستيلاء على منازلهم السابقة إلى جانب الاستيلاء على منازل القياديين الجنوبيين الذين ولّوا الأدبار بحرا في حرب 1994.
كانت حرب 1994 في جانب هام منها جولة أخرى من حروب الثأر والانتقام بين الفرقاء الجنوبيين.
في كل الأحوال كان الحزب القائد والشمولي في الجنوب هو ميدان النزاعات والصراعات الدموية بسبب اندماجه الكيميائي والعضوي بالسلطة واختطافه لها، وكانت الدولة، حين كان حاكما وحيدا، عبارة عن سلطة يتحكم الحزب بمقاليدها ويمسك بتلابيبها شخص الأمين العام.
الصراع العاري على السلطة كان هو المحرك لدورات العنف الدموي، ولم تكن الأغطية الايديولوجية الواهية قادرة على تغليف ذلك الصراع السافر على السلطة والنفوذ، ما يعني انه لم يكن صراعا بين «يسار» و»يمين» أو بين اتباع نايف حواتمة واتباع جورج حبش وجورج حاوي وغيرهم من القابضين على جمرة «الحقيقة» و»النظرية العلمية» في بيروت أو موسكو وغيرهما من عواصم حركات التحرر.
ولما كانت السلطة محكومة بمنطق التراتب الهرمي الصارم الذي يضع ويركز مقاليدها في قبضة الرجل الأول، فقد كان الرجل الأول هو رأس الأهداف وغالبا ما يطاح به بذريعة «الانحراف» أو «الفردية» والاستحواذ والتسلط والوقوع في حبائل المؤامرات الرجعية والامبريالية التي كانت قائمة بالفعل ولكنها لم تكن هي الحاسمة والقاصمة لظهر «التجربة»ّ!
الظريف أن الرؤساء هؤلاء كانوا هم الذين يسارعون إلى الانقلاب على أنفسهم وتلك هي التهمة التي لاحقتهم من يوم الاستقلال إلى يوم المجزرة العظيمة في 13 يناير.
وفي العموم كانت قراءة ما حدث من قبل الحزب ومن قبل الجناة والضحايا في الجنوب، وفي اليمن عموماً، اختزالية، تبسيطية، تمويهية، وتفتقر إلى الفكر النقدي المتحرر من القبليات والقادر على الإحاطة بالمكامن والعوامل والمؤثرات المرتبطة بتركيبة المجتمع وموروثه، وبالاقتصاد وليس بالايديولوجيا.
حتى التعاطي مع المقاربات النقدية الآتية من الخارج كان مرفوضا ويصنف في خانة المعادي والمتآمر والمرتبط بالامبريالية والرجعية وما إلى ذلك من التبريرات الايديولوجية والصياغات الجاهزة والمغلقة، التي تتعالى على تخلف وبدائية الواقع باصطناع واقع بديل، افتراضي واختراع طبقات لا وجود لها.
وقد كانت، ولا زالت، تلك القراءات التبسيطية والاختزالية هي التي تفرش طريق الجحيم في الأمس ومن الممكن أن توسع بوابة الثقب الأسود الذي لا يشبع من التهام الرؤوس فيما لو نحت الأمور في مجرى الاحتكام لمنطق الرجعة والارتكاس إلى مربع: «أنا وأخي على ابن عمي أو أنا وأخي وابن عمي على الغريب»!
ذلك أن القراءة النقدية المعمقة لخلفيات وعوامل وتغضنات ومسارب وأسباب الخراب التي غدت حاسمة في رسم المشهد الراهن في اليمن، أصبحت مطلوبة وحاجة ملحة اليوم أكثر من وقت مضى.
إنها حاجة لإعادة اكتشاف الذات واختراعها من بين الأنقاض والنأي بها عن عجلة مطحنة العظام والرؤوس. ويتوجب أن تنشغل هذه القراءة بدراسة صراع الضواري بعينٍ فاحصة للأعماق ومتتبعة للخيوط البعيدة والأولى التمهيدية لكل الانفجارات، ولما هو مرئي وغير مرئي من الخيوط المتصلة بعملية مطاردة الساحرات والمعارك التي استهدفت، في البدء، مطاردة العملاء والسلاطين والأمراء كواجهات ووجاهات كانت تتوزع أوصال سلطة سابقة على الجنوب: «إمارات، سلطنات» تشكل العناوين والرموز والمعطيات التمثيلية لمرحلة ما قبل الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، ولم يعد بقاؤها وبقاء أشباحها على
الأرض مقبولا في نظر الطالعين الجدد إلى سدة الحكم من المغاور وسوح الوغى، والمتطلعين إلى اقتسام كعكة السلطة «الثورة» كممثلين للقبائل والمناطق الأكثر تخلفاً بما هي «بؤر ثورية» ينبغي أن تستوعب في صيغ وأطر ومسميات جديدة في القيادة بما في ذلك مسمى «المكتب السياسي» هيئة أركان الحزب «الطليعي» أو الإطار الجديد المستوعب للكثير من «المناضلين» الفقراء الحفاة وأشباه الأميين وحملة رايات «الثورة الحمراء» الذين جاءوا من أرجاء السلطنات السابقة وتسنّموا منصة القيادة الحزبية وعضوية «المكتب السياسي» ولم يأبهوا لما انطووا عليه من شَبَه حميمي بعيد، لا تراه
العين المجردة، بسلاطين وأمراء أمس
أمس لأن صفتهم كـ»مناضلين» وقادة للحزب والثورة كانت حجابا عازلا للرؤيا، كما كانت صاخبة الرنين وقد تضخموا بالحزب الذي كان اكبر من الضخامة نفسها حتى ابتلع البلاد والعباد وتملكه الاعتقاد بأنه مفارق ومتجاوز للواقع رغم أنه صار –من غير أن يدري- مختبرا كاشفا لاضطرامات الواقع البدائي ومرآة عاكسة لصورته ولتمزقاته وتشظياته المتجلية في انقسام وتوزع أعضائه بين ولاءات متعددة: شخصية، قبلية، جهوية وبين الكتل والجماعات.
من هنا كان الذهول الذي أصاب الناس عقب 13 يناير، وكذلك كان حجم الإحباط واليأس واللامبالاة يتجاوز كل الحدود، وتبدت “عدن” المدينة، «عروس المدائن في اليمن وجزيرة العرب»، ثمرة اغتصاب وضحية لنوبات القتلة وعربداتهم العاصفة التي تكررت بفداحة في حرب صيف 1994 التي أتاحت وأباحت عدن لجحافل «قبائل الشمال» وأسدلت الستار، إلى حين، عن المزايا التي كانت متحققة بفعل انفصال قبائل الجنوب عن قبائل الشمال الأكثر نفوذا وقوة، وكانت تتيح لكل منها فرصة للاعتقاد بأنها الأولى بالسلطة.
ومن هنا تأتي الدعوة لاستعادة الدولة محفوفة بالالتباس والاختلاط لأنها تصدر عن «زعامات» تعوزها معرفة ٍالفرق بين السلطة والدولة، وقد جاءت دعوتها لاستعادة الدولة لتقع على خط الرغبة في استعادة سلطة مفقودة ومُلك ضائع عليها كـ»زعامات» كانت حاضرة في قلب كل مصيبة ومنقلب وكارثة.
إن الحزب الذي تضخم بصورة لا معقولة، وغامر باحتواء المجتمع في جوفه، وتملكته غواية تشكيل الواقع على صورته، قد عمل، بقصد أو من غيره، على مراكمة كافة عوامل الانفجار في داخله وزاد الأمور سوءا حين اعتمد الصيغة الشمولية في مجتمع متخلف بدائي/بدوي كان يحتاج، بالدرجة الأولى لروافع سياسية مدنية أهلية تؤهله على الاندماج.
وقد كان من شأن الصيغة الشمولية للحزب وانتهاجه سبيل صهر الجماعات والكتل المحلية المتناثرة والمنقسمة في قالبه نقل عناصر التذرر والتفجر إلى داخله وإسقاط لواقع حاجة تلك الجماعات لاندماج وطني كان ينبغي أن يسبق صيغة الحزب الشمولي وما انطوت عليه من قفز في الفراغ والمجهول وصدام مع طبائع الأمور ومع طبيعة بنيه وبيئة وتركيبة المجتمع القبلية المتخلفة.
تبعا لذلك كان الاسترسال المهلك في وهم الاعتقاد بإمكانية خلق مجتمع من خلال «النظرية»، محصلة كارثية للقفز في الفراغ وحمل «الطلائع» من ممثلي القبائل والمناطق على التسابق في ماراثون اقتسام «النظرية» كما لو كانت أسلابا تراكم بها قدرتها وقوتها في اكتساب أكبر قدر من غنيمة السلطة.
المصيبة أن أنفاس المرحلة السابقة على الاستقلال كانت تضخ بأريجها على الأرجاء في عدن بالدرجة الأولى لكنها لم تَسمَع ولم يجرِ الالتفات لمذاق طعم الانفتاح والطابع الكسموبولوتاني للمدينة والإعمار وما تراكم من خبرات وتقاليد التمدن ورسخ من نظام قانوني واحتكام للقانون بقصد البناء عليه، بعد الكثير من الانكسارات والإخفاقات. ولعل مفعول غواية القفز في المجهول والإصابة بعمى الايديولوجيا كان أقوى إلى أن انحسرت واحترقت أردية الايديولوجيا لتحل في مكانها العصبويات والعصابات، والمشايخ والمشيخات والزعامات المتكاثرة، كثرة الفطر بعد المطر.
إن الانفتاح على أفق التصالح والتسامح ينبغي أن لا يسقط من حسبانه موروث الانقسام في المجتمع وافتقاره إلى مجال السياسة (الدولة) والى الاندماج واحتياجه الملحّ لتعبيرات السياسة والتأهيل المدني الوطني في الجنوب والشمال مع تفاوت واضح في مستوى الحاجة والحالة.
فيما خص الجنوب كان الانقسام والتشتت إلى قبائل محكومة بالعداوات حالة سابقة للاستعمار البريطاني واستمر في عهد بريطانيا وبرعايتها ثم انتقل إلى أحضان الحزب القائد، ثم تواصل بعد إبرام صفقة الوحدة برعاية الحاكم في صنعاء الذي لعب على تلك الانقسامات قبل وأثناء وبعد استباحة الجنوب في 1994.
ولأن الطبيعة «الانقسامية» خاصية ملازمة لجماعات ومجتمعات ما دون وما قبل الدولة وللمجتمعات التي فشلت في بناء الدولة وتتخبط في أزمة الانتماء وأزمة الهوية، فقد كانت هذه المسألة جديرة بالكثير من التأمل والنظر بالنسبة للجنوبيين الذين يملكون الحق في تقرير مصيرهم بالانطلاق من رفض وحدة قائمة على احتقار الإنسان وإذلاله وقتله وعلى نهب الثروات. وكان من الأولى نقد صفقة الوحدة المبرمة في نفق مظلم ارتجالا وانفعالا، والاحتراس من الارتهان لتقلبات أبطال تلك الصفقات ونزواتهم وحماقاتهم ومقامراتهم بمصائر البلدان والشعوب.
إن ما يحدث في الشارع الجنوبي اليوم بما في ذلك ارتفاع صوت الدعوة للانفصال غير مقطوع الصلة بالدور الانفصالي الممنهج والمبرمج لقوى الطرد المركزي في صنعاء التي دفعت بالجنوبيين نحو تبني الانفصال على نحو مشابه لما فعلت لقوى الطرد في الخرطوم التي دفعت بالجنوبيين في السودان إلى الانفصال بعد أن اعتمدت سياسات وممارسات تحطيمية لكرامة المواطنين الجنوبيين، وسياسات وأساليب خاطئة تحريضية، مثيرة للغرائز، تخوينية، ومولدة للحروب، وتعمدت عدم الاعتراف بمكونات المجتمع المدني والسياسي، وأصرت على التعاطي مع الناشطين كمنسوبين إلى روابط أهلية وقبلية
والتفكير بالمواطنين كمناطق وجماعات وقبائل والنظر إلى البلاد والعباد كأشياء وممتلكات للسلطان والحاكم.
كل ذلك، علاوة على عدم مراجعة وفحص الكثير من المقولات» بما فيها مقولة «الوحدة»، دفع بالجنوبيين إلى الخروج في سبيل إعادة امتلاك بلادهم ومصيرهم ومواصلة مسيرة الاحتجاج والانتفاضة السلمية وترقية مستواها في إطار من الحوار الشفاف، النقدي، المفتوح على كافة القضايا والملفات بما فيها ملف العنف ودوراته الكارثية التي أفضت إلى إبرام صفقة وحدة في نفق ووضعت فيه الجنوب، إنسانا وأرضا، على كف عفاريت النافذين في الشمال لتلحقه بـ»الشمال المنكوب».
نعم يستحق الجنوب استعادة بناء الدولة وليس استعادة سلطة يتناهشها أصحاب السوابق كما يستحق الشمال بناء الدولة، وربما كانت اليمن كلها تستحق بناء دولة اتحادية في إطار إقليمين، على قاعدة التعايش وتبادل المصالح، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه خاصة في ضوء وظل تفاقم عوامل ومؤشرات التشرذم والانقسام والاحتراب على مستوى مراكز القوى والنخب والجماعات المسلحة والميليشيات ومع بقاء ما يسمى «الجيش» كإقطاعيات يتوزعها جنرالات الحرب المتناحرون، ومع دخول المال السياسي من دول الإقليم المتنافسة والمتصارعة على الخط، ومع تفاقم تحدي الجوار وثأر الجغرافيا!
وفي ظل تبلور ما يشبه الكانتونات ومناطق النفوذ الخارجة على السيطرة، وتدفق صفقات الأسلحة من معظم المنافذ البرية والبحرية، وتخالط وتزاوج عناصر الإرهاب بالتهريب، وارتباط الكثير من هذه العناصر المفصلية بزعامات قبلية وإسلاموية وعسكرية «مركزية» تكمن مصلحتها في بقاء الأوضاع على ما هي عليه من تفكك وشلل وعطب لأنها تستثمر في الحرب وتستفيد من عوائد الحروب أكثر من استفادتها من عوامل الاستقرار والسلام، ولا تجد مصلحتها في بناء دولة القانون أكان في الشمال أو الجنوب أو اليمن عموماً.
صنعاء
رئيس تحرير صحيفة “التجمّع”
سردية مطحنة الرؤوس في عدن تترامى إلى: “الشعب يريد”أن يكون بلا شمال؟!
مقالة رائعة بكل المقاييس!