اعتمد النظام السوري الحل الأمني كنهج وحيد لتأمين إستمرار هيمنته على السلطة والثروة في البلاد، فإستخدمه في منعطفات هامة وخاصة في مواجهات الثمانينيات وإنتفاضة القامشلي منذ بضع سنوات، وحاول ممارسته ضد ثورة الأرز اللبنانية بأسلوب الإغتيالات للقيادات والمثقفين المعارضين لاستمرار وجوده بلبنان. من المستبعد ان يقبل النظام بحلول سياسية لأية أزمة، إذ يعلم أن في ذلك نهايته المؤكدة، وأية حلول سياسية يجترحها للأزمة تبقى شكلية وتجميلية لترقيع الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري والشعوب المجاورة. أجهزته الأمنية إكتسبت خبرة طويلة نادرة، ويمكن إعتبارها مدرسة في القمع والقتل والإرهاب والإعتقال والتعذيب وترتيب المؤامرات الداخلية والخارجية. أداء المافيا الأميركية في أوائل القرن الماضي متواضع أمامها، التي رغم جبروتها لم تمتلك كما النظام السوري أجهزة تراقب وتوجه كافة أوجه نشاطات المجتمع، وجيش مدجج بأحدث الأسلحة بقيادات معظمها منتقاة من موالين مؤكدين، و”حزب” سياسي ونقابات ومنظمات واجهة وميليشيات وأحزاب تابعة وإعلام موجه .. ، فيما سماه الطيب تيزيني محقاً “الدولة الامنية”.
الثورة كانت الحل الوحيد لشعب إنتهكت حريته وكرامته لعقود، ظل صامتاً وخائفاً خلالها، واجهت نخبه وحيدة ومعزولة عن الشعب بأعداد ضئيلة ولسنين طويلة، الوحش الأمني الذي مزقها دون نتائج تذكر في إحداث أي تغيير، ولكنها زرعت بذوراً للأجيال التالية التي وصلت إلى حد لم يعد ممكناً بعده تحمل الإضطهاد أكثر، بحيث أصبح الشعار “الموت ولا المذلة” التعبير الدقيق عن الحالة التي وصلتها البلاد والتي لم تعد تطاق من الغالبية، وحتى من القطاعات الصامتة لأسباب متعددة. الإصرار على الإستمرار في الثورة حتى الإنتصار يكاد يكون عجائبياً، إذ من النادر أن ثورات تستمر بنفس الزخم مدة طويلة دون حسم من أية جهة، مما يدل على حجم المعاناة والألم.
ما جعل الإستمرار ممكناً ليس فقط الإصرار الشعبي وهو العامل الأهم، الذي يتصاعد مع تصاعد درجات إجرام الأجهزة الامنية، فعوامل أخرى تمكن للإستمرارية، منها أن العالم تغير والديمقراطية أهم ما على جدول أعماله، والدول الإستبدادية تقاتل معركتها الاخيرة. عدم حسم العالم في الأزمة السورية لا يعني أن تدخله بأشكاله المختلفة حتى في مستواه المنخفض حالياً غير مؤثر في إعاقة النظام، ففي حماة الثمانينيات أباد النظام عشرات الآلاف في أيام معدودة مع تجاهل كلي للعالم في ذلك الوقت. كما أنه، من ضمن عوامل أخرى، امتلكت الثورة “أسلحة” لم تكن متوفرة في السابق ومنها وسائل إتصال حديثة، من قنوات فضائية وكاميرات ويوتيوب وإنترنت وغيرها .. مكنتها من إيصال أخبارها ومواقفها، مما لم يكن في حسبان الأجهزة الأمنية العاجزة عن إعادة الصمت للمجتمع السوري وحجب الجرائم التي ترتكبها عن العالم.
المعارضة السورية عانت في أجواء تعزز الفردية والإنعزال من التشتت وقمع النظام الأمني لها وعدم إلتفاف قواعد شعبية حولها، فقد واجهت نظاماً شرساً ولقيت تجاهل من مجتمع خائف وصامت. لكنه في ظروف الإستبداد ليس مستحيلاً إئتلاف المعارضات مما يحتاج لسعي مصمم على تجاوز خلافاتها مؤقتاً إلى أن يتم التخلص من النظام الإستبدادي. المعارضات السورية اختلفت وفق أيديولوجياتها وبرامجها السياسية وإنتمائها القومي والوسائل التي تعتقدها الأفضل للتغيير الديمقراطي.. والسبب الأساسي لفشل توحدها أن معظمها لم يفهم طبيعة الإئتلافات التي تركز لمرحلة على هدف رئيسي واحد وتترك التعارضات حول المسائل الأخرى دون إتفاق بإعتبارها مؤجلة لصالح الهدف المتوافق عليه من الجميع : “الإنتقال بسوريا من النظام الإستبدادي إلى النظام الديمقراطي”، وليس بالتأكيد “التصدي للإمبريالية”، أو تحرير فلسطين والجولان، أو الوحدة العربية، أو أسلمة المجتمع، أو تقرير المصير الكردي، وغير ذلك .. والتي لا ننتقص من قيمتها لأصحابها، لكن ننتظر أن يحسم الخلاف حولها في صناديق الإقتراع القادمة. لا نقول أن توحيد المعارضة هو العامل الحاسم بل عنصر قوة يضاف للعوامل الأخرى التي تجعل إنتصار الثورة ممكناً.
شاركت في الثورة جميع الإثنيات والطوائف وهي بحق ثورة جميع السوريين ونتائجها لصالحهم جميعاً، كما أن تجمعات من جميع الإثنيات والطوائف لا تزال تؤيد النظام لأسباب متعددة، فالإنقسام الأساسي في الثورة ليس طبقياً لكونها تهم جميع الطبقات، وليس طائفياً فالثورة ليست لإستبدال طائفة بأخرى ولكن لإستبدال نظام إستبدادي يستغل الطائفية بنظام ديمقراطي من كل الطوائف والإثنيات بلا تمييز، وإذا كان النظام يسعى لتصوير الصراع على أنه طائفي فذلك لتبرير بقائه وزعمه حماية الأقليات. أما سعي أطراف متشددة ضمن قوى الثورة لجر الصراع إلى نزاع طائفي وحرفه عن هدفه السياسي لنيل الحرية فمن الصعب أن ينجح. الطائفة الأكبر مشاركتها أكبر، والطوائف والإثنيات الأصغر مشاركتها أصغر، ولا يغير شيئاً من طبيعة الثورة الشاملة للجميع فيما لو إستخلصنا نسب مشاركة لكل طائفة أو إثنية، فإن ما يرفع من نسب المشاركة أو يخفضها هو مدى إلتزام الثوار بالهدف الرئيسي المعلن: الحرية لجميع السوريين والدولة الديمقراطية المدنية وليس الدينية أو القومية، والتي إنتماء المواطن فيها لسوريا بالأساس قبل أي انتماء آخر.
المشاركة الكردية رغم تواصلها تتعرض لمحاولة إعاقة من حزب “الإتحاد الديمقراطي” لدوره في التصدي للمتظاهرين الكرد وإرهابه للأحزاب الوطنية الكردية وقمعه الحركة الإحتجاجية السلمية في عفرين وبعض أحياء حلب، بتجاهل أو تسهيل من النظام الذي يرى في مواقف الحزب دعماً له في مواجهة مشاركة كردية كثيفة في الثورة السورية. فمن المعروف أنه فرع لحزب أوجلان الذي كان متعاونا مع النظام أثناء عملياته المسلحة ضد تركيا، ثم تم التخلي عنه في العام 1998عندما فقد دوره في خدمته بعد تحسن علاقات النظام مع تركيا، مما أدى لتسليمها أوجلان، ولمطاردة أنصاره في سوريا وإعتقال من لم يتمكن من الفرار. وإنقلبت الأوضاع بعد الثورة ليعود الحزب للتحالف مع النظام ضد تركيا، وسُمح بعودة قياداته الهاربة لجبال قنديل بعد أن أعلن جناحه الإيراني هدنة مع النظام الإيراني الإستبدادي. ومقابل دوره في كبح الثورة في المناطق السورية الكردية قدمت وعود بتسليمه وحده إدارتها، فنسي العديد من أنصاره تجربتهم السابقة مع نظام لا قيمة لوعوده عندما تنتهي المهمة الموكلة إليهم. الحزب من مخلفات الستالينية التي مارست نظام الحزب الواحد والزعيم الأوحد، ويستغل تاريخه في مقاومة تركيا كما يفعل حزب الله في إستغلال تاريخه في مقاومة إسرائيل قبل العام 2000. وكما يبتز حزب الله الأحزاب اللبنانية المعارضة لسياسته بعودة الحرب الأهلية، كذلك يبتز الحزب الكردي بحرب أهلية بين الكرد السوريين أنفسهم. فيما مصلحة الشعب الكردي وأحزابه الوطنية المشاركة بكل قواهم في الثورة السورية، وقدرهم مواجهة شبيحة النظام والشبيحة الكرد.
سوريا في “أزمة” جراء فشل الطرفين حتى الآن في حسم الصراع بإسقاط النظام أو بإنهاء الثورة، فهي مواجهة “عض أصابع” يخسر فيها من يتألم أولاً، النظام الأمني أو الشعب الثائر. لا أحد يمكنه أن يتنبأ إلى أين تتجه الأمور، ففي الثورات عادة تطورات مفاجئة غير محسوبة، لكنه يمكن وضع إحتمالات قد ينتهي مآل الثورة ضمن إحداها. الإحتمال الأول أن ينهار النظام رغم جبروته الحالي وتماسكه، فأنظمة مماثلة سقطت تحت ضربات الثورة وإنهارات أجهزتها الجبارة في ايام معدودة. الثورة الإيرانية ضد الشاه إستمرت لشهور عديدة وقتل الآلاف بإطلاق الرصاص على مظاهراتها السلمية التي كانت تعود من جديد بزخم أكبر حتى أصبحت مليونية، و”تألم” نظام الشاه السافاكي الأمني أولاً ورحل.
الإحتمال الآخر الذي لا يمكن إستبعاده نجاح النظام الأمني في قمع الثورة في ظل توازن قوى مسلحة لصالحه وإستمرار التدخل الدولي المحدود في الأزمة، والتعب الإنساني للمجتمع الثائر من القصف والقتل والإذلال والنهب والحرق والتهجير الداخلي والخارجي، الذي يمكن فهم عدم المقدرة على تحمله طويلاً، ولكن ذلك إن حصل فلا يعني أن الثورة هزمت، بل أن جولة منها لم تكسب، وأن جولات أخرى ستتوالد بعدها إلى أن يرحل النظام المعاكس للمسيرة الإنسانية. ولا يمكن إستبعاد أحتمال الحل الوسط الذي يسعى إليه المجتمع الدولي والعربي حالياً في ظل محدودية تدخله، من خلال خطة أنان التي فيما لو طبقت ستنتهي بحوار وحل سياسي لا يريده النظام لذلك لم يطبق أي من بنود الخطة، وهذا لا يعنى إستبعاد أن تزداد الضغوط لإجباره على الرضوخ. وبالإضافة لإحتمالات أخرى لا يمكن ترجيح أحدها، من الممكن حدوث تطورات دولية تؤدي لمشاركة خارجية بقوى عسكرية لصالح الثورة ورحيل النظام.
الغرب حالياً يوازن المواجهة المحتملة ويضع بالحسبان إحتمالات تطورها ومدى ملائمة ذلك لمصالح دوله التي هي دائماً أهم من الديمقراطية، التي لم يتخل عن نشرها لأنها في صالحه. ما يفعله الآن عبارة عن تدخل في حدوده الدنيا من عقوبات سياسية وإقتصادية للنظام وقرارات دولية وغيرها. لكنه قد يجد بعد الفشل المتوقع لخطة أنان انه يجب ان يكثف تدخله، أي أن موقفه الراهن ليس نهائياً ويمكن أن يتصاعد مع تطورات قادمة. الذرائع لتبريرعدم تدخل دولي واسع مثل تشتت المعارضة أو الفيتو الروسي والصيني، لا يعني أن الدول الغربية لا تريد تغيير النظام كما يدّعي البعض بحجة سياسته الطويلة لإبقاء جبهة الجولان هادئة، أو للخشية من مجيء نظام إسلام سياسي، فمن الواضح أن الدول الغربية تريد تغييراً للنظام السوري أقوى حلفاء إيران التي أقلقت الغرب بسعيها للحصول على أسلحة نووية ومحاولاتها مد نفوذها لدول الخليج، فسقوط النظام السوري مصلحة للمواجهة الغربية مع إيران في المنطقة، لكن ذلك لا يستدعي آلياً تدخلاً أوسع، إذ أن التدخل العسكري تحكمه عوامل داخلية وخارجية سياسية وإقتصادية وإنتخابية.. والحكومات الغربية رغم ترحيبها برحيل النظام السوري فإنها غير مستعدة لدفع ثمن هذا الرحيل، والذي يختلف عن التدخل في ليبيا، فقد يشعل التدخل المنطقة من طهران إلى لبنان، مما يفترض حشوداً كبيرة لمواجهة مع إيران وحزب الله المرجح تدخلهما، فلن يتركا حليفهما السوري يدمر ليأتي دورهما فيما بعد وحيدين.
النظام القادم في سوريا بعد سقوط السلطة الإستبدادية سيكون نظاماً ديمقراطياً بعد فترة إنتقالية كافية وصوغ دستور ديمقراطي يستوحي الشرائع الدولية، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية المتممة له. لكن الديمقراطية ليست “كبسة زر” تشيع النور فجأة في غرفة مظلمة، بل عملية بناء طويلة وشاقة تشارك فيها قطاعات شعبية واسعة وقوى سياسية على مدى قد يطول، لكن الفارق عن المرحلة السابقة أن سقوط السلطة الأمنية يفتح أبواب التطور الديمقراطي التي حرص النظام الأمني على إبقائها مغلقة لعقود. الذين يأسوا من الثورة عندما رأوا تطورات لا يرتاحون لها في بلدان الربيع العربي هم مخطئون، فالمعاناة للوصول لديمقراطية أفضل تحتاج لجهود الجميع بعد سقوط النظام الإستبدادي ليس أقل منها قبل سقوطه. وإذا كان البعض ممن يفضلون إبعاد الدين عن السياسة قد إستاؤوا من وصول إسلاميين للسلطة، فالصناديق دوارة ومن نجح هذه المرة قد لا تصوت له الأغلبية عندما تكتشف من تجربتها أنه لا يعمل لمصلحتها في بناء دولة مدنية حداثية تعددية وتداولية. فضلاً عن أن الإسلام السياسي نفسه قابل للتطور وقبول نموذج الدولة التركي الذي فصل الدين عن السياسة.
* كاتب من سوريا