مَنْ الذي اختار دار الأوبرا، بدلاً من جامعة دمشق، مسرحاً لخطاب بشّار ابن حافظ الأسد الأخير؟
الاعتبارات أمنية بالتأكيد، في ظل ظروف يعرفها القاصي والداني. لذا، من المنطقي القول إن المكلفين بحمايته اقترحوا دار الأوبرا، وربما اقترحها بنفسه، أو جاء الاقتراح من بعض أفراد الحاشية، فوجد قبولاً لدى أجهزة الأمن.
ومَنْ الذي اختار العلم السوري خلفية للمسرح وألصق عليه، أو أدخل في نسيجه، وجوه أشخاص قُتلوا في الحرب التي تعيشها سورية منذ اثنين وعشرين شهراً؟
ربما بعض المكلفين بالإعلام، وبعض أفراد الحاشية، أو حتى الرئيس نفسه. عموما كل ما يتعلّق بنص الخطاب، والمدعوين، وأماكن جلوسهم، والديكورات والألوان المقترحة، يخضع لدراسة مسبقة. وهذه كلها في ذهن المعني بالأمر، كما في ذهن المتلقي، علامات تنطوي على رسائل.
في يوم ما سنعرف مَنْ الذي اقترح، ودرس، ونفّذ. ولكن حتى في غياب تفاصيل كهذه، فإن في ما رأيناه ما يُفصح عن دلالات لم تخطر، بالضرورة، على بال صاحب الاقتراح، والمكلّف بالتنفيذ.
فلنأخذ دار الأوبرا: الأوبرا مكان لعرض يقدم فيه الموسيقيون والممثلون عملاً درامياً في إطار مسرحي، وتصحبه أوركسترا، أو فرقة موسيقية صغيرة، ويتبارى فيه كبار المؤدين في أداء نصوص تعتمد على مهارات صوتية خاصة.
وإذا فكرنا في الخطابات الرئاسية باعتبارها عملاً مسرحياً، يمكن دون عناء منح دور قائد الأوركسترا، وكبير المؤدين، للرئيس. فهو الوحيد الذي يملك حق الكلام إذا شرع فيه، ولا يملك أحد حق مقاطعته، أو التعليق عليه، إلا بالتصفيق تعبيراً عن الاستحسان (دليل التفاعل، أي نجاح الصوت في تحريك الأجساد)، وهو الوحيد الذي يمكن أن يعيد مقطعاً بعينه، أو يستفيض في شرحه، أو يعقب عليه، كما أنه الوحيد الذي يعرف متى يبدأ وكيف ينتهي.إنه يفعل ذلك واقفاً، بطبيعة الحال، أمام جمهور من الجالسين.
“لا يوجد تعبير أوضح عن السلطة”، والكلام هنا لإلياس كانيتي، “من أداء قائد الأوركسترا”، فهو الذي يحكم ويحرك كل شيء في لحظة فريدة تدل على تفرّده من ناحية، وعلى سلطته المطلقة على كل من حوله من ناحية ثانية. وإذا أضفنا هذا كله إلى دلالات التفاوت في الحجم والقوّة بين الواقف والجالس، وبين تعالي خشبة المسرح على جمهور الجالسين، وهشاشة المقصورات المعلّقة في الهواء على الجانبين مقابل ثبات الخشبة على أرض صلبة، تكتمل علامات السلطة المطلقة.
وماذا عن العلم ووجوه القتلى؟
تتضافر لحظة السلطة المطلقة مع لحظة أخرى فريدة هي لحظة البقاء. فكل هؤلاء الذين نرى وجوههم منقوشة على العلم (لا نتمكن في الواقع من التدقيق في ملامحهم أو التعرّف عليهم) موتى. وهم، كلهم، أصبحوا تحت التراب، بينما الناجي ما يزال فوق الأرض واقفاً على قدميه. وهذا، في الواقع، يمنحه إحساس خاص بالتفرّد: كلما ازداد عدد الموتى برهنت الأعداد على كفاءة الناجي في البقاء. لذلك، “الموتى هم أقرب رعايا الطاغية إلى قلبه”، والكلام مرّة أخرى لإلياس كانيتي. ولا يهم ما إذا كانوا من جنوده أو من الأعداء.كلما ازدادت مخاوف الطاغية ازدادت حاجته إلى القتل. القتل تمثيل على خشبة مسرح تضيق أو تتسع كلما ضاقت أو اتسعت قبضة الطاغية.
هكذا، إذاً، تختلط لحظتان من لحظات السلطة: دور قائد الأوركسترا، ودور الباقي. الأولى دليلها الصوت، والثانية دليلها الصور (كل هؤلاء ماتوا من أجلي، وما زلت واقفاً). وهذا هو النص الغائب في خطاب دار الأوبرا في دمشق.
لم يكن بشّار ابن حافظ الأسد، من حيث الترتيب، مرشحاً لاستلام السلطة. كان أخوه الأكبر على رأس القائمة، لكن الموت اختاره. وعندما يختار الموت شخصاً دون آخر يشعر الباقي بامتياز من نوع ما، وحتى مع رحيل الموِّرث يشعر الوارث بالفوز في سباق الأعمار، ففي الأمر اصطفاء، وفي الاصطفاء دليل على فرادة وتفرّد، وفي الفرادة والتفرّد دليل على ما لا يقبل التكرار، وفي ما لا يقبل التكرار قدر أعلى من مدارك البشر.
لذلك، يصف ديفيد ليش، الذي نشر كتاباً في أواخر العام الماضي بعنوان “سورية: سقوط آل الأسد” كيف التقى بالرئيس السوري بعد التجديد له بفترة رئاسية ثانية (2007)، ولاحظ ما طرأ على شخصيته من تغيير: فعلي الرغم من حقيقة أن الانتخابات كانت مزيفة، إلا أن الأسد الابن أقنع نفسه بحب السوريين له، وكان دليله الاستفتاء الشعبي، والمظاهرات المؤيدة في ساحة الأمويين، ومناطق أخرى: “أسكرته الدعاية المؤيدة، وبدأ الإحساس لديه أن قدره قيادة سورية” والكلام لليش.
كلام ليش، الذي يعتبر من أبرز المختصين في الشأن السوري، مهم، فقد التقى بالأسد الابن على مدار سنوات تمتد من 2004 إلى 2009 وأجرى معه حوارات طويلة، وكتب كتاباً عنه عقد عليه فيه بعض الآمال. أما الكتاب الجديد فجاء تعبيراً عن خيبة الأمل، وعن النهاية الوشيكة لآل الأسد.
نعود إلى حكاية القدر: الأب المُورِّث كان مقتنعاً بأن القدر اختاره، أيضاً، لقيادة سورية. فقد روى لباتريك سيل (الأسد، الصراع على الشرق الأوسط) ما رأته زوجته في المنام قبل استيلائه على السلطة في دمشق بيومين: رأت أنها تحمل علبة مربّعة الشكل، ونظرت في ثقب فيها فرأت المسجد الأقصى، وعندما استدارت إلى الخلف (وما زلنا في المنام) رأت زوجها، فـأعطته العلبة. وعندما قصت عليه الحلم في الصباح قالت: “إنك لمنتصر على أعدائك، ولسوف تكون أقوى زعيم عربي”. هل روت لابنها حلماً مشابهاً؟
لن يتكلم الطاغية، مَنْ يعتقد بأن القدر اصطفاه، ولا أحد من أنصاره، عن تعبيرات السلطة، على طريقة كانيتي، بل هذه هي العلامات التي ينبغي أن نبحث عنها في العرض الأوبرالي، وما عدا ذلك كلامٌ في كلام.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني