كل البرامج التي تقدَّم بها مرشحو الرئاسة المصرية عظيمة. كلها تعِد بالوفرة والصحة والتعليم والإسلامية «الوسطية» والقضاء على الفقر وإشراك الشباب والديموقراطية، فضلا عن الريادة؛ كأن الجنة على الأبواب… حتى عمرو موسى وأحمد شفيق، أصحاب الأولوية بـ»الاستقرار»، يتعهدان بكل ذلك وأكثر. هم «محسوبان على نظام الرئيس السابق حسني مبارك»، الذين يعوّلون على أصوات محبِّي الفلول، وأعضاء «حزب الكنبة»، الجالسين في بيوتهم، وأصوات كل الخائبين مما آلت اليه الثورة أو المذعورين من فوضى إختلاط أوراقها أو من صعود الاسلامية السياسية.
لغة «الخبراء» والديبلوماسيين واضحة البصمات في هذه البرامج. يصعب عليك إيجاد ثغرة أو عيب أو زلّة لسان في بنودها الموسّعة. لا تطبيق الشريعة ورد في برنامج عبد المنعم أبو الفتوح، ولا أولوية محاربة أميركا وردت في برنامج حمدين صباحي. ولا بطبيعة الحال الانتساب الى العهد البائد في برامج موسى وشفيق.
لذلك، فان الاطلاع على هذه البرامج لا يغنيك عن قراءة خلفيات المرشحين السياسية، السابقة على عهد الثورة، أو المعاصرة له؛ وهي خلفيات تكاد تتوارى أمام بريق البرامج ووعودها؛ ومع ذلك، وعلى الرغم من تواريها، أو بسببها، عليكَ الأخذ بها، وإلا وقعتَ في خطأ التصنيف. فمثلا، المرشح حمدين صباحي الذي كال المديح للـ»قاعدة» على عملية 11 سبتمبر، لأنه يؤيد كل حرب على أميركا، يكتب عن اميركا في برنامجه، أو كتبه له أحد «الخبراء»: «نسعى لعلاقات ودية-ندية مع أميركا تقوم على أساس المصالح المشتركة وإستقلال القرار، لا على أساس الهيمنة والخضوع. ونحن نختلف مع سياسات إدارتها المنحازة ضد حقوق الأمة العربية ونحترم شعبها ككل الشعوب».
طبعاً، الأمثلة من هذا القبيل لا تنتهي. يمكن تمضية وقت مفيد في المقارنة بين اللغة التي اعتمدتها أهم الشخصيات المرشحة قبل الثورة أو قبل الانتخابات، أو حتى بعض تصريحاتها أو «مفاوضاتها» مع كتل إنتخابية أخرى، وبين لغة برامجها الانتخابية. الهوة بالغة بين اللغتين، والرابح الوحيد بين هؤلاء، صاحب الهوة الأضيق، هو عمرو موسى، الذي نشأ في مدرسة الديبلوماسية، ولا يبدو انه احتاج الى «خبراء» لصياغة لغة برنامجه، إلا ربما لضبط بعض المعاني.
واذا ربطنا بين هذه البرامج وسياقات أصحابها، فضلا عن مسارهم وطبيعة الأدوار التي قاموا بها قبل الثورة، وحاولنا تصنيف اتجاهات أهمهم، فسوف نصل الى ما يعلمه الجميع: من ان حمدين صباحي صاحب ايديولوجية ناصرية، صاحب لقب «سليل جمال عبد الناصر»، تدور في فلكه معظم التوجهات التي ازدهرت في العهد الناصري، من عالمثالثي وماركسي ومعادي لأميركا واسرائيل. وان عبد المنعم أبو الفتوح قيادي إخواني سابق، «أردوغان العرب»، كما يسمّيه الاعلام الغربي، لم يترك الجماعة الإخوانية إلا مؤخرا إثر ترشحه للانتخابات. وفي فلكه سلفيون واخوان وإسلاميون «وسطيون»، بل مجرد متدينين، ناهيك عن معادين جذرياً للجيش، أو ليبراليين يرون بأن المعركة الآن هي بين مدنية العسكر ومدنية الاسلام السياسي. وان عمرو موسى وأحمد شفيق، همم من رجالات دولة العهد المباركي؛ والفرق بين الأول والثاني هو في درجة التمويه، وفي «حنجورية» الأول وصرامة الثاني، ناهيك عن طبيعة الدور الذي لعبه كلاهما في ظل النظام السابق، أو الذي لعبه الأول في «إدارة» الأنظمة العربية عبر جامعتها.
طبعاً سابقة الانتخابات الرئاسية مدوية، كما كانت سابقة محاكمة حسني مبارك، أو سقوطه تحت وطأة التظاهرات السلمية. لكن العبرة أيضاً بالمضمون والخواتيم. نقول ذلك لأن الرئاسيات المصرية لن تؤثر إلا قليلاً على مستقبل مصر المتوسط؛ اذ لا صلاحيات واضحة لرئيس الجمهورية، ولا اتفاق حتى الآن على آلية تحديد هذه الصلاحيات. ربما تكون نتيجة الانتخابات، شخصية الفائز، هي التي تطلق الآلية. لا شيء واضحاً حتى الآن.
ولكن المهم بالنسبة لموضوعنا هو الاتجاهات العامة الثلاثة التي يمثلها مرشحو الرئاسة المصرية. هي كلها إتجاهات تعبّر عن ايديولوجيا أصولية ماضوية. ليس وحده ابو الفتوح في كونه، وبالعمق، داعية يحنّ الى زمن يتصور هو وأخوته في المدرسة الاسلامية ان المسلمين كانوا يجولون فيه العالم الفسيح بأحصنتهم وسيوفهم وعقيدتمهم وخلافتهم؛ إقامة الخلافة الاسلامية وتطبيق الشريعة الاسلامية، الآتيتان بالـ»تدريج»، هم الترسانة الفكرية لأبو الفتوح.
ليس وحده ابو الفتوح النافخ في نار الماضي «الذهبي» وجنّاته، إذن. الصباحي ايضا مثله، ولكن بماض مختلف: ماضي أيام العزّ الناصري عندما كانت تُخاض الحروب ضد الاستعمار والعالم الأول واسرائيل، عندما كانت مصر القائدة الرائدة، عندما كان المصريون ينعمون بموقع خاص في وجدان الامة العربية، يصيغون ضميرها وذوقها. المعلن أو شبه المعلن ان العودة بناصري الى الرئاسة هو الذي سوف يعيدنا الى ذاك «الزمن الجميل»؛ ولكن مع شيء من الترميم، يلخصه الصباحي بصيغة انتخابية أخرى، عبقرية: «أستلهم مبادئ عبد الناصر من دون تكرار تجربته».
المرشح الاخير، عمرو موسى، وهو يتقاسم دوره مع أحمد شفيق، لا يَعِد بأقل من عودة أخرى الى الماضي. ليس في جعبته اللغوية الشيء الكثير يقوله، نظراً لخطورة الدعوة الصريحة الى العودة لمبارك بعد الثورة عليه. ولكن موسى أيضاً يستجيب لنوع من حنين هو وحده، بشخصه، يستطيع تلبيته: الحنين الى ماض قريب جداً، من دون مبارك. هذا الماضي القريب ليس مثل الاسلامي أو الناصري، المشبع بالعزّة والكرامة، هو أكثر تواضعا. انه ماض يريد الاحتماء بنظام مجدَّد قليلا، يكون سداً منيعا ضد الفوضى التي عانى منها المصريون طوال السنة والنيف السابقة، وربما أيضا ضد تطرف إسلامييها وحماسة ثورييها الفائضة، التي تحدّ منهما القوات المسلحة.
طبعاً سوف تقع على الوعد بالديموقراطية في كل مفصل من مفاصل برامج هذه الشخصيات الانتخابية، ومع الديموقراطية، وتصعيد «الشباب» سياسياً، والتعهّد بإشراكهم في المواقع القيادية الخ. ولكن بالمجمل، تلك هي التوجهات الأساسية الثلاثة التي على المصريين الاختيار بينها في الاقتراع لرئيسهم المقبل. وهي كلها توجهات ماضوية، لا يدخل «المستقبل» عضويا في نصها وخطابها، حيث يُعامل كما تعامل «الديموقراطية»، أي بالترداد والإلحاح، ولكن من دون سياقات عضوية. توجهات ما بعد الثورة اذن كلها ماضوية، ولكل اتجاه ماضيه الخاص.
هل هذا ما نأمله من الثورة؟ ان تسقط رأس نظام فرعوني، ثم تعود وتستقر على مواضٍ ومقدسات دينية أو زمنية؟
ان الذي يقترحه مرشحو الرئاسة الأساسيون، أصحاب الحظوظ الأقوى بالفوز، يتنافى تماما مع الآفاق الفكرية
التي فتحتها الثورات العربية. لم يحدثوا ثغرة واحدة في هيكل تفكيرهم القديم السابق على الثورة، لم يتغيروا، أدوارهم وحدها تغيرت. ربما ليست مهمتهم ان يتغيروا. ربما هذا ليس وقتهم، ولا وقت التفكير بالحواجز الفكرية التي هدمتها الثورة. اذ اننا في مرحلة انتقالية؛ ومن طبيعة هذه المراحل الإنكباب على الامور المستعجلة. حسنا… ولكن الثورات عادة، خصوصا اذا كانت شعبية، تكون محمولة على فكرة، أو تنذر بأفكار ثورية، أو لنقل أفكار أو إتجاهات مستقبلية. اما ان يكون كلٌ من الاتجاهات الاساسية يريد العودة الى عصره الذهبي، مع «نكهة» ديموقراطية، كأن الثورة أتت لتؤكد له كم كان على حق، وليس العكس… فهذه من الأمور التي تثير القلق. لا لأن أي ماض محظور على التفكير ما بعد الثوري، بل مرحَّب به أشد ترحيب. ولكن على قاعدة النقد الحقيقي: نقد كافة التجارب التي ينتمي اليها المرشحون، الاسلامية والناصرية والمباركية. من دون هذا النقد، لا ديموقراطية.
والملاحظة المحيّرة، انه، وسط هذه الأصوليات الثلاث، لا نجد أصولية ملَكية. ليس هناك حنين الى العهد الملكي، ولا الى حزب أو إتجاه ملكي… أو ربما هو موجود، ولكن من دون تعبيرات سياسية. مع ان العهد الملكي كان فعلا ذهبيا: كانت مصر أثناءه أكثر ازدهاراً وانفتاحاً وحرية وثراء؛ كانت مصر الملكية دائنة لانكلترا. ومع ذلك، لم تتشكل في الجمهورية المصرية الاولى أصولية ملكية، على غرار الاصوليات الاخرى. فهل تكون الثورة الناصرية التي لم تتمكن لا من اسرائيل ولا من أميركا ولا من الفقر… استطاعت فقط ان تهزم الملكية شرّ هزيمة؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية