ليلة اشتد الصدام و علا صوت القذائف و أزيز الرصاص في العاصمة، ليلة الأحد الفائت دخل “نصير بيك” المستشفى بعدما تعرض لجلطة ونوبة قلبية حادة، لشدة حزنه و غضبه من مشاهد الدمار وتصاعد التوتر الأمني والسياسي في البلد. “البيك” كان مرتبكاً لا بل خائفاً على عائلته الصغيرة تماماً كخوفه على عائلته الأكبر. لبنان، وجع نصير. ربما استشعر بخطر مقبل بذل سنين عمره ليبقي لبنان بمنأ عنه. ربما إسترجع صورة اغتيال معروف سعد بعد اغتيال الشيخين في عكار. يومها، ربما سمع قرع طبول الحرب الأهلية مجدداً فقرر أن يغادر كي لا يكون شاهد زور عليها.
لقد آلم “البيك” مشهد أبناء وطنه يتقاتلون، يتناحرون ويحطمون الحلم الذي لطالما تحدث عنه: لبنان دولة حضارية ديمقراطية حرة ذات سيادة.
الرجل الذي لم يركع إلا لحفيدته “نادية” حين كان يحبي خلفها، لم يخضع للنوبة القلبية ولا للجلطة، ولم تغادر البسمة وجهه السمح حتى وهو في مدخل الطوارئ. مازح الممرض الذي أتى بكرسي متحرك لاصطحابه قائلاً: “”شو شايفني مكرسح”. دخل غرفة المستشفى تمدد على السرير و غاب “البيك.
على مدى ستة أيام تحولت غرفة الإنعاش إلى محج لرفاق الدرب و المحبين، و ما أكثرهم!
خمسون عاماً من النضال لم ينكسر فيها البيك. حتى انه قاوم ملك الموت الذي زاره عشية اليوم السادس وأبى أن يستسلم له إلا بشروطه، واستبقاه حتى صباح اليوم السابع لتدخل عليه “نور” ابنته. تكلمه وهي تعرف أنه مغادر علها تستقي منه جرعة الحنان الأخيرة. وما كان “للبيك” الحنون أن يخيب ظنها. انتظر حتى تمسك بيده وتشد عليها.. ورحل..
رحل القلب الأطيب الذي عرفت.
رحل الرجل الذي كنت افتخر حين أقول إنه ابي الثاني.
رحل عمو نصير دون أن يسمح لي أن أناديه “بيك”.
باكراً رحل نصير، إلا أنه أودعني شرف الانتماء لعائلته الصغيرة، و علمني الكثير الكثير في الوقت القليل الذي امضيته برفقته.
فلترقد بسلام نصير بيك، وادعِ لنا و احمنا وارشدنا من حيث أنت..
m.chreyteh@gmail.com
كاتب لبناني