الرواية التي نشرتها جريدة “الفيغارو” الفرنسية اليوم الإثنين، بقلم مراسلها “تييري بورت” تتناقض من عدة نواحٍ مع الرواية المتداولة حول الهجوم الذي أدى إلى مقتل السفير الأميركي “كريستوفر ستيفنز” و٢ من كوماندوس البحرية (“نيفي سيلز”)، وزميل لهم متخصّص بالمعلوماتية.
وحسب الشهادات التي استمع إليها مراسل “الفيغارو”، من مسؤولي كتيبة “درع ليبيا”، الذين تواجدوا في المنطقة طوال الليل، فإن الهجوم الذي تعرّضت له القنصلية وقع على مرحلتين. ففي بداية المساء، شن حوالي ١٠٠ رجل مسلّحين تسليحاً ثقيلاً القنصلية الأميركية، مما أدّى إلى فرار معظم العاملين فيها، وإلى اختناق السفير الأميركي، الذي ظل وحده داخل المبنى.
أما الهجوم الثاني، فلم يجرِ سوى بعد ذلك بساعات، وكان موجّهاً ضد منزل يقع على بعد كيلومتر تقريباً كان الرعايا الأميركيون قد التجأوا إليه. وقد وقع هذا الهجوم الثاني فور وصول مجموعة من “القوات الخاصة” الأميركية من طرابلس من أجل حماية الرعايا المحاصرين. ولكن هذا الفريق تعرّض للهجوم بدوره، الأمر الذي يُظهر مدى شراسة المهاجمين.
أسلحة متطورة
في محيط القنصلية، يؤكد الجيران الأقرب إلى المبني أن ١٠٠ رجل من المتطرّفين الإسلاميين وصلوا الساحة ٨،٣٠ مساءً، وأن رماياتهم بقذائف “إر بي جي” أجبرت قوات الشرطة على مغادرة المكان. ويُفهم من شهود العيان أن الهجمات تمّت على مدة موجات، ويبدو أن الديبلوماسيين الأميركيين اغتنموا فرصة الهدوء بين موجة وأخرى للفرار الى منزل كانت السفارة قد استأجرته كملاذ آمن في حال الخطر. وبعد محاولة أخيرة، وفاشلة، قامت بها “كتيبة ١٧ فبراير” لفك الطوق عن القنصلية، فقد سيطر المتطرّفون على الوضع بصورة نهائية حوالي الساعة ٢٣ ليلاً. أي قبل وقت طويل من عثور الناس العاديين، وبينهم فضوليون ولصوص، على السفير داخل القنصلية بين منتصف الليل والساعة ١ صباحاً.
أما الأحداث اللاحقة، التي لم تُشر إليها بيانات الحكومتين الأميركية والليبية، فتشبه روايات الجاسوسية. فحوالي الساعة ٣ صباحاً، تلقّى أحد قادة “كتيبة درع ليبيا”، “عماد شقبي”، أمراً بالتوجّه إلى مطار بنغازي مع ٢٠ رجلاً. وكانت مهمته هي استقبال ومرافقة ٨ من رجال “المارينز” الاميركيين الذين كانوا وصلوا لتوّهم بالطائرة من طرابلس. “ومنذ تلك اللحظة، ظل رئيس الحكومة يتّصل مرة كل ١٠ دقائق”، حسب أقوال “قيس بن حميد”، شقيق قائد “كتبية درع ليبيا”. وفي البداية، لم يكن الجنود الليبيون يعرفون شيئاً عن مهمتهم. وكانوا يعتقدون أنهم سيتوجّهون إلى مستشفى بنغازي لاسترجاع جثمان السفير. ولكن “المارينز”، الذين كانوا مجهزين بأسلحة متطورة، طلبوا منهم أن يتبعوا مؤشرات جهاز “جي بي إس” كان معهم، الأمر الذي أوصلهم إلى مسافة كيلومتر تقريباً من مبنى القنصلية الذي كانت النيران أتت عليه، أي إلى المنزل الذي التجأ إليه الديبلوماسيون الأميركيون.
وقد أوقف عناصر “درع ليبيا” سيارات “البيك أب” التي جاؤوا بها، وقاموا بتأمين مدخل ومحيط ما يسمونه “المزرعة”: وهي عبارة عن ملكية كبيرة، تبعد قليلاً عن المدينة، وتتألف من عدد من المنازل التي يحيط بها سور. ويضم الشارع المؤدي إلى “المزرعة” منازل أخرى ومركزاً لرياضة ركوب الخيل.
داخل “المزرعة”، شرع “المارينز” بدراسة الوضع. ثم خرجوا من أحد المنازل بعد ١٠ دقائق. وفور خروجهم إلى باحة المنزل، تعرّضوا لرمايات غزيرة كان مصدرها الجوانب التي لم يتم تأمينها من المزرعة المترامية الاطراف.
ويقول القائد “شقبي”: كان عدد المهاجمين ٤ او ٥، وكانوا مجهزين ببنادق تطلق قنابل أو بـ”أر بي جي”. وقد انفجرت أول قذيفة أو قنبلة في الهواء، وأضاءت الباحة. اما رمايات المهاجمين الآخرين فكانت دقيقة. وقُتِل ٢ من “المارينز”، كما جُرِح عضو في “الكتيبة” كان يتولى الترجمة.
ويعتقد “شقبي” أن القائمين بالعملية السريعة والمميتة كانوا مقاتلين يملكون خبرة في القتال، وأن الثوار الليبيين ليسوا قادرين على تنفيذ هذا النوع من العمليات. وهو يلمح إلى قذافيين سابقين أو إلى عسكريين محترفين جاؤوا من خارج ليبيا.
بدأت عملية الإخلاء الساعة ٥،٣٠ صباحاً. وقام رجال “شقبي” بمواكبة ما لا يقل عن ٢٥ أميركياً، بينهم ٣ قتلى (رجلا “المارينز” اللذين قُتِلا على الفور وثالث كان أصيب بجروح في الهجوم الأول على القنصلية ثم أسلم الروح لاحقاً) إلى المطار. وأكمل جنود “درع ليبيا” مهمتهم باستعادة جثة السفير من المستشفى، ونقلها إلى المطار. وكانت الساعة حينئذ ٧ صباحاً. وقد غادرت المطار طائرتان: طائرة أولى حملت رجال
“المارينز” السبعة الذين كانوا جاؤوا من طرابلس ومعهم ٤ قتلى. وطائرة ثانية نقلت ٢٥ أميركياً (موظفون في القنصلية ورعايا آخرون) إلى طرابلس.
والآن، بعد مرور ٦ أيام على الهجوم، تظل هنالك ثغرات في الرواية الرسمية. فواشنطن لم تتحدث إطلاقاً عن “المارينز” الذين أخلوا الرعايا الأميركيين من بنغازي. وأفادت الروايات الرسمية أن الأميركيين الأربعة قُتلوا داخل القنصلية. ولكن القائد “شقبي” يؤكّد أن السفير وحده مات، مختنقاً، داخل القنصلية.
ويتساءل “قيس بن حميد”، وهو شقيق قائد “درع ليبيا”: “كيف حدث أن حرس السفير تركوه وحده؟”
هل مات كريستوفر ستيفنز بسبب ثقته المبالغة أو بسبب شجاعته؟ بعض المصادر قالت أنه أراد الإلتجاء إلى “غرفة محمية” من النوع الموجود داخل جميع السفارات الأميركية. ولكننا لم نعثر على مثل هذه الغرفة في مبنى القنصلية الذي احترق وتعرّض للنهب.
وروى لنا “فهد بكّوش” الذي وصل إلى القنصلية قبل دقائق من منتصف ليل ١١ سبتمبر، ويثبت كلامه بلقطات فيديو، كيف قامت الجموع باستخراج السفير الفاقد للوعي. وتظهر مشاهد الفيديو أنه لم يكن هنالك أي باب يصدّ جموع الفضوليين، وأن كثافة الدخان أجبرتهم على التراجع عدة مرات، إلى أن صرخ أحد الشبان بأن هنالك شخصاً في الداخل.
وحسب الشاهد نفسه، تم استخراج السفير فاقد الوعي حوالي الساعة الواحدة صباحاً. وصاح الرجال مغتبطين، وهم يحملون كريستوفر ستيفنز: “إنه على قيد الحياة”. ولكن أياً منهم لم يكن يعرف شيئاً عن الإسعافات الأولية، كما لم تكن هنالك سيارة إسعاف. وقد وصل السفير إلى المستشفى في الساعة ١،٣٠ صباحاً. ولكن الأطباء لم يفلحوا في إنقاذه.