“عندما تستيقظ الصين يرتجف العالم”، هذه المعادلة التي توقعها نابليون الأول، تبدو في طور التحقق من ناحية الصعود الاقتصادي المدوي للصين الشعبية. لكن هذا الاهتزاز في أسس العلاقات الدولية الذي ارتسم إثر الاعتراف الأميركي ببكين في بداية سبعينيات القرن الماضي (التعبير لـ شو آن لاي حسبما ورد في كتاب هنري كيسينجر عن الصين، نيويورك، 2011)، لم يحصل عملياً إلا في السنوات الأخيرة مع انتقال تدريجي للصين من دور القوة الصامتة إلى القوة المؤثرة بعد نجاح ارتباطها بالاقتصاد العالمي.
الصين، أي التنين الأصفر، لم تعد إذاً القوة الناعمة Soft Power كما وصفها البروفسور جوزف ناي في عام 1990. و”القوة الناعمة” تعني قدرة دولة ما على تحقيق أهدافها من خلال عناصر مقنعة وجذابة، وليس عبر الإلزام أو التعسف. ووسائل القوة الناعمة هي الثقافة والاقتصاد والقيم السياسية والسياسات الخارجية.
لتحقيق النجاح في السياسة العالمية ولمواكبة صعودها، ركزت بكين منذ نهاية الحرب الباردة على المرونة والنهوض غير الصدامي. لكن بعد استضافة الألعاب الأولمبية في عام 2008 وبروز تداعيات الأزمة الاقتصادية الدولية، كشّر التنين الأصفر عن أنيابه في أكثر من مكان خصوصاً في محيطه القريب، لكنه تفادى الاقتراب كثيراً من لهيب الشرق الأوسط.
ترتكز الاستراتيجية الصينية على ما تسميه الادبيات الرسنية بالمنطق الدفاعي بوجه توسّع الإمبريالية الأميركية، ولم يقلص التشابك الاقتصادي بين القطبين الخصمين مسافات التنافس السياسي والامني في منطقة آسيا ـ المحيط الهادئ التي أصبحت أولوية أميركية بامتياز.
ويلاحظ المراقب أنه في خضمّ تشكّل النظام الدولي المتعدد الاقطاب، تفرض الصين نفسها، ليس لأنها تمثل خمس الإنسانية فحسب، بل لأن هذا العملاق الآسيوي نجح حيث فشل غريمه الاتحاد السوفياتي المنحلّ، إذ إن تطوير نموذجه الاقتصادي أتاح له نموّاً بالغ السرعة وقدرة تنافسية غير محدودة. وهذه الوقائع الجديدة لم تدفع بالصين الشعبية للبروز كقوة عظمى، بل فضلت لعب دور القوة الصاعدة على قاعدة المساواة مع الآخرين.
وهذا يعني عدم النوم على حرير الغطرسة وفق براغماتية مفرطة تعطي الأولوية للمصلحة الاقتصادية الملموسة على حساب الايديولوجيا. ويسمي الصينيون هذا المنهج بالتفتيش عن التناغم في عودة لجذور الكونفوشيوسية.
بيد أن عناصر الضعف لا تزال موجودة في إمبراطورية الوسط الناهضة. من ناحية التركيبة السكانية أخذت الصين تشيخ ويزداد تحرك سكانها نحو المدن، ما سينعكس على توازنها الاقتصادي. أما الحاجة إلى المواد الأولية والنفط فستزيدان التحديات، ناهيك عن تعاظم مطالب الأقليات والقوميات في التيبيت وغيرها. ولا يمكن إدارة البلاد الشاسعة بشكل سلطوي حصري، من دون الحد الأدنى من الحريات السياسية والدينية.
لكن الحزب الشيوعي الصيني الذي بدأ تحوّله منذ أواخر السبعينيات، سيكون له موعد مع انطلاقة جديدة في الاسابيع القادمة على ابواب المؤتمر الثامن عشر، لنرى كيف ستصمد التجربة أمام إلحاح الاصلاح وطرح العديد من الاصوات الرسمية لتبنّي نموذج سنغافورة الصغيرة، أي الديموقراطية المحدودة من خلال تعددية حزبية تحت السيطرة.
في الأشهر الأخيرة برز الدور الصيني من المحيط الجيوسياسي الصغير: الخلاف مع اليابان، النزاعات حول بحر الصين والمواقف من كوريا الشمالية أو باكستان، إلى القارة الافريقية والشرق الأوسط. إلّا أن الكلام عن ساعة الصين ولحظتها التاريخية يبقى مرتبطاً بتحمّل هذا العملاق لمسؤولياته في موازاة تأمين حاجاته الاقتصادية ولعب دور أكثر نشاطاً في العالم.
مع ازدياد حاجة الصين للطاقة سيتوسّع دورها العالمي، ولن يقتصر، كما اليوم، على الاقتصاد والمحيط الأقرب. لكن لا قيادة أو زعامة لدولة عظمى أو كبرى أو متوسطة من دون الاضطلاع بمسؤولياتها الأخلاقية والسياسية في معالجة الازمات والحوكمة. ومن ينظر إلى أدوار الصين يفاجأ بمنسوب كبير من السلبية والحذر.
في مسارح الشرق الأوسط، كلمة السر المشتركة للمواقف الصينية هي الحذر لحماية المنفعة الاقتصادية. في الملف السوري يبرز الانحياز بشكل مطلق لموسكو. تتبع بكين خط الحياد في المسألة الفلسطينية، خصوصاً مع تنامي شرائها التكنولوجيا المتقدمة من إسرائيل. وفي السودان، سرعان ما تخلّت عن الخرطوم لتراعي مصالحها النفطية في جنوب السودان.
أما بالنسبة لإيران فتلعب الصين على حافة الهاوية، إذ تنخرط في اعمال مجموعة “الخمسة + واحد” لمعالجة الملف النووي الايراني، لكنها لا تزال أحد أهم مشتري النفط الإيراني القلائل مستفيدة من خفض أسعاره بعد العقوبات الاميركية والاوروبية.
وفي الاسبوع الماضي غضبت طهران عند قيام الحكومة الصينية بوَضع يدها على الأموال الإيرانية في شانغهاي ومكاو وهونغ كونغ كضمان للواردات الإيرانية من الصين.
هذه الامثلة تبيّن لنا ان الصين تتمهل ولا تستعجل لعب ادوار كبيرة في ساحات ملتهبة، وما يهمها في الطليعة هو استمرار تدفق الطاقة إليها، مستفيدة من صراعات الآخرين كي تعزز مواقعها.
إلّا أن هذا النهج، غير المتناغم وغير المتماسك، يعوزه الرؤية الشاملة، فمن دون تأدية ادوار ايجابية في حل الازمات في غرب آسيا، ستكون دروب الطاقة نحو الصين مهددة ودورها العالمي الأشمل قيد الدرس.
جامعي وإعلامي لبناني
khattarwahid@yahoo.fr
الجمهورية
القوة الصينية على محكّ نزاعات الشرق الأوسط
الصين ستصبح الاولى عالميا في كل شيئ قريبا